يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

ما يمكن أن تخسره حكومة الوفاق الليبية في المعركة ضد التنظيم المتطرف

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»
TT

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

هذا الشاب الذي يحمل رتبة نقيب في قوات «البنيان المرصوص» ضد «داعش» في مدينة سرت الليبية، يلقبه بعض المقاتلين بـ«الكابتن عبد الرحيم»، لأنه أبلى بلاء حسنًا على الأرض، ومن فوق ظهر الدبابة. لكنه تلقى أوامر أخيرًا من قائد عسكري يقيم في طرابلس، ويعد من زعماء جماعة الإخوان المسلمين، تطلب منه شحن مقاتليه في سياراتهم والعودة بهم إلى مدينة مصراتة التي ينتمي إليها الغالبية العظمى من المحاربين على جبهة سرت. كانت مجموعة عبد الرحيم تتصدى مع مجموعات أخرى لفلول الدواعش، وتمنعهم من التقدم في منطقة العمارات الهندية، بعد أن انسحب منها مقاتلون تابعون لقوات «البنيان المرصوص» قبل أيام. وقد بدأ الضابط الشاب في جمع مقاتليه، وهو يصيح في غضب ظاهر، لكن عددًا منهم، ومعظمهم من شباب مصراتة المتطوعين لمقاتلة «داعش»، دخل معه في نقاش ورفض 20 منهم على الأقل، أي أكثر من نصف عدد المجموعة، الانصياع للأوامر أو ترك الجبهة.
من بين هؤلاء المقاتلين المدنيين الشبان إسماعيل، الذي لوح بسلاحه مهددًا، وقال إنه لن يغادر. ورفع إسماعيل (28 عامًا)، صوته في الساحة كأنه يلقي خطبة محذرًا من «الخيانة»، ومن «بيع دماء (الشهداء)» الذين سقطوا في المعارك ضد «داعش» منذ بدء العملية في مايو (أيار) الماضي، مذكرًا في الوقت نفسه بما قال إنه قيام «قيادات منتمية لجماعة الإخوان في المؤتمر الوطني في طرابلس بإفشال هجوم قامت به قوات من مصراتة ضد (داعش) العام الماضي».
وبينما خيّمت الحيرة على رؤوس المجموعة، وجّه إسماعيل أسئلة للنقيب عبد الرحيم، والكلام يندفع من فمه مثل طلقات رصاص: «أريد أن أعرف من أين تأتي هذه الأوامر.. هل جاءت من الأفندي (يقصد مسؤولاً بدرجة عميد في عملية البنيان المرصوص يقيم في مصراتة)؟ أم أنها جاءت من الأفندي الفلاني (يقصد قائدًا بدرجة مقدم في جبهة سرت)، أم من علان (يقصد قائدًا في سرايا دعم بنغازي يقيم في بلدة هون جنوبًا)؟».
وبدا أن الأمور تخرج عن السيطرة، رغم أن المئات كانوا يقاتلون بضراوة؛ فالدبابات تطحن الإسفلت وتدهس كتل الحجارة والإسمنت، وتفتح دربًا لملاحقة «داعش».. انفجارات القذائف تصم الآذان، وسيارات الإسعاف تلتقط الجرحى من زوايا المباني. ومع ذلك تُثار مثل هذه المناقشات المثبطة للهمم.
في المساء، تلقى إسماعيل رسائل من قادة آخرين على الجبهة بالبقاء مع زملائه في الحرب، والانضمام إلى كتيبة من الكتائب الأساسية التي تحارب هنا، أي أن تقوم بتكليفه بمهام وتكون مسؤولة عن مده بالذخيرة والإسعافات الطبية والطعام. وبهذه الطريقة يكون هناك معنى لـ«جبهة الحرب.. الأخوة»، كما يقول إسماعيل.
لكن، ووفقًا لتركيبة الكتائب والميليشيات، فإن تصرف إسماعيل ومن معه في سرت قد يحرمهم من الحصول على المكافآت المقررة لهم كمنتسبين في المجالس العسكرية للمدن، وهي مجالس تكونت أثناء الانتفاضة المسلحة التي دعمها حلف «الناتو» ضد نظام معمر القذافي. فكل مجلس عسكري لديه كشوف بأسماء منتسبيه، لكن من يفكر في الاستفادة المالية وهو يواجه الموت؟
مواقف محيرة كهذه تتكرر بشكل واضح بين قادة ومقاتلين متطوعين على الجبهة. وهذا أمر من شأنه أن يثير تساؤلات بشأن القوات التي يعتمد عليها المجلس الرئاسي في محاولته بسط سلطانه على بلد يعاني من الانفلات منذ أكثر من خمس سنوات. كما أنه يثير المزيد من علامات الاستفهام حول فاعلية المساعدات التي تقدمها عدة دول غربية للمجلس الرئاسي، وما تطلق عليه هذه الدول «قوات حكومة الوفاق» برئاسة فايز السراج.
ويخشى أعضاء في مجلس السراج من خسائر في معركة سرت قد تؤدي لانتكاسة أو تؤخر النصر. وفي هذا السياق يقول الدكتور جمال حريشة، الذي ترك حزب «العدالة والبناء» الإخواني، بعد أن شارك في تأسيسه في العاصمة الليبية عقب سقوط نظام القذافي، إن «تجربة الحرب على (داعش) في 2015 تثير ذكريات مريرة لدى المقاتلين على جبهة سرت اليوم». ويضيف لـ«الشرق الأوسط» موضحًا أن من أصدر الأوامر حينها بوقف مهاجمة «داعش» كانوا من بين قيادات في المؤتمر الوطني في طرابلس.
ومن جانبه، استبعد عوض عبد الصادق، نائب رئيس المؤتمر الوطني، الذي يوجد مقره في العاصمة الليبية، أن يكون هناك أي دعم يصل لدواعش سرت من داخل البلاد، بقوله: «لا يستطيع أحد أن يقدم الدعم لهم.. فمن يقدم الدعم لـ(داعش) فسيُحارب حتى لو كان من حلفاء اليوم».
ووفقًا لمصدر مقرب من المجلس الرئاسي، فقد بدأ المجلس في إجراء تحقيقات عما يجري على جبهة سرت، لا تقتصر فقط على «تصرفات متخاذلة» بدت من بعض قادة الميليشيات والكتائب المشاركة في الحرب على «داعش»، ولكنها تتضمن أيضًا التحقيق في العملية برمتها. وفي هذا السياق يقول طارق القزيري، أحد مستشاري الحوار والاتفاق السياسي الليبي الذي أنتج المجلس الرئاسي، إن الانتصار في سرت محسوم لصالح «البنيان المرصوص».
وبعيدًا عن جدل السياسيين والتصرفات الرعناء لبعض القادة من ذوي التوجهات المذهبية والجهوية، يبقى على الجبهة جماعات من الشبان الذين يواجهون «العدو» بشجاعة، ويرفضون العودة إلى ذويهم قبل رفع رايات النصر في شوارع سرت «حتى لو انسحب مَن انسحب، وحتى لو توقفت المساعدات الأميركية»، كما يقول المقاتل خالد، وهو رجل مدني يرتدي صدرية عسكرية مموهة وبنطلون جينز أزرق، يقف على حاجز يؤدي إلى منطقة مصيف السبعة في غرب المدينة. فقد تصدى قبل أيام مع ثلاثين من زملائه لهجوم داعشي يائس. وتقع بالقرب من المصيف مرافئ للزوارق البحرية يبدو أنها كانت ذات أهمية للتنظيم المتطرف.
لم يتلقَّ خالد، وهو من أبناء مصراتة، أي تدريبات عسكرية نظامية تُذكر، لكن خبرته في حمل السلاح والقتال لا يستهان بها. وهو يعد قناصًا ماهرًا ببندقية الـ«إف إن»، ويضرب قذائف «آر بي جيه» دون أن يهتز. كما شارك، بحماسته واندفاعه في دحر قوات القذافي في طرابلس عام 2011، وشارك في حرب مطار العاصمة لطرد ميليشيات منافسة في 2014، وخلال الحرب الجديدة في سرت، اكتسب مهارة إضافية تجعله قادرًا على تحديد الأهداف لرماة المدفعية الثقيلة. ومن بين جيرانه شاب نحيف ضمن طاقم دبابة مكتوب على مقدمتها «كل نفس ذائقة الموت».
ويتقاضى خالد، البالغ من العمر 29 عامًا، الأب لطفلين، راتبًا شهريًا من المجلس العسكري الذي يتبعه كمكافأة ينفق منها على أسرته. ومع ذلك يقول إنه مجرد متطوع لـ«الحفاظ على الثورة»، وإنه سيعود لوظيفته الأصلية بعد أن تستقر الدولة. ويوجد عدة آلاف مثله، يعملون منذ ما يزيد على خمس سنوات ضمن ميليشيات، ويطلقون على أنفسهم «ثوارًا» و«متطوعين» لمنع عودة النظام القديم، والعمل على بناء نظام جديد.
ويبدو أن البعثة الأممية إلى ليبيا لم تجد غضاضة في ترسيخ هذا الواقع، كما يقول لـ«الشرق الأوسط» الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، القيادي في جبهة النضال الوطني الليبي. وقد رحب زعماء عدة ميليشيات وغالبيتهم من ذوي الأصول المصراتية بقدوم السراج إلى العاصمة في أواخر مارس (آذار)، وشارك مقاتلوها في تأمين مقر تابع لوزارة الداخلية في طرابلس لصالح السراج. ويقول خالد إن الميليشيات تكبدت مقابل هذا الموقف خسائر كثيرة في صورة انشقاقات واتهامات بالخيانة من جانب بعض الداعمين لحكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني. وفي الوقت الحالي فقد مجلس السراج مقر وزارة الداخلية بسبب انشغال مقاتليه في ملاحقة «داعش». ربما كان هذا يسهم في تفسير السبب وراء تخبط قرارات بعض قادة الميليشيات بشأن جبهة سرت، وخشيتهم من فقد جبهات كانت تحت أيديهم، خصوصًا في الغرب والجنوب.
ويتضح من حالة الحرب ضد «داعش» وجود ما يشبه السيولة السياسية والعسكرية والأمنية. إنها حالة صعبة لا تجعل هناك يقينًا أو ثقة، حيث تتداخل المواقف وتتغير الولاءات يومًا بعد يوم، وكل شيء يتغير مثلما تتغير معالم سرت الجميلة إلى مدينة ذات أسقف مهدمة، وجدران مثقوبة بالقذائف يغطيها الدخان. وفي هذا الصدد يقول إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، إن أجواء الشد والجذب بين قادة الميليشيات لا تساعد على «حوار سياسي مثمر»، ويشير إلى أن بعثة الأمم المتحدة لا يبدو أنها جادة في الوصول إلى حلول بقوله: «نحن نرى أنها منحازة لمجلس السراج، وتتحامل على البرلمان الشرعي والجيش الوطني. ومن يدفع الثمن هم الليبيون.. يدفعونه من دماء أبنائهم».
وفي خضم الحرب الدائرة يذهب ضحية الاضطرابات آلاف الشبان ما بين قتلى وجرحى، وآلاف العائلات ما بين نازحين ومهجرين. وبعد أن توجّه المقاتلون إلى سرت تاركين مواقعهم في طرابلس ومصراتة ومناطق أخرى قريبة من بنغازي، بدأت عدة أطراف تتنفس الصعداء، وتعد العدة لشغل الفراغ. فالجيش بقيادة المشير خليفة حفتر لم يكن صاحب الحركة الوحيدة لاقتناص مكاسب في الموانئ النفطية. ولكن تحركت أيضًا حكومة الإنقاذ في طرابلس بعد شهور من اختفاء رجالها عن مسرح الأحداث.
وحكومة الإنقاذ هذه التي يرأسها خليفة الغويل، منبثقة عن «المؤتمر الوطني العام»، أي البرلمان السابق، ويرفض بعض أعضاء المؤتمر الاعتراف بالسراج، وبدأوا خلال الأيام الأخيرة في استئناف عقد جلسات في العاصمة، وهم لا يعترفون كذلك بالبرلمان الحالي الذي يعقد جلساته في طبرق، ولا بقائد الجيش حفتر، ولا بالحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الله الثني، والتي تعمل انطلاقًا من مدينة البيضاء في الشرق. لكن النائب عبد الصادق يقول إن «المؤتمر الوطني» مستعد لبحث كل نقاط الخلاف مع «البرلمان».
ويرى نائب رئيس المؤتمر أن قضية إنهاء «داعش» في سرت «كان بالإمكان حلها بطرق أسهل»، مضيفًا أن أغلب المقاتلين من مدينة مصراتة و«الآن فقدوا أكثر من 500 (شهيد) في هذه المعارك التي كان في الإمكان تفاديها».
إلا أن عبد الصادق، من جانب آخر، لا يخفي شدة الخصومة مع مجلس السراج، قائلا إنه حين دخل المجلس الرئاسي إلى طرابلس، استولى على مقار تابعة لحكومة الإنقاذ وللمؤتمر الوطني. وكشف عن أن حكومة الغويل «ما زالت تجتمع، وما زالت بعض المقار تحت سيطرتها.. والآن بدأت خطوات لاسترجاع بعض المقار الأخرى. ولعل آخرها كان استرجاع مقر وزارة الداخلية.. وفي الأيام المقبلة سيرى الليبيون والمجتمع الدولي بأن حكومة الإنقاذ تقوم بخطوات حثيثة لتقف على أرضية صلبة داخل العاصمة، ومن ثم تفرض سيطرتها ربما حتى خارج العاصمة».
على أي حال يمكن القول إن حرب سرت أحيت جبهات أخرى كثيرة كلها تعمل ضد مجلس السراج. ويبدو مثل هذا التنازع مؤلمًا حين تستمع إلى مقاتلين مدنيين مثل إسماعيل وخالد. فقد جاء هؤلاء إلى سرت مع عدة آلاف من الشبان المندفعين لطرد «داعش»، والآن وصلوا إلى المربع الأخير. لكن هنا أصبحت الأمور تتبدل بشكل غريب.
يقول إسماعيل موضحًا: «كيف يمكن أن تبتعد من أمام عينيك لحظة النصر النهائي، بعد أن كنت قد قاربت على الإمساك بها». وبالإضافة إلى مئات القتلى، تكبدت قوات «البنيان المرصوص» نحو 3000 جريح، ونفذت الميليشيات التي أيدت السراج واحدة من أكبر عمليات إعادة الانتشار ما بين طرابلس ومصراتة والبلدات المجاورة لهما، وذلك حين أعلن رئيس المجلس في أبريل (نيسان) الماضي عن تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة لتحرير سرت، في تحد لحفتر والبرلمان الذي يسانده. وبعد نحو خمسة أشهر من انطلاقها وتعضيد الولايات المتحدة لها، لا يبدو أن حرب السراج هنا ستنتهي سريعًا كما كان يتوقع البعض.
ومع أن القزيري يقر بأن العمليات في سرت تباطأت، فإنه يقول إن هناك سببين لهذا التباطؤ «الأول» عدم الرغبة في إيقاع المزيد من «الشهداء» طالما كانت مسألة تحرير سرت محسومة. والثاني «المقاومة الشديدة جدا»، التي يبديها الدواعش. بيد أن الدكتور حريشة يفسر الأمر بطريقة مختلفة، ملقيًا باللوم على من يقدمون مساعدات لـ«داعش». ويضيف موضحا: «ما زال هناك أناس يساعدون (داعش) للوقوف ضد تقدم قوات (البنيان المرصوص).. وهذا يفسر تأخير الحسم في هذه الحرب، وسقوط كثير من أبنائنا ما بين (شهيد) ومصاب». وبعد لحظات من الصمت والتفكير، يضيف قائلا إن «سبب الانتكاسة التي تلوح في الأفق هو أنه ما زالت هناك جماعة تؤيد (داعش).. وتعد من القيادات في طرابلس».
ويستعيد قادة من أولئك المتمسكين باستمرار الحرب على «داعش» في سرت التفكير في أحداث مثيرة للريبة وقعت في عام 2015، تتعلق بخطة عسكرية وضعتها حكومة الغويل لطرد «داعش» من المدينة، حين كان التنظيم فيها ما زال ضعيفًا، ويقول قائد عسكري في قوات «البنيان المرصوص» ممن شارك وقتها في العملية ضمن «الكتيبة 166»: «في ذلك الحين تقدمنا بقوة. لكن الخطة جرى إفشالها لأسباب غير مفهومة. لقد تكبدنا حينذاك خسائر فادحة ثم قيل لنا، ونحن في منتصف الطريق: (ارجعوا إلى مصراتة)».
ويضيف أنه ترتب على ذلك تمدد «داعش» في سرت، وسيطرة التنظيم على قاعدة عسكرية وعلى باقي مرافق المدينة، بما فيها قاعة واغادوغو للمؤتمرات. ومن جانبه يوضح الدكتور حريشة أن قوات «الكتيبة 166» في ذلك الوقت (في ربيع العام الماضي) تحركت من مصراتة لطرد «داعش» من سرت، لكن صدرت لها أوامر بالعودة.. لماذا؟ يجيب قائلا إن السبب كان يتعلق بوجود أشخاص على قمة الهرم في طرابلس، وفي المؤتمر الوطني، ساعدوا هؤلاء الدواعش. وبالتالي مُنعوا من أن يحاربوا التنظيم المتطرف في سرت. ويزيد موضحًا أن محاولة حماية «داعش» والإبقاء على عناصر التنظيم تتكرر اليوم مرة أخرى من القيادات نفسها التي قامت بمنع الحرب على التنظيم العام الماضي، مشيرًا إلى أن الدعم الذي تتلقاه عملية «البنيان المرصوص» من باقي المدن الليبية «بسيط جدا»، وأن «الذين فُقدوا من المدن الأخرى في الحرب في سرت لا يزيد على 4 إلى 5 في المائة من (الشهداء) الذين فقدتهم مصراتة وحدها». وهو يتحدث عن وجود منافذ يبدو أنها تعطي لدواعش سرت القدرة على التنفس حتى الآن. فحين جرت محاصرتهم، وجد بعضهم طريقًا إلى الصحراء «حيث يمكن من هناك مساعدة المتحصنين في المدينة بطريقة أو بأخرى»، أو كما يقول: «هذا يجعل بؤرة الاقتتال في سرت مشتعلة لفترة أطول».
بيد أن عبد الصادق يرى، مثلما يرى القزيري، أن دواعش سرت أصبحوا «محاصرين في منطقة ضيقة جدا.. وإذا نحن في المؤتمر الوطني، أو في حكومة الإنقاذ، أو في أي جهة تمثل خطوط الثوار المعتدلة، رأينا أي أحد يمول أو يدعم هذه الفئات الإرهابية المارقة، فإننا سنقف له بالمرصاد، وسنصده، ولن يكون له مكان بيننا».



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».