قرية الفاو.. متحف لحضارة الممالك القديمة في الجزيرة العربية

العثور على أوان فخارية وحلي ذهبية وفضية وعملات في عاصمة مملكة كندة أكبر وأشهر المناطق الأثرية في السعودية

بعض المواقع الأثرية في الفاو - رخيم مكتشف في القرية الأثرية يظهر الشكل المميز للكتابة - من المكتشفات الأثرية بقرية الفاو - إفريز ملون عليه رسوم آدمية ونباتية عثر عليه في قرية الفاو - من المكتشفات الأثرية بقرية الفاو - إبريق معدني من مكتشفات الفاو بقرية الفاو - حلي مصنوعة من الذهب الخالص
بعض المواقع الأثرية في الفاو - رخيم مكتشف في القرية الأثرية يظهر الشكل المميز للكتابة - من المكتشفات الأثرية بقرية الفاو - إفريز ملون عليه رسوم آدمية ونباتية عثر عليه في قرية الفاو - من المكتشفات الأثرية بقرية الفاو - إبريق معدني من مكتشفات الفاو بقرية الفاو - حلي مصنوعة من الذهب الخالص
TT

قرية الفاو.. متحف لحضارة الممالك القديمة في الجزيرة العربية

بعض المواقع الأثرية في الفاو - رخيم مكتشف في القرية الأثرية يظهر الشكل المميز للكتابة - من المكتشفات الأثرية بقرية الفاو - إفريز ملون عليه رسوم آدمية ونباتية عثر عليه في قرية الفاو - من المكتشفات الأثرية بقرية الفاو - إبريق معدني من مكتشفات الفاو بقرية الفاو - حلي مصنوعة من الذهب الخالص
بعض المواقع الأثرية في الفاو - رخيم مكتشف في القرية الأثرية يظهر الشكل المميز للكتابة - من المكتشفات الأثرية بقرية الفاو - إفريز ملون عليه رسوم آدمية ونباتية عثر عليه في قرية الفاو - من المكتشفات الأثرية بقرية الفاو - إبريق معدني من مكتشفات الفاو بقرية الفاو - حلي مصنوعة من الذهب الخالص

تسعى السعودية إلى إعادة الروح إلى قرية الفاو الأثرية، التي تعتبر من أكبر وأشهر المناطق الأثرية على مستوى البلاد، إذ كانت قرية الفاو عاصمة مملكة كندة الأولى، التي تميزت بدورها الكبير في الجزيرة العربية من منتصف القرن الأول قبل الميلاد حتى مطلع القرن الرابع الميلادي، وكانت مركزًا تجاريًا مهمًا وملتقى قوافل تحمل المعادن والحبوب والنسيج.
وتبعد قرية الفاو نحو 700 كيلومتر جنوب غربي مدينة الرياض، وتقع على الحافة الشمالية الغربية للربع الخالي، ووردت إشارات لها في كتابات جنوب الجزيرة العربية، وكانت تذكر باسم «قرية»، كما ذكرت في المصادر الإسلامية. وتشير المصادر إلى أن «قرية» كانت عاصمة لمملكة كندة الأولى (منتصف القرن الرابع ق.م إلى مطلع القرن الرابع الميلادي).
وتكمن أهمية قرية الفاو في كونها تسيطر على الطريق التجاري، حيث لا تستطيع القوافل أن تسير دون المرور بها، إذ كانت نقطة عبور للقوافل إلى محطة تجارية مهمة على الطريق التجاري الممتد من جنوب الجزيرة العربية والمتجه شمال شرقي إلى الخليج العربي وبلاد الرافدين وشمال غربي الحجاز وبلاد الشام إلى أن أصبحت مركزًا اقتصاديا وسياسيا وثقافيًا في وسط الجزيرة العربية، وعاصمة لدولة كندة لأكثر من خمسة قرون.
طراز معماري فريد
وأظهرت التنقيبات التي بدأت في الموقع قبل أكثر من أربعين عامًا، أن النسيج العمراني المكتشف في موقع «الفاو» يتشكل من المنطقة السكنية والتي تشمل منازل وساحات وطرقات بأنواع متعددة، ومنطقة السوق الرئيسي التي تضم المرافق والخدمات وأهمها الآبار والقنوات وخان القوافل، وتعتبر المنطقة السكنية من أهم معالم «الفاو»، حيث تقدم نسيجًا عمرانيًا متكاملاً، وتعطي تصورًا لمدينة عربية قبل الإسلام، كما أن المنازل في المنطقة السكنية مبنية على طراز معماري غاية في الجودة، واهتم سكان الفاو بزخرفة جدران المنازل.
وتضم المكتشفات والموارد الأثرية في الموقع، السوق الذي يقع شمال المنطقة السكنية، وهو عبارة عن سوق ضخم مكون من ثلاثة طوابق وتحيط به الأسوار العالية والأبراج من جهاته الأربع، وهو بمثابة خان للقوافل التجارية التي كانت تنزل في «الفاو».
وكشفت أعمال التنقيب عن عدد كبير من الآثار التي تبرز مستوى متقدم من المدنية، وتوسع شبكة علاقات سكان «الفاو» التجارية وصلاتهم الحضارية، وتشمل هذه الآثار أواني فخارية وخزفية وزجاجية وحجرية وفضية وبرونزية، وحلي ذهبية وفضية، وعملات فضية وبرونزية، ونقوش كتابية ورسوم جدارية ملونة على الجص، وغير ذلك.
فنون زخرفة المباني
وعرفت قرية «الفاو» فنًا معماريًا متميزًا من حيث مواد البناء وهندسة العمارة وتبليط المباني وزخرفتها من الداخل والخارج وذلك فيما اكتشف من عمارة السوق والقصر والمنطقة السكنية بالقرية، واستعمل سكان قرية في البناء اللبن المربع والمستطيل، إضافة إلى استخدام الحجر المنقور والمصقول في الأسس وبناء المقابر، والجبس المخلوط بالرمل والرماد في تبليط الجدران الداخلية للمباني، ودعموا مبانيهم بالأبراج المربعة والمستطيلة، ويدل الطراز المعماري على أنه يمثل طرازًا عربيًا فريدًا برزت فيه مراعاة الظروف البيئة واحتياجاتهم المختلفة.
شبكات للمياه النظيفة
وتعتبر المنطقة السكنية من أهم معالم قرية الفاو، حيث إنها تضم عناصر مهمة في حياة مجتمع «كندة»، وتمثل صورة مكملة لتصور المدينة قبل الإسلام، وتتميز عمارة القرية بوجود أزقة وشوارع بين المنازل ووحدات سكنية متميزة تتسع بعض غرفها حتى تصل إلى عشرة أمتار طولاً وثلاثة أمتار عرضًا، والدقة في استقامة المباني وضبط زواياها القائمة، واستخدام أعتاب من الحجر بعضها عليه نصوص مكتوبة بخط المسند، واستعمال الأخشاب للأبواب والأسقف، ووجود شبكات للمياه النظيفة تخرج من المنازل.
اهتمام بالكتابة
ومن معالم قرية الفاو «القصر» والذي عثر بداخله رسوم فنية تمثل قيمة التطور الفني لهذه المدينة إذا قورنت بمثيلاتها في البلدان المتاخمة، بل إنها تفوقها من حيث الدقة والتناسق وقدرة الفنان الذي رسمها على التعبير عن تصوره الواضح.
كما اهتم السكان بالكتابة، فهي موجودة على سفوح الجبال وفي السوق وعلى اللوحات الفنية وفي المدينة السكنية وعلى شواهد القبور والفخار والمواد الأثرية الأخرى، وعبّر سكان القرية عن أفكارهم وخواطرهم بالخط المسند الجنوبي الذي أخذ في القرية شكلاً متميزًا، أما لغتهم فكانت مزيجًا بين لغة الشمال والجنوب، وكانت موضوعات الكتابة مختلفة فمنها الموضوعات التجارية، إضافة إلى الموضوعات المتعلقة بالعلاقات الفردية.
وإضافة إلى ذلك تضم قرية الفاو عددًا كبيرًا من الرسوم الفنية المختلفة، حيث اهتم الفنان العربي في شبه الجزيرة العربية برسم مشاهداته في الحياة اليومية على لوحات فنية تختلف في جودتها من مكان إلى آخر.
ومن الآثار المهمة التي عثر عليها في «الفاو» مجموعة من المجسمات الحجرية والمعدنية التي تمثل مزيجًا حضاريًا يمتد منذ القرن الثاني قبل الميلاد بالنسبة للمنحوتات المرمرية.
وتضمنت الآثار قطعًا منسوجة من الكتان وصوف الأغنام ووبر الجمال، وأواني معدنية مثل القدور والسكاكين والإبر وأغماد الخناجر والمفاتيح والأساور، علاوة على المسكوكات التي تعد من أهم معثورات القرية لأن معظمها ضرب فيها، ومعظم المسكوكات التي عثر عليها كانت من الفضة.
مشروع تأهيل موقع الفاو
ونظرًا للأهمية التاريخية والحضارية الكبيرة لقرية الفاو، وسعيًا إلى تأهيلها وفتحها أمام الزوار، وقّع الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، والدكتور بدران بن عبد الرحمن العمر مدير جامعة الملك سعود، مذكرة تعاون بين الهيئة والجامعة لتأهيل موقع الفاو الأثري.
ودشن الأمير خالد بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض رئيس مجلس التنمية السياحية في المنطقة (سابقًا)، مشروع تأهيل موقع الفاو الأثري واستئناف أعمال التطوير في الموقع، بحضور رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني الذي أكد أن موقع الفاو الأثري بعد اكتمال مشروع تأهيله سيكون متحفًا مفتوحًا يحكي تاريخ وحضارة مملكة كندة إحدى الممالك القديمة في الجزيرة العربية، كما أنه يهدف إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومنها أن يكون موقع «الفاو» معلمًا تاريخيًا وشاهدًا حضاريًا يمكن زيارته ضمن العملية التعليمية والتثقيفية، وأن يلعب الموقع دورًا اقتصاديًا في منطقة الرياض، إضافة إلى عرض المكتشفات الأثرية للدارسين والباحثين والمهتمين بالتراث الثقافي وزائري المنطقة، ودعم الاقتصاد المحلي لمحافظة وادي الدواسر والمحافظات القريبة منها، منوهًا بالتجاوب الكبير الذي تجده الهيئة من المواطنين والمجتمعات المحلية في المحافظة على المواقع الأثرية واستعادة الآثار الوطنية.
وأضاف الأمير سلطان بن سلمان أن موقع الفاو شهد عمليات تنقيب كبيرة، حيث بدأ التنقيب في الموقع قبل أكثر من أربعين عامًا، وأشرف على أعمال التنقيب آنذاك الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الأنصاري عالم الآثار، وهو اليوم يعود مشرفًا على فريق العمل لاستكمال ما بدأه مع الكثير من أعضاء الفريق العلمي الأساسي.
إلى ذلك، أكد الدكتور علي الغبان نائب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني المشرف على برنامج خادم الحرمين للعناية بالتراث الحضاري. أن مشروع تأهيل موقع الفاو الأثري، سيحقق نقلة نوعية مهمة تليق بالموقع وأهميته التاريخية الكبيرة، خصوصًا أن الموقع يجسّد المدينة العربية قبل الإسلام بكل مقوماتها من مساكن وطرقات وأسواق وآبار وقنوات زراعية.
وقال الغبان إن أهمية مشروع تأهيل موقع الفاو تنبع من قيمته التاريخية، حيث تبوأت قرية الفاو مكانة عظيمة بوصفها عاصمة لمملكة كندة الأولى، وهي واحدة من أهم الممالك العربية القديمة، وذلك من منتصف القرن الأول قبل الميلاد إلى مطلع القرن الرابع الميلادي.
وحول رؤية الهيئة لمشروع تأهيل موقع الفاو، قال الغبان إن رؤية المشروع تقوم على ترميم وتأهيل الموقع وحماية مكوناته ليُصبح متحفًا مفتوحًا يعرض تاريخ «الفاو» وحضارتها عبر العصور على عين المكان، من خلال عرض اللقى الأثرية الكبيرة التي تتحمل الأجواء الخارجية في أماكنها الأصلية بالموقع، وتحويل الموقع إلى نقطة جذب سياحي ومقوم اقتصادي رئيس في المنطقة، علاوة على تحقيق مجموعة من الأهداف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ومنها: تأهيل الموقع ليكون معلمًا تاريخيًا وشاهدًا حضاريًا يُمكن زيارته، وأن يكون مؤثرًا إيجابيًا اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا في المنطقة، مع عرض المكتشفات الأثرية للدارسين والباحثين والمهتمين بالتراث الثقافي، إضافة إلى دعم الاقتصاد المحلي وتوفير فرص عمل جديدة.
وأشار إلى أنه سيتم إنشاء مركز الزوار عند مدخل الموقع بتصميم يتواءم مع المكان، وستعرض فيه المكتشفات الأثرية والصور والخرائط والرسومات والأفلام المرئية والمعلومات الدقيقة عن حضارة «الفاو» وتاريخها، وسيشكل هذا المركز نقطة الانطلاقة لزوار الموقع، كما سيحتوي المركز على صالة استقبال وصالات عرض متحفي، وصالة عروض سمعية وبصرية، وقاعة لكبار الزوار، وركن للهدايا والتذكارات، ومطل في سطح المركز يوفر رؤية بانورامية لكامل الموقع.
وذكر أن مشروع تأهيل موقع الفاو يشمل تنفيذ مسارات الزيارة وتزويدها بلوحات توجيهية وتعريفية، وتحويل المباني التي أنشأتها جامعة الملك سعود خارج الموقع إلى مركز أبحاث يستفيد منه الباحثون والدارسون.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)