إيران والقضية الفلسطينية.. الوعود المعسولة

ترفع شعار «تحرير فلسطين» منذ الخميني.. وتحارب في العراق وسوريا واليمن

الخميني ...عرفات
الخميني ...عرفات
TT

إيران والقضية الفلسطينية.. الوعود المعسولة

الخميني ...عرفات
الخميني ...عرفات

لم يصل أي مسؤول «أجنبي» إلى إيران بعد الثورة التي قام بها الخميني عام 1979 قبل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي آمن آنذاك بأن الثورة الفلسطينية راحت تتمدد في إيران كذلك، قبل أن يكتشف أن الأمر لم يعدُ كونه شهر عسل خداعا.
ويذكر أصحاب عرفات الذي كان معروفا بسرعة البديهة والدهاء، أنه تفاجأ من طلب الخميني أثناء لقائه في إيران مترجما للفارسية رغم أنه يعرف العربية جيدا، وقوله في مجالس مغلقة بعد ذلك متندرا حول «الثورة الإسلامية التي لا تتحدث العربية» وإنما فقط الفارسية.
كان عرفات الذي قاد الفلسطينيين لعقود طويلة يريد لهذه العلاقة أن تستمر، لكن سرعان ما حسمها الإيرانيون مع بداية الحرب العراقية الإيرانية إذ طلبوا من عرفات موقفا مؤيدا ومناهضا ومعلنا وعمليا من الرئيس العراقي صدام حسين والعرب، لكنه بعد عدة وساطات ومحاولات لتجاوز أمر الحرب برمته، اختار الانحياز لعروبته، ولم ترَ العلاقة منذ ذلك الوقت خيرا قط، بل دخلت في علاقة مواجهة كبيرة ومحاولات استئثار بالقرار وفرض أجندات وإحداث انشقاقات مع وقف كل دعم مالي أو عسكري ممكن، وهذا ما انسحب لاحقا على كل علاقة إيرانية فلسطينية بغض النظر عن الجهات التي تعامل معها الإيرانيون، منظمة التحرير أو الفصائل الإسلامية أو مجموعات عسكرية صغيرة.
في حقيقة الأمر أن كل دعم كان مسيسا ومشروطا وغير مستمر.
الدعم المشروط
تقول إيران بأنها تقدم دعما غير محدود وغير مشروط لكل فصائل المقاومة الفلسطينية، وتطرح ذلك منذ سنوات طويلة متباهية بتشكيل محور «الممانعة والمقاومة» الذي كان يضم إلى جانبها وسوريا كذلك، ما يسمى «حزب الله» اللبناني وحماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين، لكن تطورات كثيرة وأحداث ومنعرجات حادة في المنطقة، كشفت إلى حد كبير كيف أن دعم الفصائل المقاومة وكان حقيقيا وكبيرا في فترات متفاوتة، توقف تماما عن حماس التي لم توقع اتفاق سلام مع إسرائيل وما زالت تنادي بالتحرير، وتقطع مع الجهاد الإسلامي التي أيدت بخلاف حماس النظام السوري الذي تحارب من أجله إيران، بسبب «الثمن المطلوب».
ومع عودة قليلة إلى الوراء يتضح بشكل جلي أسباب دعم إيران للفصائل الفلسطينية إذا ما عرفنا لماذا توقف ذلك. ليس هناك أفضل من أن يتحدث زعيم حماس خالد مشعل عن الدعم الإيراني. وقال مشعل، في مارس (آذار) الماضي فقط، إن الأزمة بين حماس والرئيس السوري بشار الأسد أثرت على العلاقة مع إيران، والتي ردَّت بمراجعة الدعم المالي للحركة بشكل كبير، مضيفا: «طهران خفّضت دعمها للحركة بعد أن كانت أحد الداعمين الأساسيين لها، إنها اليوم ليست داعمًا رئيسيًا».
مشعل أوضح أن هناك حالة من الجمود في العلاقة مع إيران، لافتًا في ذات الوقت إلى أنها لم تصل إلى حالة القطيعة الكاملة، مع إبقاء حالة التواصل معها من خلال إرسال الوفود لطهران بين الحين والآخر. ويتضح من حديث مشعل أن إيران كانت تريد من حماس دعم الرئيس بشار الأسد ضد الثورة التي اندلعت في مارس 2011. لكن رفض حماس ذلك كلفها خسارة الدعم المالي الإيراني. لكن بحسب مصادر لـ«الشرق الأوسط» لم تستسلم إيران، بل اتجهت إلى استمالة «بعض حماس».
وقالت المصادر بأن الإيرانيين عمدوا إلى تقديم دعم محدود للجناح المسلح لحماس كتائب القسام في محاولة لتحريضه على المكتب السياسي.
وبحسب المصادر نجحت إيران على الأقل في خلق جدل داخل الحركة حول المحاور. وربما ظهر ذلك الجدل جليا في تطنيش قائد حماس خالد مشعل لأي دور إيراني في دعم الحركة في حرب 2012 مشيدا بأدوار أخرى، قبل أن يظهر القيادي الحمساوي المقرب من كتائب القسام محمود الزهار ليرد بطريقته رافعا سلاحه وسط غزة ومجاهرا بالقول: إنه سلاح إيراني.
بل زاد الزهار بقوله: إن الصواريخ التي أطلقتها كتائب القسام باتجاه إسرائيل في الحرب الأخيرة على غزة، كانت «إيرانية بأيدٍ فلسطينية». وذهب إلى حد القول: «إن إيران لم تطلب من حركته، أي مقابل، بدلا للدعم، على أن تذهب هذه الصواريخ فقط لتحرير فلسطين». آنذاك كان هذا أول تصريح مسؤول من نوعه داخل حماس، منذ سنوات يتحدث عن إمدادها من قبل إيران بالصواريخ، بعدما عمد آخرون لتطنيش هذا الدور في مؤشر على الصراع داخل حماس حول العلاقة مع إيران، وهو صراع يمكن القول: إنه مستمر بفعل سياسة «السيطرة» التي تحاول أن تمارسها إيران، وهي نفس السياسة التي استخدمتها مع الرئيس الراحل ياسر عرفات.
ويذكر الفلسطينيون كيف أن إيران لم تحرك ساكنا لنجدة عرفات المحاصر في بيروت عام 1982. بل ذهبت ميليشيات شيعية بعد ذلك تابعة لأمل التي بايعت الخميني لارتكاب مجازر في المخيمات الفلسطينية، قبل أن يساعد النظام السوري على حدوث أكبر انشقاق في حركة فتح برئاسة أبو موسى الذي انشق عن الحركة وشكل ما عرف لاحقا بفتح الانتفاضة واستقر في سوريا من دون أن يكون له تأثير يذكر في السياسة الفلسطينية، مثلما ساعد على حدوث انشقاقات أخرى في الفصائل المنضوية تحت إطار منظمة التحرير.
ولعل هذا التاريخ هو أحد أهم الأسباب التي تدعو السلطة الفلسطينية اليوم للتأكيد في كل مرة تحشر فيها إيران أنفها في الشأن الفلسطيني أنها لن تسمح لها بشق الصف الفلسطيني. وتتهم السلطة إيران أصلا بتعميق الانقسام عبر دعم حماس في غزة إبان انقلابها عام 2007.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري أن إيران مثل كل دولة أخرى لها مصالح محددة، لكن الفلسطينيين أعطوها طريقا أكثر من غيرهم لتأخذهم «بالمفرق» لأنهم ليسوا موحدين. وقال المصري «لو لم نكن مقسمين لكنا نأخذ من مواقف إيران ما يتقاطع مع مصالحنا ونرفض أي مطامع أخرى». ومن وجهة نظر المصري فإنه يجب أن لا يحسب الفلسطينيون أنفسهم على محور ضد آخر وأن يعملوا من أجل كسب كل الأطراف.
لكن حتى الذين حاولوا ذلك لم ينجحوا.
لم تكتف إيران بالعلاقات الجيدة المتبادلة مع الأطراف الفلسطينية، ومثلما طلبت من عرفات موقفا ضد العراق وطلبت من حماس موقفا مع بشار الأسد، طلبت من الجهاد الإسلامي موقفا واضحا من الحرب في اليمن وهو نفس الطلب الذي قدم لحماس من أجل استئناف العلاقات. وحاولت إيران مع بداية العام الحالي استقطاب حماس من جديد، إلى جانب حلفائها المركزيين في المنطقة كالنظام السوري وما يسمى «حزب الله» اللبناني في مواجهة السعودية.
وكشفت «الشرق الأوسط» سابقا عن اجتماع عقد في الرابع من يناير (كانون الثاني) بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مع ممثل حماس في طهران خالد القدومي للبحث في علاقات الجانبين إذ عرض ظريف على القدومي أن تقوم حماس بإعلان موقف سياسي رسمي ضد السعودية بعد إعلانها قطع كافة العلاقات مع طهران مقابل أن تقوم الأخيرة بتلبية مطالب حماس كافة ومنها الدعم المالي الثابت والدائم. ووجه ظريف عبر القدومي رسالة إلى رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل يشرح فيها ظروف العلاقة مع السعودية بعد التدهور الحاصل وما يجري في المنطقة وتأثيره على القضية الفلسطينية وضرورة اصطفاف الحركة التي تؤثر في المواقف الفلسطينية الداخلية إلى جانب إيران باعتبارها الدولة الوحيدة التي تقف في وجه إسرائيل. لكن حماس رفضت.
وبعد عدة اجتماعات حسمت حركة حماس موقفها نهائيا بشأن العرض الإيراني وقررت رفضه عبر طريقة عدم إبداء الرأي. وقال أحد مسؤولي الحركة من الضفة الغربية لـ«الشرق الأوسط» بأن «المعادلة معقدة، نحن كحركة تحرر نتطلع إلى دعم الجميع لكننا أبدا لن نكون في أي تحالف ضد الشعوب أو ضد العالم السني».
وهذا هو الموقف الذي انطلقت منه كذلك حركة الجهاد الإسلامي التي استأنفت علاقتها مع إيران في مايو (أيار) الماضي لكن بعد شهور طويلة عجاف. وكانت إيران مع بدء عاصفة الحزم في اليمن تتطلع إلى موقف فلسطيني مناهض للحملة ضد الحوثيين، وطلبوا من الجهاد تصدير موقف بذلك مشابه لموقف ما يسمى «حزب الله»، لكن حركة الجهاد رفضت، وأكدت بشدة عدم التدخل في شؤون أي بلد عربي، وهو الموقف الذي فاجأ الإيرانيين الذين كانوا يعتقدون أنه يمكن للجهاد أن تقف إلى جانبها في كل شيء، على غرار الموقف الذي اتخذته الحركة من الأزمة السورية. وردت إيران بقطع الدعم المالي عن الجهاد التي لم تتمكن لشهور من دفع رواتب عناصرها قبل أن تعود إيران وتستأنف العلاقة بسبب أنها بحاجة دائما إلى موطئ قدم.
موطئ قدم
لم تتوقف محاولات إيران استقطاب الفلسطينيين على الفصائل الكبيرة فتح وحماس والجهاد، بل سعت حتى لتجنيد مجموعات مسلحة لها في غزة والضفة الغربية كانت ترسلم لهم الدعم مقابل تنفيذ عمليات على ما كشف لـ«الشرق الأوسط» أحد المسؤولين العسكريين لأحد الأجنحة في غزة ورفض ذكر اسمه. وحاولت إيران تشكيل فصائل بأسماء تدل على الأصول الشيعية، مثل جماعات عماد مغنية وما يسمى «حزب الله» الفلسطيني، وغيرها.
وقبل سنوات طويلة أقر سالم ثابت وهو أحد أبرز المسؤولين الميدانيين الذين عملوا ضد إسرائيل في غزة أنه يتلقى دعما مما يسمى «حزب الله» وحين سألته «الشرق الأوسط» آنذاك عن طبيعة هذه العلاقة، قال خلافا لغيره من المقربين لما يسمى «حزب الله»: «إنها علاقة تنظيمية». وقال مصدر بأن مثل هذا الدعم متواصل لبعض الفصائل الصغيرة في غزة حتى الآن.
أما أبرز المحاولات الإيرانية في غزة خلال سنوات ماضية، فهو تشكيل حركة متشيعة هي حركة الصابرين التي أصبحت ممثلا شبه رسمي لطهران.
وظهرت الصابرين التي تدعمها وتوجهها إيران في قطاع غزة منذ نحو 3 أعوام، ويتهمها مسلمون سنيون في غزة بأنها تتبنى «النهج الشيعي». وظهر الدعم الإيراني واضحا على الحركة الجديدة من خلال قدرتها على دفع رواتب موظفيها. لكن حماس مع سوء العلاقة أكثر مع طهران وغضب سني كبير اضطرت إلى إغلاق الجمعية التي أسسها القيادي المعروف في غزة هشام سالم الذي يوصف بأنه رجل إيران الأول في القطاع وكان أسس جناحا عسكريا ما زال موجودا وحاول تأسيس مثل هذا الجناح في الضفة الغربية وفشل.
الذي لم تفهمه إيران
إن المنطلقات التي أخذتها حركة حماس بالحسبان، وأهمها انتماؤها إلى العالم السني، قريبة إلى حد كبير لمنطلقات عرفات الذي أخذها بالحسبان سابقا، وهو انتماؤه إلى العالم العربي، مع فارق المسميات، وهذا جعل الطريق مع إيران أقصر بكثير. وقالت مصادر في حركة حماس لـ«الشرق الأوسط» بأن خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة هو الذي رفض العرض الإيراني ويرفض كذلك التقرب من إيران في ظل هذه الظروف خشية أن يفسر أي تقارب كأنه دعم لإيران في أزمتها ضد السعودية أو في ملفات أخرى في سوريا وغيرها. وبحسب المصادر فإن هناك شبه إجماع داخل حماس في هذا الوقت بعدم التورط في أي تحالفات مع إيران حتى لا تخسر الحركة قاعدتها السنية في المنطقة ولأن تجربتها السابقة مع إيران تثير الكثير من القلق.
وأخذت حماس بالحسبان إضافة إلى الخوف من خذلان إيران، إمكانية التقارب أكثر مع الدول السنية المؤثرة في المنطقة، ولأنها تقيم الآن في دولة خليجية، ولها مصالح كبيرة مع جهات غير رسمية في الدول الخليجية والسنية، إضافة إلى العلاقة القوية مع تركيا التي تعد أكثر الجهات دعما سياسيا لحماس وقد وقفت (تركيا) إلى جانب الموقف السني في مواجهة إيران، ناهيك بالانتقادات الكبيرة التي تلقتها الحركة من جماعة الإخوان المسلمين مؤخرا وهي الجماعة الأم لحماس بسبب مؤشرات تقارب مع إيران وما يسمى «حزب الله».
وحقيقة الأمر أن كل محاولات إيران وحماس في السنوات الأخيرة، لتقريب وجهات النظر قوبلت بغضب في القاعدة الحمساوية والسنية المساندة لحماس، ليس بسبب القضية الفلسطينية مطلقا، بل بسبب دور إيران في المنطقة. إذ لم تسلم حماس من انتقادات كبيرة من التنظيم الأم (الإخوان المسلمين) على سبيل المثال مع كل لمحة «غزل» لإيران. واختبرت حماس رد فعل الإخوان وعناصرها كذلك على أي تقارب مع إيران من خلال مواقف مختلفة من بينها رسالة تعزية في مقتل سمير القنطار في سوريا في غارة إسرائيلية.
وكانت قيادة حماس والقسام أرسلوا معزين إلى نصر الله، ما أثار جدلا واسعا في صفوف المنتمين للحركة وكذلك ناشطين بارزين في جماعة الإخوان المسلمين. ووصف ياسر الزعاترة، وهو محلل سياسي من الإخوان المسلمين، بيان النعي من القسام بأنه «بالغ في مدح القنطار»، وأنه «موقف سخيف ويستحق الإدانة». داعيا حماس لعدم الإساءة لنفسها. وكتب الزعاترة «إلى حماس وكتائب القسام: لا تكونوا عبئا على محبيكم، إيران تشن عدوانا على الأمة، وأي موقف مجامل لها مهما كان يسيء لكم، والأمة غير الأنظمة».
فيما كتب الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين في سوريا عمر مشوح: «ندين إدانة حماس لمقتل القيادي بـ(حزب الله) سمير القنطار، لأننا نعتبر هذا القاتل وحزبه والغا بدماء السوريين وشريكا للنظام في إجرامه». وفورا انتقل الجدل إلى صفوف عناصر حماس نفسها، وكتب براء ريان، وهو نجل القيادي في حماس، نزار ريان، الذي اغتيل في حرب 2008 - 2009 في غزة، منتقدا بيان القسام «تخيلوا لو أن طائرة (إف 16 أميركية) قصفت خليفة (داعش)، تُرى هل ستنعونه وتزفونه شهيدًا وتقومون بواجبه.. علما بأنه أسير سابق في سجون الاحتلال الأميركي». وهذا الجدل حول دور إيران في المنطقة هو جدل مستمر ولن يتوقف على الرغم من أن مكالمة مسربة يفترض أنها وضعت الحد للكثير منه.
المكالمة المحرجة
في نهاية يناير (كانون الثاني) تسرب تسجيل لمكالمة حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها ونشرتها لنائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق، يهاجم فيها إيران بشدة وينفي تصريحات إيرانية بأنها تقدم الدعم للمقاومة الفلسطينية خاصة منذ عام 2009. ويسمع في المقطع الصوتي أبو مرزوق وهو يتحدث إلى أحد الأشخاص معقبا على تصريحات إيرانية حول دعم المقاومة ويتحدث عن دور إيراني سيئ في اليمن.
ويعلق أبو مرزوق على بداية التسجيل على العلاقات الإيرانية - الروسية بالقول: «الآن صحيح في الوقت الحاضر بحاولوا يعملوا اتفاقيات وحلف مع الروس وهذا كله دهاء من الإيرانيين ونحن ضحايا لهذا الدهاء». وتحدث القيادي في حماس للشخصية الأخرى بالقول عن دعم حماس «القصة ليست قصة كما يذكرون وهدول من أكثر الناس باطنية وتلاعبا بالألفاظ وحذرا بالسياسة.. من 2009 تقريبا ما وصل منهم أي شيء، وكل الكلام اللي بقولوه كذب وكل اللي بيصل لحبايبنا لم يكن من قبلهم، جزء من طرف صديق وأطراف أخرى بسبب الأوضاع في المنطقة وكله بجهد الأنفس جمعناه وبعتنا، ولم يقدموا شيء في هذا المجال وكل ما يقولونه كذب».
وأشار أبو مرزوق إلى أن إيران كانت كلما يجري حديث معها عن الدعم تشترط ذلك بتدخل حماس لتحسين علاقات طهران مع دول مثل دولة السودان وغيرها، معتبرا ذلك جزءا من العقاب وواصفا إياهم بالقول: «هم مكذبة وفاتحينها بهذا المجال». وأشار لما وصفها بأكاذيب الإيرانيين، حول إرسال السفن للمقاومة في غزة بالقول: «من 2011 كل سفينة بضيع منهم بقولوا كانت رايحة الكم، في سفينة ضاعت بنيجيريا قالوا الكم رايحة، قلتلهم هو احنا فش ولا سفينة بتغلط وبتيجينا كل السفن اللي بتنمسك هي إلنا».
وأضاف: «ياريت يكونوا مخلصين مثل ما بقولوا للناس، بعتبرونا خوارج، من 1400 قرن بتصفوا بالدهاء والتورية والباطنية وليسوا بهذه الدرجة من السهولة»، مشيرا إلى ما افتعلوه من أحداث في اليمن، مضيفا: «هلكوا العباد بسبب أحاديثهم الباطنية وطريقة تعاملهم مع الناس». وهذا الموقف غير المعلن لحماس هو تقريبا نفس الموقف غير المعلن للمستوى الرسمي الفلسطيني، وهو ما يفسر لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس بزعيمة المعارضة الإيرانية مريم رجوي في باريس في أغسطس (آب) الماضي، وهو اللقاء الذي شن معه مسؤولون إيرانيون هجوما غير مسبوق على عباس واصفين إياه بشتى الأوصاف. لكن كيف ردت حركة فتح؟
الموقف الرسمي الفلسطيني
الرد الفتحاوي اختصر الكثير من تاريخ العلاقة وكيف تنظر لها فتح الحاكمة. وقالت فتح بأن تصريحات الإيرانيين بحق عباس تعد «انعكاسًا لمفاهيم الخيانة والباطنية الناظمة لسياسة القائمين بأدوار تخريب وتدمير وشق الصف الفلسطيني». وأضافت: «بعد قراءة دقيقة لتصريحات مستشار وزير الخارجية الإيراني المسيئة للرئيس القائد العام، يثبت لنا فظاعة دور القائمين على خدمة المشروع الصهيوني بحملاتهم المنظمة على رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة تحرره الوطنية، وعلى القضية الفلسطينية». وقالت: إن إيران سعت على الدوام إلى «تدمير وتخريب الصف الفلسطيني، وتعميق الانقسام»، وإن المسؤولين الإيرانيين «اغتالوا قيم الوفاء لحركة فتح التي احتضنت الثورة الإيرانية، ومدتها بكل وسائل الدعم المادي والعسكري والمالي، وفتحت قواعدها للثوار».
هذا الموقف الفتحاوي يفسر لماذا تبدو العلاقة الإيرانية الفلسطينية الرسمية في أسوأ أحوالها منذ عقود وستستمر حتى وقت ليس قريبا. لكن ما زال لا يمانع الفلسطينيون أن ينضموا لأي من الفيالق الإيرانية إذا ما تقدمت نحو القدس.



4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
TT

4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)

192 يوماً فصلت بين اللقاء الأخير الذي جمع المرشد الإيراني علي خامنئي بالرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في طهران، وسقوط النظام السابق بيد المعارضة. هذا الفاصل الزمني لم يكن تفصيلاً عابراً في روزنامة الحرب السورية، بل تحول إلى مرآة حادة داخل طهران عكست حجم الرهان الذي وضعته القيادة الإيرانية على شخص الأسد، وكشفت عن حدود قدرتها على استشراف مسار الصراع وتحولات ميزان القوى في الإقليم.

في ذلك اللقاء، قدم خامنئي خلاصة «عقيدته» السورية على ضوء المستجدات في ساحات «محور المقاومة». فـسوريا، في نظره، ليست دولة عادية، بل صاحبة «مكانة خاصة»؛ لأن هويتها - كما رأى - تتشكل من دورها في هذا المحور.

ولأن «المقاومة هي الهوية المميزة لسوريا وينبغي الحفاظ على هذه السمة»، خاطب خامنئي الأسد بوصفه شريكاً في هذه الهوية لا مجرد حليف سياسي، وأثنى على عبارتيه: «كلفة المقاومة أقل من كلفة المساومة»، و«كلما تراجعنا تقدم الطرف المقابل». هكذا ثبّت خامنئي رهانه الكامل والمتأخر في الوقت نفسه على بقاء النظام، في لحظة كانت مؤشرات الانهيار فيها تتراكم بوضوح في الميدان، كما أقر بذلك لاحقاً بعض المسؤولين الإيرانيين.

بعد أقل من سبعة أشهر، كان النظام قد سقط، لكن سقوط نظام بشار الأسد لم ينتج رواية إيرانية واحدة، بل عدة روايات متوازية: رواية المرشد، ورواية «الحرس الثوري»، ورواية جهاز السياسة الخارجية، إلى جانب أصوات من داخل النظام نفسه عادت إلى الواجهة لتطرح أسئلة صريحة عن كلفة المغامرة الإيرانية في سوريا.

في أول خطاب له بعد سقوط الأسد، قدم خامنئي تفسيراً حاداً لما جرى، عارضاً الحدث بوصفه «نتاج مخطط مشترك أميركي - صهيوني» بمساندة بعض الدول المجاورة. وتحدث عن عوامل - قال إنها منعت طهران من تقديم المساندة المطلوبة - من بينها الضربات الإسرائيلية والأميركية على الأراضي السورية، وإغلاق الممرات الجوية والبرية أمام الإمداد الإيراني، ثم خلص إلى أن الخلل الحاسم وقع داخل سوريا نفسها، حين ضعفت «روح المقاومة» في مؤسساتها. وشدد على أن سقوط النظام لا يعني سقوط فكرة «المقاومة»، متوقعاً أن «ينهض الشباب السوري الغيور» يوماً ما لإعادة إنتاجها بصيغة جديدة.

هذه الرواية تنفي عملياً مفهوم «الهزيمة الاستراتيجية»؛ فما جرى بالنسبة لخامنئي، ليس نهاية المعركة، بل مرحلة قاسية في مسار أطول، ولذلك يصر على أن «الوضع لن يبقى على حاله».

رواية «الحرس الثوري»

في المقابل، بدا «الحرس الثوري» أقرب إلى لغة الأمن القومي منه إلى لغة العقيدة الخالصة، وإن استعان بالقاموس الآيديولوجي نفسه. في فبراير (شباط) 2013، صاغ مهدي طائب، رئيس «مقر عمار» المكلَّف بـ«الحرب الناعمة»، المعادلة بأوضح ما يكون: «سوريا هي بالنسبة لنا المحافظة الخامسة والثلاثون، وهي ذات أهمية استراتيجية. وإذا شنّ العدو هجوماً وحاول الاستيلاء على سوريا أو خوزستان (الأحواز)، فإن الأولوية لدينا ستكون الإبقاء على سوريا».

بهذه الجملة الصادمة داخلياً، رُفعت سوريا عملياً إلى مرتبة جزء من الجغرافيا الأمنية الإيرانية، يتقدّم أحياناً على أجزاء من التراب الإيراني نفسه.

وكان اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لـ«فيلق القدس»، هو المهندس الميداني لهذه المقاربة: مواجهة التهديدات خارج الحدود، عبر بناء شبكات من الميليشيات المتعددة الجنسية، وتحويل «حماية العتبات والأماكن المقدسة» إلى شعار تعبوي يغطي في آن واحد الدوافع الآيديولوجية وحسابات الأمن القومي.

وفي خطاب الذكرى الخامسة لمقتل سليماني، بعد أقل من شهر على سقوط الأسد، أعاد خامنئي تثبيت هذه المدرسة؛ فربط بين حماية العتبات في دمشق والعراق وبين حماية «إيران بوصفها حرماً» نفسها، في محاولة لتوحيد كل هذه الساحات ضمن إطار واحد: صراع أمني - مذهبي عابر للحدود.

بعد سقوط النظام السوري، حافظت هذه الرواية على جوهرها: النجاح أو الفشل لا يُقاس بهوية من يجلس في قصر الشعب في دمشق، بل بما إذا كانت شبكات النفوذ التي نسجها الحرس ما زالت قابلة للحياة، وبما إذا كان «العمق السوري» ما زال مفتوحاً أمام النفاذ الإيراني. الانسحاب الكامل من سوريا يعني، وفق هذا المنطق، الاعتراف بأن «المحافظة الخامسة والثلاثين» سقطت من الخريطة؛ لذلك سيظل «الحرس» يبحث عن طرق لإبقاء موطئ قدم (مهما كان ضيقاً) في الجغرافيا السورية.

شيباني يلتقي عراقجي بعد تعيينه مبعوثاً خاصاً بسوريا بعد شهر من الإطاحة بالأسد يناير 2025 (الخارجية الإيرانية)

رواية الجهاز الدبلوماسي

حاول جهاز السياسة الخارجية تقديم قصة أكثر نعومة للداخل والخارج. قبل السقوط بأسابيع، أوفد خامنئي مستشاره الخاص علي لاريجاني إلى دمشق وبيروت، حاملاً رسائل سياسية تطمينية إلى بشار الأسد وحلفاء آخرين. تحدث لاريجاني علناً عن أن ما يجري في سوريا ولبنان «يتصل مباشرة بالأمن القومي الإيراني»، وكأن طهران ما زالت قادرة على ضبط التوازنات.

بعده بأيام، زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دمشق قبل ستة أيام فقط من الانهيار، واختار أن يلتقط صورة وهو يتناول الشاورما في أحد مطاعم العاصمة، في إشارة مقصودة إلى أن «الوضع طبيعي»، وأن الحديث عن انهيار وشيك جزء من «الحرب النفسية». كان ذلك ذروة الفجوة بين الصورة التي تحاول الدبلوماسية تسويقها والواقع المتفكك على الأرض.

بعد السقوط، لجأت الخارجية إلى صيغة دفاعية مألوفة: إيران «استجابت لطلب حكومة حليفة، وقدّمت المشورة والدعم»، لكنها «لا تستطيع أن تقرر نيابة عن الشعوب». هكذا خففت مسؤولية القرار عن كاهل الدبلوماسية، وأُحيل الجزء الأكبر من الفشل إلى الداخل السوري و«التآمر الخارجي» الذي يتكرر في خطابات خامنئي. هذه الرواية تكشف عن قراءة تعد سوريا ملفاً من بين ملفات، لا ساحة وجودية كتلك التي يراها «الحرس الثوري» والمرشد.

من الناحية الجيوسياسية، كانت سوريا بالنسبة لطهران أكثر من حليف؛ كانت ممراً إلى لبنان وفلسطين، وساحة اشتباك مع إسرائيل، وخط دفاع متقدماً في مواجهة الولايات المتحدة. وتلخص عبارة مهدي طائب في 2013 - «إذا اضطررنا للاختيار فإن الأولوية تكون لحماية سوريا قبل خوزستان» - هذه العقيدة بوضوح.

اليوم، مع سقوط النظام الذي ارتبط بهذه العقيدة، تواجه إيران فراغاً في عمقها الإقليمي لا يمكن ملؤه بالشعارات وحدها. وهنا يصبح السؤال المركزي: كيف تتصرف طهران بعد أن فقدت النسخة التي صاغتها لنفسها من «خيمة المقاومة» في دمشق؟ الإجابة لا تأتي من خطاب واحد، بل من موازنة بين دوافع آيديولوجية راسخة، وقيود اقتصادية خانقة، وموازين قوى ميدانية لم تعد تميل لها كما في السابق.

ملصق نشره موقع المرشد الإيراني بعد آخر زيارة للأسد إلى طهران بينما كانت دمشق تتعرض إلى انتقادات بسبب تخليها عن «حزب الله»

رواية «الحساب المفتوح»

الرواية الرابعة جاءت من حيث لا يُفترض أن تأتي: من داخل المؤسسة نفسها؛ إذ خرج للمرة الأولى، من قلب البنية الرسمية توصيف شبه علني بأن العائد الاقتصادي من المغامرة السورية يكاد يكون معدوماً، وأن «الاستثمار» السياسي والأمني انتهى إلى ما يشبه الخسارة الصافية.

في مايو (أيار) 2020، قال حشمت الله فلاحت‌بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، إن إيران أنفقت «بين 20 و30 مليار دولار» في سوريا، وإن «هذا مال الشعب ويجب استرداده».

بعد خمس سنوات، عاد فلاحت‌بيشه ليطلق اتهاماً أكثر مرارة: ديون سوريا لإيران - كما قال - سُويت عملياً عبر «أراضٍ بلا نفط، ومزارع أبقار بلا أبقار، ووعود فارغة».

هذا الصوت ليس استثناءً. على مدى عقد، ربطت شعارات الاحتجاجات الداخلية بين «غزة ولبنان وسوريا»، والخبز والوقود في المدن الإيرانية. ومع سقوط الأسد، صار من الأسهل على المنتقدين القول إن النظام أنفق عشرات المليارات، ودفع كلفة بشرية ملموسة بين مقاتليه وحلفائه، لينتهي إلى نفوذ شبه معدوم تقريباً في دمشق.

بالنسبة لصانع القرار، تتحول هذه الرواية إلى عامل ضغط داخلي ضد أي قرار بالعودة إلى سوريا بالحجم نفسه الذي كان عليه التدخل السابق.

عند جمع هذه الروايات المتوازية، يتضح التناقض الجوهري في المقاربة الإيرانية بعد سقوط الأسد: المرشد و«الحرس» لا يعترفان بأن إيران «خسرت سوريا»، بل يتعاملان مع ما جرى كمرحلة عابرة في مسار صراع أطول، ويصران على أن «جبهة المقاومة» قادرة على إعادة إنتاج نفسها، وأن سوريا ستعود، بطريقة ما، إلى هذا المدار. في المقابل، تكشف رواية الدبلوماسية الرسمية ورواية «الحساب المفتوح» عن إدراك ضمني بأن نموذج التدخل الذي طبق خلال العقد الماضي لم يعد قابلاً للاستمرار بصيغته السابقة، لا سياسياً ولا مالياً.

قائد «الحرس الثوري» يقدم إفادة لنواب البرلمان حول سقوط نظام بشار الأسد وخروج القوات الإيرانية يناير 2025 (موقع البرلمان)

السيناريوهات: هل تعيد طهران دمشق للمحور؟

في ضوء ما سبق، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية، ليست متنافية بالضرورة، بل يمكن أن تتداخل زمنياً وجغرافياً.

السيناريو الأول هو «العودة عبر الوكلاء». وهو الأقرب إلى منطق «الحرس الثوري» ومدرسة سليماني. هنا تحاول طهران إعادة بناء نفوذها في سوريا من أسفل، عبر شبكات محلية مسلّحة كانت نواتها موجودة أصلاً، أو عبر تجنيد مجموعات جديدة تحت شعارات مذهبية أو آيديولوجية. الهدف ليس استعادة نظام شبيه بالأسد، بل تكوين قوة ضغط دائمة على أي سلطة قائمة في دمشق، وأداة استخدام ضد الخصوم الإقليميين. نجاح هذا السيناريو يتوقف على عاملين خارج السيطرة الكاملة لإيران: مآل معادلة الحكم في دمشق، واستعداد المجتمع السوري لتحمل دورة عنف جديدة أياً كان اسمها.

السيناريو الثاني هو «التموضع الإقليمي من دون سوريا». وفق هذا المسار، تقبل طهران ضمناً بأن دمشق لم تعد محور ارتكاز لنفوذها كما كانت، فتُعيد توزيع مواردها على الساحات الأربع التي ما زالت تمسك ببعض خيوطها فيها، رغم تراجع دورها النسبي: لبنان، العراق، اليمن، وغزة. تتحول سوريا هنا إلى ساحة استنزاف ثانوية، يقتصر الدور الإيراني فيها على منع الخصوم من تحويلها إلى منصة تهديد مباشر، من دون الدخول في مشروع جديد لإعادة هندسة النظام السياسي.

وينسجم هذا المسار مع ضغوط الكلفة المالية والبشرية التي راكمها التدخل خلال العقد الماضي، لكنه يصطدم بحقيقتين أساسيتين: حاجة «حزب الله» إلى سوريا بوصفها ممراً لوجيستياً، واستمرار خطاب خامنئي في التعامل معها على أنها عنصر بنيوي في «جبهة المقاومة».

السيناريو الثالث هو «التسوية الرمادية». هنا لا تسعى إيران إلى فرض عودة صاخبة، بل إلى تسلل محسوب عبر اتفاقات موضعية مع القوى المسيطرة على مناطق مختلفة من سوريا، وعبر مشاريع اقتصادية أو أمنية محدودة. الخطابات التي يتحدث فيها خامنئي عن أن «الأيام لا تبقى على حالها»، وأن «الشباب السوري سيعيد التوازن» يمكن قراءتها كتهيئة لعودة تدريجية وغير صدامية، تتيح لطهران القول إنها ما زالت «حاضرة» من دون أن تتحمل كلفة الرهان على نظام واحد كما فعلت مع الأسد.

السيناريو الرابع هو «مأسسة الخسارة». في هذا المسار، تتعامل طهران مع فقدان سوريا على أنه أمر واقع، من دون محاولة جدية لاستعادة نفوذ ميداني، لكنها تحوله إلى ملف داخلي - عقائدي أكثر منه جيوسياسي، خصوصاً في ضوء السردية التي تبنتها بعد الحرب الـ12 يوماً مع إسرائيل في يونيو (حزيران) 2025. تعاد تجربة سوريا وتؤطر ضمن خطاب «المؤامرة على جبهة المقاومة»، وتستخدم ذريعة لتشديد القبضة الأمنية، وتقييد النقاش حول كلفة التدخلات الخارجية، وتجريم الربط بين الإنفاق الإقليمي والأزمة المعيشية.

في المقابل، تبقي إيران على حضور رمزي منخفض في الملف السوري (لغة الشهداء، العتبات، حراك دبلوماسي شكلي)، فيما تطوى عملياً صفحة «المشروع السوري» بوصفه عمقاً استراتيجياً، من دون إعلان هزيمة صريحة، بل عبر تغليفها بلغة «الابتلاء والصمود»، ودفعها تدريجياً إلى هامش أجندة صنع القرار.

في كل هذه السيناريوهات تبقى حقيقة واحدة ثابتة: سوريا، التي نظر إليها يوماً على أنها أهم من «الأحواز» و«الهوية المميّزة للمقاومة»، لم تعد، في ميزان الواقع، ما كانت عليه قبل الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. يمكن للمرشد أن يراهن على الزمن، ولـ«الحرس» أن يفتش عن فتحات جديدة في الجغرافيا السورية، وللخارجية أن تلمّع لغة بياناتها، وللمنتقدين أن يتحدثوا عن «أراضٍ بلا نفط».

لكن السؤال المعلق فوق كل نقاش في طهران سيظل واحداً: هل تستطيع إيران أن تتحمل مغامرة ثانية بهذا الحجم في سوريا، بعد أن خرجت من الأولى وهي تحاول إقناع نفسها بأن «خيمة المقاومة» ما زالت قائمة، فيما عمودها السوري مكسور؟


كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
TT

كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)

«في تلك الليلة لم يُكسر قفل محل واحد في حينا»، يقول وائل، طبيب في الأربعين من عمره، وهو يقف أمام عيادته الصغيرة في شارع بغداد وسط دمشق. يروي لحظة لن ينساها من يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024: «شاهدنا لصوصاً في طريقهم لاقتحام البنك المركزي في ساحة السبع بحرات. كنا بين صدمة وخوف وفرح، ثم أدركنا أن أحداً لن يحمينا... فبدأنا نحمي أحياءنا بأنفسنا».

كانت تلك الساعات الأولى بعد انهيار نظام بشار الأسد، حين عم الخوف وبات شبح الفوضى يخيم على المدينة. لكن دمشق، بطريقة ما، حمت نفسها.

نور الدين ترجمان، المعروف بـ«أبو جبريل»، أحد أبرز المتطوعين في لجنة حماية الجسر الأبيض والروضة القريبين من المقرات الأمنية والقصر الرئاسي، يتذكر ما حدث عند الثانية بعد منتصف الليل: «شاهدنا عناصر من النظام السابق يخلعون بزاتهم ويرمونها في حاويات القمامة قبل أن يفروا». بعد دقائق، وصلت مجموعات مسلحة على متن سيارات وشاحنات ودخلت المقر الأمني المعروف بـ«قسم الأربعين».

نهبوا كل شيء؛ السلاح، الحواسيب، الأقراص الصلبة، الوثائق، وحتى خزانات الوقود. لكن رغم موقع القسم وسط السوق التجارية والفوضى التي غمرتها، لم تُقتحم أي من المحال.

يقول أبو جبريل لـ«الشرق الأوسط»: «إن أطفالاً كانوا يلعبون بالسلاح والقذائف وسط إطلاق نار. الأهالي عاجزون عن التدخل. لكن عندما اندلع حريق داخل القسم، هرع الناس لإخماده خوفاً من انفجار أكبر». لم تهدأ المنطقة إلا مع وصول عناصر من «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر.

حارس أمام علم في ساحة باب توما (رويترز)

قناص في «واتساب»

مع اتساع حوادث السرقة، خصوصاً السيارات، بدأ شباب الحي، وبينهم أطباء ومهندسون وأصحاب محلات وطلاب جامعيون، يتجمعون. يقول أبو جبريل: «بعد عشرين يوماً من سقوط النظام بدأ العمل ينتظم». وارتفع عدد المتطوعين من 75 إلى نحو 300. اشتروا أجهزة اتصال، وقسموا إلى مجموعات، وزودتهم السلطة الجديدة بقطعتي سلاح لكل مجموعة مع كلمة سر للتعريف.

واعتمدت اللجان على مجموعات «واتساب» للتواصل بين أفراد اللجان أنفسهم، وبين اللجان والأهالي. في بعض الأحياء تجاوز عدد المشتركين الآلاف. كانت المشاركة شخصية ومباشرة للإبلاغ عن تحركات مريبة، تصوير السلوكيات الخطرة، والمراقبة المستمرة.

ولا تخلو تلك المجموعات من خروقات، كما حصل لدى اكتشاف قناص من النظام السابق ضمن لجان الحماية نفسها.

القصاع وباب توما

في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية، بقي الخوف من التجييش الطائفي حاضراً، خاصة بعد كتابة عبارات طائفية على جدار كنيسة القديس كيرلس. يوسف، أحد شبان «الفزعات» في باب توما والقصاع، يقول إن المتطوعين لعبوا دوراً حاسماً في احتواء الانفلات الأمني منذ اللحظة الأولى: «بدأت الفوضى عند الخامسة فجراً واستمرت حتى الثانية ظهراً. كانت المؤسسات الأمنية والحكومية تُنهب بالكامل، بعضها تعرض للحرق مثل مبنى الهجرة والجوازات في الزبلطاني». ويضيف: «رأيت أطفالاً يعرضون أسلحة للبيع ولصوصاً يسرقون السيارات».

أغلق شباب الحي الحارات بالسيارات حتى وصول «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر. الخوف الأكبر كان من احتمال وقوع مجازر. يقول يوسف: «فجأة وجدنا أنفسنا أمام مسلحين (...) ذهبنا إليهم وطلبنا وضع حد للفوضى. وكانوا متعاونين».

وبحسب شهادة يوسف، فإن أعمال العنف لم تحدث بالمعنى المنظم في الأشهر الأولى، بل كانت هناك حوادث بالفعل واستفزازات، بسبب الخوف المسبق وسوء الفهم والجهل المتبادل بالآخر.

رفض أهالي الأحياء المسيحية تسلم السلاح من السلطة الجديدة خشية أن يجر ذلك إلى «خراب»، مفضلين الاعتماد على «الكثرة العددية» في حال حدوث طارئ، واللجوء إلى قوى الأمن لمواجهة الخطر عند الحاجة. وقد ساعد ذلك في إحباط هجوم مسلح والتصدي لسيارات رفعت شعارات طائفية.

سيدة سورية تُلوِّح بعلامة النصر حاملة باقة ورد في «ساحة الأمويين» بدمشق احتفالاً بإعلان إطاحة الأسد (أرشيفية - أ.ف.ب)

«أوقفنا 200 لص»

بعد عام على سقوط النظام، يقول سكان من الجسر الأبيض إن لجان المجتمع الأهلي التي تشكلت لعبت دوراً أساسياً في سد الفراغ الأمني إلى حد ما، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى، مشيرين إلى أن أكثر من 200 لص أُوقفوا في ذلك الحي وحده.

محمد الفقي يروي: «في تلك الأشهر عملنا في كل شيء؛ تنظيم السير، الحراسة، ملاحقة العصابات، الإسعاف، تأمين ذهاب الأطفال للمدارس. لم يكن هناك خيار آخر لحماية أهلنا».

ويضيف الفقي أن التحدي الأكبر كان غياب القدرة على التمييز بين رجال السلطة الحقيقيين ومنتحلي الصفة.

يضحك أبو جبريل وهو يستعيد ذكريات الأسبوع الأول: «كنا مجانين. نحمي الحي بلا سلاح ولا تدريب. تعرضنا لإطلاق نار مرات عدة، ومع ذلك واصلنا السهر كل ليلة على أمن الحارات».

هكذا، في تلك الليلة الرهيبة التي سقط فيها نظام بشار الأسد وعمت الفوضى، لم تنزلق دمشق إلى الهاوية التي خاف منها الجميع. وقام أهلها بحمايتها عبر ارتجال قرار جماعي.


السوريون يحتفلون بـ«حق العودة»... والمغيبون قسراً أبرز الحاضرين

امرأة تمرّ بجانب عرضٍ لجوارب تحمل رسومات ساخرة من بشار الأسد وحافظ الأسد في إحدى أسواق دمشق (د.ب.أ)
امرأة تمرّ بجانب عرضٍ لجوارب تحمل رسومات ساخرة من بشار الأسد وحافظ الأسد في إحدى أسواق دمشق (د.ب.أ)
TT

السوريون يحتفلون بـ«حق العودة»... والمغيبون قسراً أبرز الحاضرين

امرأة تمرّ بجانب عرضٍ لجوارب تحمل رسومات ساخرة من بشار الأسد وحافظ الأسد في إحدى أسواق دمشق (د.ب.أ)
امرأة تمرّ بجانب عرضٍ لجوارب تحمل رسومات ساخرة من بشار الأسد وحافظ الأسد في إحدى أسواق دمشق (د.ب.أ)

أن تزور دمشق بعد عام على سقوط نظام الأسدين، وعشية استعداد البلاد لإحياء الذكرى الأولى لـ«التحرير» في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2025، فأنت تعايش أياماً أقرب إلى «وقفة عيد»، وتمشي حاملاً مجهراً يغرقك في تفاصيل ومقارنات لا تنتهي. مقارنات لا تقتصر على ما عاينته وشهدته بعين خارجية قبل عام فحسب، بل بما تختزنه 15 عاماً من أثقال وأهوال، وما تتفتح عنه ذاكرة محدثيك من تجارب شخصية وعامة و«تروما» متراكمة باختلاف الأجيال.

«وقفة عيد» عبارة قد تختصر المشهد العام في وسط العاصمة السورية في الأيام القليلة الماضية، بكل ما تحمله من تجهيزات وزينة وفرح، كما وغصّة وتعطيل للعمل وتسيير الأمور، حيث يقابل أي ترتيب بسيط بعبارة «إن شالله لبعد الاحتفالات».

فتاة تحمل العلم السوري خلال الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى للإطاحة بنظام الأسد في دمشق (أ.ب)

حقبة سوداء انتهت

وأجواء الاحتفالات تلك تبدأ منذ نقطة العبور الحدودية من لبنان لجهة معبر المصنع؛ لافتات كبيرة على طول الطريق المؤدي إلى دمشق ترفع شعارات «انتهت الحقبة السوداء... وأشرق وجه البلاد» و«كتف بكتف، يد بيد، نبني الوطن»، و«وطن واحد... شعب واحد» وغيرها من الملصقات الحديثة التي صممت كلها بحسب «الهوية البصرية» الجديدة ذات العقاب الذهبي.

تلك الشعارات والعلم الجديد كما وشعار النسر، خطّت على أسوار المواقع العسكرية التي أخلاها النظام السابق، وعند مدخل البلدات ومركز الفرقة الرابعة على طريق بيروت - دمشق فحلّت محل شعارات «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» و«قائدنا إلى الأبد» وغير ذلك من صور وعبارات انطبعت في اللاوعي الجمعي السوري.

ولئن لاقت الهوية البصرية الجديدة التي أعلن عنها صيف 2024 انتقادات واسعة لجهة أنها «ليست من الأولويات» في بلد منهك ومدمر، لكن الواقع على الأرض يجانب تلك الحقيقة وقد لا يصيبها تماماً. ذاك أن «الهوية البصرية» في النظام السابق كانت عملاً ممنهجاً ودؤوباً وجزءاً أساسياً من تركيز النفوذ وتثبيته في النفوس، يبدأ من دفاتر تلامذة الروضات وصبورات الصفوف المدرسية ولا ينتهي عند صور وتماثيل هائلة احتلت الساحات والفضاءات العامة.

لذا ليس من قبيل الصدفة أن يكون أول ما بدأ تهشيمه وتكسيره وتمزيقه لحظة سقوط النظام السابق هو «أيقوناته» ورموزه البصرية، فكان لا بد من إشغال ذلك الفراغ البصري بما يعكس طبيعة السلطة الجديدة عوضاً عن تركه عرضة لعشوائية فصائلية ومناطقية كانت بدأت تظهر مطلع العام الماضي. وبشيء من السخرية يقول قائل إنه لولا الحاجة للتعامل بالأوراق النقدية والعملة السابقة لعمد كثيرون إلى إحراق الأموال التي تحمل رموز النظام السابق.

لكن، وفي سياق نبذ كل ما له صلة بما مضى وتجذير ما حضر، ذهب كثيرون خطوات أبعد في تبني «الهوية البصرية» الجديدة في الملبس والمظهر والسلوك الاجتماعي. ففي حين «تشذبت» اللحى وقصر طولها وخف إلى حد بعيد مظهر مقاتلي «هيئة تحرير الشام» بشعورهم الطويلة وأزيائهم الغريبة، كما كان الحال قبل عام من اليوم في دمشق، باتت اللحية عموماً خفيفة منمقة أو شبه محفوفة الشوارب، هي السمة الطاغية للشباب والرجال.

وتحوّل النسر الذهبي إلى أزرار تعلق على الأكمام والياقات لألبسة رسمية تغلب عليها التصاميم التركية، ولا تقتصر على الموظفين الحكوميين، وإنما امتدت إلى أي شاب مدني يعمل في القطاع الخاص وراغب بأن يشبه عصره.

وإذ صهرت أجهزة الدولة الناشئة المقاتلين السابقين في قنواتها الرسمية وأبرزها جهازي الشرطة والأمن العام، تبدلت أزياء العسكريين السابقين أيضاً من قميص وشروال أو بزّات مموهة بحسب الفصيل العسكري، وانسحبت من المشهد العام ليحل محلها لباس أسود موحد وأوجه مكشوفة وسلاح غير ظاهر ولا محتفى به. وهؤلاء هم «موضة» المراهقين واليافعين الذين شاع بينهم اللون الأسود، وباتوا غير صابرين على نمو لحاهم، تطبعاً بنموذج رجل السلطة الجديد.

هذا التغيير المشهدي، البسيط ربما في سياق التحولات الكبرى التي تشهدها سوريا اليوم، امتص جزءاً كبيراً من غضب الدمشقيين المكبوت وتوجسهم حيال حكامهم الجدد القادمين من أرياف ومحافظات بعيدة. فمعلوم أنه في بلد شديد المركزية كسوريا، لا نجاح في امتحان عام قبل اجتياز اختبار دمشق. ودمشق اليوم، وعلى رغم التحديات والانتظارات الكثيرة... في وقفة عيد.

ذهب سوريون خطوات أبعد في تبني «الهوية البصرية» الجديدة في الملبس والمظهر والسلوك الاجتماعي (أ.ب)

رايات بيض

ازدحامات خانقة تحيل الوصول إلى أي مكان أشبه بمعجزة، ومواكب جوالة بالأعلام ورايات التوحيد البيضاء، وشوارع تغلق عصراً في محيط ساحة الأمويين، فتزيد اختناق الشوارع الداخلية. شبكة الهاتف مثقلة. الفنادق متخمة. حجوزاتها مغلقة بأسعار صاروخية حتى تلك التي كانت عريقة وفاخرة ذات يوم وتوقف بها الزمن في نهاية الثمانينيات فبقيت اليوم مجرد أطلال شاهدة على العصر.

رواد الفنادق يتراوحون بين مغتربين سوريين، ومشاركين في ندوات وورشات عمل لناشطين في المجتمع المدني، ووفود أجنبية ودبلوماسية على أرفع المستويات، وصحافة محلية وعالمية، وتجار ومقاولون وعناصر أمن وفدوا من المحافظات والمناطق البعيدة، ومجرد فضوليين يتسكعون في البهو ما أتيح لهم ذلك.

أحد القواسم المشتركة بين هؤلاء كلهم وغيرهم ممن غصّت بهم دمشق، أنهم كانوا قطعوا الأمل بالعودة يوماً إلى بلدهم، واليوم يغرفون منها ما استطاعوا. عائلات بأكملها أتيح لها خلال العام الماضي احتضان أبناء وبنات منفيين منذ أكثر من عقد، ولقاء أحفاد لم يشهد الأجداد على ولادتهم، وفي أحسن الأحوال تعرفوا إليهم عبر شاشات الهواتف. شباب وشابات غادروا يافعين هرباً من اعتقال وموت محتم، وعادوا اليوم رجالاً ونساء في منتصف العمر يحاولون حشر أجسادهم الكهلة في أسرّة الصبا.

وكما في وقفة كل عيد، فإن مشاعر البهجة والحبور لا تطرق بعض الأبواب إلا محمّلة بدمع كثير. ولعل سكان المناطق المدمرة سواء في المخيمات البعيدة أو في الأحياء المحاذية لمنصة الاحتفالات في ساحة الأمويين، وأهالي المفقودين والمخفيين قسراً أكثر من تبتلع الغصة فرحتهم اليوم وهم مدركون أن طريقهم طويل وعسير. إنهم أبرز الحاضرين في هذه الذكرى، إذ لا تخلو عائلة من فقيد أو مفقود لا تزال تبحث له عن أثر أو رفاة لإتمام مراسم الدفن والعزاء.

لكن أيضاً فإن تجمعات الأهلية سواء لأهالي المفقودين أو المنظمات الحقوقية كما وأصحاب الأعمال وغيرهم من التجمعات، عادوا ونقلوا نشاطهم إلى داخل بلدهم وعقدوا اللقاءات ورفعوا المطالب من وسط عاصمتهم. وفي ذلك لا شك كسب كبير.

صورة عامة لمئات الأشخاص في ساحة العاصي خلال الاحتفالات في مدينة حماة (إ.ب.أ)

غلبني الشوق

أكثر من أي شيء، هو احتفاء بـ«حق العودة» الذي حرم منه السوريون لعقود مضت وسبقت أحياناً ثورة 2011. يقول رجل أربعيني عاد واستقر في دمشق بعد 13 عاماً قضاها في إسطنبول: «أنا عائد لأنني ببساطة مشتاق. مشتاق لأهلي وحارتي وحياتي التي وإن كرهتها آنذاك، تركتها مرغماً ومطروداً».

وفي معرض حديثه عن بعض من يحاولون تأطير خيارات الأفراد في سياقات سياسية عامة كـ«المساهمة في بناء سوريا الجديدة» وغيره من عناوين برّاقة يقول: «أعتقد أنني كنت أساعد بلدي وناسي بأشكال كثيرة حتى وأنا في الخارج. ولكني اليوم عدت لأنه غلبني الحنين. ويجب أن يكون الحق بالشوق حجة كافية للعودة. الحق في أن أختار عودتي بمعزل عن درجة الرضا أو عدم الرضا عن شكل الحكم وأداء السلطة الوليدة».

تلك عبارة تختصر الكثير من حال السوريين اليوم، داخل دمشق وخارجها ممن التقيناهم حتى في المحافظات البعيدة. كأن الناس يحتفلون عملياً باستعادة حقهم في تقرير مصائرهم.

وفيما يبدو أنه ليس للسياسة حيّز كبير اليوم، غير أن الفيل الحاضر في كل مجلس قرارات الحكومة والأداء الإعلامي والحقوقي وسلوك الشرطة وأحداث الساحل والسويداء والعلاقة بـ«قسد» وارتفاع الأسعار وتجاور الفقر والثروة وإغفال ملفات المغيبين والمخفيين في السجون، ذلك كله وغيره الكثير يجري تشريحه ويوضع تحت المجهر بصوت عالٍ، في الشارع والمقهى والمطعم كما لو أنه فعلاً لم يعد للجدران آذاناً. يضحك محدثي من هذا التشبيه ويقول: «بالفعل، لم يعد للجدران آذان... ولكن لغير الجدران أيضاً. كل يفعل ما يشاء. الأفراد والجمعيات والوزارات والمحافظون ورجل الشرطة في سوق الحميدية... كأن الجميع استعاد لسانه وقطع أذنيه».