تركيا بين حلب و الموصل

تضارب في المصالح الروسية ـ الأميركية.. والتدخلات الإيرانية تعقد الموقف

تركيا بين حلب و الموصل
TT

تركيا بين حلب و الموصل

تركيا بين حلب و الموصل

أعلنت تركيا، خلال هذا الأسبوع، مجددًا أنها لن تتراجع عن أهدافها، سواء في شمال سوريا، من أجل تأمين حدودها وتطهيرها من التنظيمات الإرهابية، وتعني بها «داعش» والأكراد ممن تعتبرهم امتدادا لمنظمة حزب العمال الكردستاني المصنفة لديها على أنها منظمة إرهابية، أو بالنسبة لشمال العراق، حيث ترى ضرورة مشاركتها في معركة تحرير الموصل من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، عبر معركة تخطط لها واشنطن، وإن لم تتضح معالمهما بعد. وفي كلتا الحالتين، أكدت تركيا أنه لا أطماع لها في البلدين، مشددة على أن هدفها هو حماية وحدة أراضي سوريا والعراق، وضمان وحدة الأراضي التركية أيضًا، ودرء التهديدات الإرهابية الآتية من «جاريها» المأزومين.
في سوريا، تؤكد أنقرة أنها ستستمر بعملية «درع الفرات» إلى حين تطهير مدينة الباب والمساحة المحيطة بها، البالغة 5 آلاف كيلومتر مربع، من جميع التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش» وحزب الاتحاد الديمقراطي وميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية.
ومعلومٌ أن لدى تركيا أيضًا الاستعداد للمشاركة في عملية تحرير مدينة الرقّة، ولكن بشرط استبعاد الميليشيات الكردية، إلا أن واشنطن لا تبدي تحمّسًا لهذا المطلب. ومن ثم، يرى محللون ومراقبون أن الظروف التي تعيشها الولايات المتحدة حاليًا وأجواء انتخابات الرئاسة تجعلها في وضع من لا يستطيع الحسم، وأنها تسعى لفتح جبهة الموصل للتغطية على إخفاقها في سوريا.
* مسرحية حلب
الأكاديمي والمحلل السياسي التركي الدكتور سمير صالحة يرى أن كلاً من موسكو وواشنطن «ما كانتا جادتين في اتفاقية وقف الأعمال القتالية في حلب التي أعلنت في 9 سبتمبر (أيلول) الماضي، وفتح الطريق لوصول المساعدات الإنسانية لسكان حلب المحاصرين، ولم يعد الأمر كونه مسرحية، حيث شابها الغموض وكثير من علامات الاستفهام حول المضمون وطريقة التنفيذ والضمانات القانونية».
وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال صالحة: «السؤال هنا هو: من يتحمل هذا الإخفاق؟»، مضيفًا: «إن المسؤولية تقع على الطرفين معًا، روسيا وأميركا، لأنه لو كانت هناك رغبة حقيقة لفتح الطريق أمام الحل في حلب، لتقدم النقاش بشكل واضح يتسم بالشفافية، غير أن ما حدث هو محاولة فرض ما تم الاتفاق عليه على الشركاء والحلفاء».
ولفت صالحة إلى أن أميركا «لم تتعاط إيجابيًا مع الخطة التركية في عملية (درع الفرات)، واتضح هذا فيما بعد. وكما نرى الآن، في التنسيق الأميركي مع الحكومة المركزية في العراق، فقد حمّلت أنقرة رؤيتها بالنسبة للعملية العسكرية في الموصل لمساعد وزير الخارجية الأميركي خلال زيارته الأخيرة، ووعد الجانب الأميركي بمناقشتها مع حكومة بغداد. لكن ما حدث هو العكس، إذ فرض الجانب الأميركي على بغداد فرضًا أن ترفض هذه المواد التركية، ثم تحركت واشنطن لتبرّر للعراق أسباب رفض وجود القوات التركية في بعشيقة، ولتذهب أبعد من ذلك للقول إن الوجود التركي ليس في إطار التحالف الدولي، وهو بالتالي عملية غير شرعية».
* أزمة المعادلة الأميركية
وأضاف الدكتور صالحة، خلال اللقاء، أن «الفشل في موضوع الهدنة في حلب، وإخفاق واشنطن في تحقيق ما تريد من عملية (درع الفرات) جعلاها تتوجه إلى منحى آخر، هو إعطاء الأولوية لمعركة الموصل على معركة الرقّة. وهي تريد من خلال تحريك جبهة الموصل أن تحقق أهدافها في العراق، بعدما فشلت في سوريا بسبب التعنّت الروسي، والموقف التركي المتمثّل بالتنسيق مع «الجيش السوري الحر»، والتوجه إلى معركة الباب وحسم مسألة وجود الميليشيات الكردية في منبج. إن ما حدث على الأرض في سوريا لم يطمئن واشنطن إلى أي ظروف سياسية أو عسكرية، ولذلك توجّهت إلى الموصل كي تصحّح المعادلات من منظورها للأمور. ولا بد من ربط هذا التصعيد العراقي ضد تركيا بالرغبة الأميركية في قلب الأمور لصالحها، وتعزيز نقاطها التي تراجعت في الجبهة السورية».
واعتبر الأكاديمي التركي أن الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتركيا، بعد غد (الاثنين)، ستكون «زيارة حاسمة في تحقيق تفاهم تركي - روسي شامل بالنسبة للملف السوري، وليس فقط (درع الفرات)»، وتوقع أن يشمل «مستقبل حلب، وحسابات واشنطن وبغداد بالنسبة للموصل، ومحاولات أميركا استخدامها كورقة لتحقيق معادلتها الخاصة في الملفين السوري والعراقي».
* أهداف تركيا
مما لا شك فيه أن تركيا حدّدت أهدافها بدقة من عملية (درع الفرات)، وهي ترى أن الظروف مهيأة للاستمرار فيها، وهو ما أكدته مصادر دبلوماسية تحدثت لـ«الشرق الأوسط»، إذ ترى هذه المصادر أن تصعيد أنقرة لهجتها ضد أكراد سوريا، والتصريحات المتشدّدة التي تعاقبت على ألسنة المسؤولين الأتراك، بدءًا من الرئيس رجب طيب إردوغان وصولاً إلى الوزراء في الحكومة التركية، إنما هدفها هو الضغط على واشنطن لضمان وفائها بتعهداتها بانتقال الميليشيات الكردية إلى شرق نهر الفرات، وتحييدهم في عملية الرقة المحتملة، ومنع تسليحهم.
وتؤكد المصادر أن تركيا جادة في ضمان إقامة «المنطقة الآمنة» بطول حدودها مع سوريا، البالغة 911 كيلومترا بعمق 45 كيلومترًا، وعلى المساحة التي تتحدث عنها، وهي 5 آلاف متر مربع. وتضيف أن الحديث عن الوصول بعملية «درع الفرات» إلى مدينة الباب، هو من أجل التلويح بأن لدى تركيا القدرة على دخول حلب، وإن كان من المستبعد أن تقدم على مثل هذه الخطوة كي لا تصطدم مع روسيا التي تتولى راهنًا ملف حلب.
ووفقًا لهذه المصادر، فإن أنقرة تعتقد أن واشنطن وموسكو لن تتمكنا من التوصل إلى اتفاق بشأن سوريا. ولذا، تريد جعل المنطقة الآمنة أمرًا واقعًا في ظل التخبط القائم حاليًا، لا سيما أنه لم تصدر اعتراضات من جانب واشنطن أو موسكو، أو حتى من إيران وسوريا، على إقامة مثل هذه المنطقة.
كذلك ترى المصادر أن تركيا بدأت استعدادات جدية لتوطين اللاجئين السوريين في «المنطقة الآمنة»، بدعم من بعض الأطراف الفاعلة في المنطقة التي تتفق معها في الرؤية والمواقف بشأن الملف السوري.
* التحركات الروسية
من ناحية ثانية، يقول خبيران تركيان إن خطوة موسكو المتمثلة بزيادة تعزيزاتها العسكرية في سوريا خلال الأيام الأخيرة، تأتي رسالة واضحة موجهة لواشنطن الغاية منها دفع الأميركيين إلى استبعاد الخيار العسكري لحل الأزمة السورية، وذلك بعد تداول وسائل إعلام أميركية أنباء بإعادة طرح الخيار العسكري مجددا في أروقة صناعة القرار الأميركية، بعد إعلان واشنطن تعليق مشاركتها في قنوات الاتصال الثنائية مع موسكو.
مسعود حقي جاشين، الأكاديمي التركي المتخصص في العلاقات الدولية، يقول إن «التحركات الروسية الأخيرة تصب في خانة رغبة روسيا بلعب دورها السابق، كقطب في الحرب الباردة».
ويلفت جاشين إلى أن روسيا «حققت تفوقًا عسكريًا في الأجواء السورية على الولايات المتحدة والتحالف الدولي الذي تقوده، بالتوازي مع زيادة نفوذها العسكري في بحر البلطيق ومناطق كثيرة حول العالم، وهي ترد على كل تصعيد لواشنطن بـ7 أو 8 أضعاف»، معتبرًا أن هذا التصعيد الروسي «خطير جدًا».
ومن جانب آخر، يرى مراد يشيل تاش، مدير الأبحاث الأمنية في مركز الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركي (سيتا)، أنه «لا يجوز النظر إلى التعزيزات العسكرية الروسية في سوريا على أنها موجهة ضد قوات المعارضة المسلحة هناك بشكل مباشر، بل هي رسالة واضحة موجهة لواشنطن، مفادها استبعاد الحل العسكري كخيار لحل المسألة السورية».
* تركيا والعراق
وفي ظل هذا التشابك في المواقف، وفي ظل التقدم التركي في عملية «درع الفرات»، قفز إلى السطح التوتر بين أنقرة وبغداد الذي فتح مبكرًا، وعلى الصعيد السياسي معركة الموصل قبل أن تبدأ ميدانيًا، وذلك سعيا لإبعاد تركيا عنها بدعم من قوى إقليمية متدخلة في سوريا والعراق، في مقدمتها إيران، وكذلك بدعم من واشنطن، لتثور التساؤلات حول آفاق هذا التعقيد في الموقف، وكيف ستواجهه تركيا.
وفي هذا السياق، يقول أرشد هورموزلو، كبير مستشاري الرئيس التركي السابق عبد الله غل لشؤون الشرق الأوسط، إن «سياسة تركيا تقوم على تأييد وحدة أراضي العراق وسيادته، وليست لديها مطامع إقليمية في أية دولة في المنطقة، وهي ترفض ما يُقال عن العثمانية الجديدة لأن هدفها الأساسي هو التصدي للمنظمات الإرهابية، سواءً كانت متمثلة في (داعش) أو العمال الكردستاني أو امتداده في سوريا (حزب الاتحاد الديمقراطي) وميليشيا (وحدات حماية الشعب) الكردية»، مستطردا: «لتركيا مبررات قوية جدًا، وهي أنه تربطها حدود مع العراق تمتد لنحو 420 كيلومترًا، ومع سوريا لنحو 920 كيلومترًا. وبالتالي، يجب أن تحمي نفسها من التهديدات الإرهابية، وأن تضمن سلامة أراضيها ومواطنيها».
ويضيف هورموزلو، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنه «عندما نأتي بشكل خاص إلى موضوع العراق، وما أثير حول الوجود العسكري التركي المحدود في معسكر بعشيقة، فإنه تم بموافقة الحكومة المركزية في بغداد، وبموافقة الإدارة الكردية في إقليم كردستان شمال العراق، وفي إطار مهام تدريبية كما تفعل فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا أو عشرات الدول التي توجد قواتها في العراق، بما فيها نيوزيلندا. وكان على الإخوة العراقيين أن يتحمّسوا للوجود التركي لأنهم يعرفون جيدا أن لا مطامع لتركيا في بلادهم، وكل ما يقال عن أطماع في الموصل هي مسألة عفا عليها الزمن. والعراقيون يعرفون أن تركيا تحترم سيادة وحدود الدول الموجودة في المنطقة، صغيرة أم كبيرة، ولذلك يجب أن يكون هناك حوار بين الأطراف المعنية لمعرفة لماذا اتخذ هذا الموقف أو ذاك».
ويتابع المستشار الرئاسي السابق: «لكن للأسف هناك مطالبات معينة من قبل قسم من الميليشيات الموجودة في العراق، على الرغم من أن وجودها محظور بموجب الدستور العراقي الذي وضع عام 2005. وهناك أمر واقع، فثمة قسم من هذه الميليشيات يتعاون مع المنظمات الإرهابية، سواء أجنبية أو محلية. وعليه، فبطبيعة الحال ليس من مصلحتها أن تكون هناك قوة كبيرة ومتمكنة، مثل تركيا، في الحدود جاهزة للتدخل المباشر عندما تكون هناك أخطاء. ولذا، لا بد من الحوار الجاد دون لجوء للتهديدات والتصعيد الإعلامي من جهة أو أخرى».
ويلفت هورموزلو إلى «أن هناك دولا إقليمية لها وجود كبير في العراق، وتركيا لا تعارض ذلك ما دامت الحكومة المركزية في العراق تقبل، غير أن حكومة بغداد يجب أن تعلم، في المقابل، أن تركيا لها أشقاء في العراق، هم التركمان والعرب والأكراد وجميع الإثنيات الأخرى. وبالتالي، يجب أن تسمح لها بمد يد المساعدة لهم».
ومن ناحية ثانية، ينتقد هورموزلو موقف واشنطن مما تقوم به تركيا، سواء في سوريا أو ما تريد عمله من أجل الإخوة في العراق، معتبرًا أنه «لا يتوافق مع القواعد الأخلاقية، ولا مع ما يقتضيه التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وأنقرة».
* انزعاج إيراني
وعلى الصعيد المتعلق بإيران، يرى رسول طوسون، النائب السابق عن حزب العدالة والتنمية الحاكم في البرلمان التركي والكاتب في صحيفة «ستار»، أن «أكثر من يتحمل مسؤولية الفوضى في سوريا والعراق هي الولايات المتحدة الأميركية التي لا ترى شيئًا في المنطقة غير المحافظة على أمن إسرائيل. فرغم أنّ أميركا تدعي أنها تواجه الإرهاب، فإن سياستها الحقيقية تدعم المنظمات الإرهابية على الأرض»، مردفا: «لا شك أيضًا أن عملية (درع الفرات) التي قادتها تركيا في سوريا أزعجت وأثارت قلق الإيرانيين حول إمكانية قيام تركيا بعملية مماثلة لتخليص الموصل من يد (داعش)، بعد عجز الحكومة العراقية عن القيام بذلك. ويزداد قلقهم خصوصا مع تصريحات الرئيس رجب طيب إردوغان الأخيرة حول اتفاقية لوزان، خوفا من إمكانية إلحاق الموصل بهذه النقاشات، رغم أنّ الموصل الآن تحت سيطرة (داعش)، ولا تخضع لسيطرة الدولة العراقية». ويلفت طوسون إلى أن تركيا «أكدت مرارًا موقفها الثابت تجاه وحدة الأراضي السورية ووحدة الأراضي العراقية، بينما تتحدث الولايات المتحدة وتتخذ سياسات أقرب لتقسيم الدولتين. ومع هذا، لا تزال الحكومة العراقية تركن إلى الولايات المتحدة أكثر مما تركن إلى تركيا.. إن أصل المشكلة يكمن في الجهة التي تقف خلف الحكومة العراقية، وتنزعج من زيادة نفوذ تركيا في المنطقة». ويعتبر طوسون، أخيرًا، أن «محاولة بعض رجال الدين الشيعة تفضيل التقارب مع الغرب غير المسلم على التقارب مع تركيا لعبة خطرة، وعلى إيران أنْ تكون حذرة جدا تجاه هذا الأمر، كما أن على الدولة العراقية ألا تنشغل أو تخضع للسياسات الطائفية، بل عليها أنْ تعمل جاهدة على حماية ووحدة الأراضي العراقية، وتوحيد العراقيين. لكن إذا فقد العراق وحدة أراضيه، فحينذاك سيحق لتركيا أن تكون لها كلمة.. نحن هنا نتحدث عن حق تاريخي وجغرافي لتركيا».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.