يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

ما يمكن أن تخسره حكومة الوفاق الليبية في المعركة ضد التنظيم المتطرف

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»
TT

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

هذا الشاب الذي يحمل رتبة نقيب في قوات «البنيان المرصوص» ضد «داعش» في مدينة سرت الليبية، يلقبه بعض المقاتلين بـ«الكابتن عبد الرحيم»، لأنه أبلى بلاء حسنًا على الأرض، ومن فوق ظهر الدبابة. لكنه تلقى أوامر أخيرًا من قائد عسكري يقيم في طرابلس، ويعد من زعماء جماعة الإخوان المسلمين، تطلب منه شحن مقاتليه في سياراتهم والعودة بهم إلى مدينة مصراتة التي ينتمي إليها الغالبية العظمى من المحاربين على جبهة سرت. كانت مجموعة عبد الرحيم تتصدى مع مجموعات أخرى لفلول الدواعش، وتمنعهم من التقدم في منطقة العمارات الهندية، بعد أن انسحب منها مقاتلون تابعون لقوات «البنيان المرصوص» قبل أيام. وقد بدأ الضابط الشاب في جمع مقاتليه، وهو يصيح في غضب ظاهر، لكن عددًا منهم، ومعظمهم من شباب مصراتة المتطوعين لمقاتلة «داعش»، دخل معه في نقاش ورفض 20 منهم على الأقل، أي أكثر من نصف عدد المجموعة، الانصياع للأوامر أو ترك الجبهة.
من بين هؤلاء المقاتلين المدنيين الشبان إسماعيل، الذي لوح بسلاحه مهددًا، وقال إنه لن يغادر. ورفع إسماعيل (28 عامًا)، صوته في الساحة كأنه يلقي خطبة محذرًا من «الخيانة»، ومن «بيع دماء (الشهداء)» الذين سقطوا في المعارك ضد «داعش» منذ بدء العملية في مايو (أيار) الماضي، مذكرًا في الوقت نفسه بما قال إنه قيام «قيادات منتمية لجماعة الإخوان في المؤتمر الوطني في طرابلس بإفشال هجوم قامت به قوات من مصراتة ضد (داعش) العام الماضي».
وبينما خيّمت الحيرة على رؤوس المجموعة، وجّه إسماعيل أسئلة للنقيب عبد الرحيم، والكلام يندفع من فمه مثل طلقات رصاص: «أريد أن أعرف من أين تأتي هذه الأوامر.. هل جاءت من الأفندي (يقصد مسؤولاً بدرجة عميد في عملية البنيان المرصوص يقيم في مصراتة)؟ أم أنها جاءت من الأفندي الفلاني (يقصد قائدًا بدرجة مقدم في جبهة سرت)، أم من علان (يقصد قائدًا في سرايا دعم بنغازي يقيم في بلدة هون جنوبًا)؟».
وبدا أن الأمور تخرج عن السيطرة، رغم أن المئات كانوا يقاتلون بضراوة؛ فالدبابات تطحن الإسفلت وتدهس كتل الحجارة والإسمنت، وتفتح دربًا لملاحقة «داعش».. انفجارات القذائف تصم الآذان، وسيارات الإسعاف تلتقط الجرحى من زوايا المباني. ومع ذلك تُثار مثل هذه المناقشات المثبطة للهمم.
في المساء، تلقى إسماعيل رسائل من قادة آخرين على الجبهة بالبقاء مع زملائه في الحرب، والانضمام إلى كتيبة من الكتائب الأساسية التي تحارب هنا، أي أن تقوم بتكليفه بمهام وتكون مسؤولة عن مده بالذخيرة والإسعافات الطبية والطعام. وبهذه الطريقة يكون هناك معنى لـ«جبهة الحرب.. الأخوة»، كما يقول إسماعيل.
لكن، ووفقًا لتركيبة الكتائب والميليشيات، فإن تصرف إسماعيل ومن معه في سرت قد يحرمهم من الحصول على المكافآت المقررة لهم كمنتسبين في المجالس العسكرية للمدن، وهي مجالس تكونت أثناء الانتفاضة المسلحة التي دعمها حلف «الناتو» ضد نظام معمر القذافي. فكل مجلس عسكري لديه كشوف بأسماء منتسبيه، لكن من يفكر في الاستفادة المالية وهو يواجه الموت؟
مواقف محيرة كهذه تتكرر بشكل واضح بين قادة ومقاتلين متطوعين على الجبهة. وهذا أمر من شأنه أن يثير تساؤلات بشأن القوات التي يعتمد عليها المجلس الرئاسي في محاولته بسط سلطانه على بلد يعاني من الانفلات منذ أكثر من خمس سنوات. كما أنه يثير المزيد من علامات الاستفهام حول فاعلية المساعدات التي تقدمها عدة دول غربية للمجلس الرئاسي، وما تطلق عليه هذه الدول «قوات حكومة الوفاق» برئاسة فايز السراج.
ويخشى أعضاء في مجلس السراج من خسائر في معركة سرت قد تؤدي لانتكاسة أو تؤخر النصر. وفي هذا السياق يقول الدكتور جمال حريشة، الذي ترك حزب «العدالة والبناء» الإخواني، بعد أن شارك في تأسيسه في العاصمة الليبية عقب سقوط نظام القذافي، إن «تجربة الحرب على (داعش) في 2015 تثير ذكريات مريرة لدى المقاتلين على جبهة سرت اليوم». ويضيف لـ«الشرق الأوسط» موضحًا أن من أصدر الأوامر حينها بوقف مهاجمة «داعش» كانوا من بين قيادات في المؤتمر الوطني في طرابلس.
ومن جانبه، استبعد عوض عبد الصادق، نائب رئيس المؤتمر الوطني، الذي يوجد مقره في العاصمة الليبية، أن يكون هناك أي دعم يصل لدواعش سرت من داخل البلاد، بقوله: «لا يستطيع أحد أن يقدم الدعم لهم.. فمن يقدم الدعم لـ(داعش) فسيُحارب حتى لو كان من حلفاء اليوم».
ووفقًا لمصدر مقرب من المجلس الرئاسي، فقد بدأ المجلس في إجراء تحقيقات عما يجري على جبهة سرت، لا تقتصر فقط على «تصرفات متخاذلة» بدت من بعض قادة الميليشيات والكتائب المشاركة في الحرب على «داعش»، ولكنها تتضمن أيضًا التحقيق في العملية برمتها. وفي هذا السياق يقول طارق القزيري، أحد مستشاري الحوار والاتفاق السياسي الليبي الذي أنتج المجلس الرئاسي، إن الانتصار في سرت محسوم لصالح «البنيان المرصوص».
وبعيدًا عن جدل السياسيين والتصرفات الرعناء لبعض القادة من ذوي التوجهات المذهبية والجهوية، يبقى على الجبهة جماعات من الشبان الذين يواجهون «العدو» بشجاعة، ويرفضون العودة إلى ذويهم قبل رفع رايات النصر في شوارع سرت «حتى لو انسحب مَن انسحب، وحتى لو توقفت المساعدات الأميركية»، كما يقول المقاتل خالد، وهو رجل مدني يرتدي صدرية عسكرية مموهة وبنطلون جينز أزرق، يقف على حاجز يؤدي إلى منطقة مصيف السبعة في غرب المدينة. فقد تصدى قبل أيام مع ثلاثين من زملائه لهجوم داعشي يائس. وتقع بالقرب من المصيف مرافئ للزوارق البحرية يبدو أنها كانت ذات أهمية للتنظيم المتطرف.
لم يتلقَّ خالد، وهو من أبناء مصراتة، أي تدريبات عسكرية نظامية تُذكر، لكن خبرته في حمل السلاح والقتال لا يستهان بها. وهو يعد قناصًا ماهرًا ببندقية الـ«إف إن»، ويضرب قذائف «آر بي جيه» دون أن يهتز. كما شارك، بحماسته واندفاعه في دحر قوات القذافي في طرابلس عام 2011، وشارك في حرب مطار العاصمة لطرد ميليشيات منافسة في 2014، وخلال الحرب الجديدة في سرت، اكتسب مهارة إضافية تجعله قادرًا على تحديد الأهداف لرماة المدفعية الثقيلة. ومن بين جيرانه شاب نحيف ضمن طاقم دبابة مكتوب على مقدمتها «كل نفس ذائقة الموت».
ويتقاضى خالد، البالغ من العمر 29 عامًا، الأب لطفلين، راتبًا شهريًا من المجلس العسكري الذي يتبعه كمكافأة ينفق منها على أسرته. ومع ذلك يقول إنه مجرد متطوع لـ«الحفاظ على الثورة»، وإنه سيعود لوظيفته الأصلية بعد أن تستقر الدولة. ويوجد عدة آلاف مثله، يعملون منذ ما يزيد على خمس سنوات ضمن ميليشيات، ويطلقون على أنفسهم «ثوارًا» و«متطوعين» لمنع عودة النظام القديم، والعمل على بناء نظام جديد.
ويبدو أن البعثة الأممية إلى ليبيا لم تجد غضاضة في ترسيخ هذا الواقع، كما يقول لـ«الشرق الأوسط» الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، القيادي في جبهة النضال الوطني الليبي. وقد رحب زعماء عدة ميليشيات وغالبيتهم من ذوي الأصول المصراتية بقدوم السراج إلى العاصمة في أواخر مارس (آذار)، وشارك مقاتلوها في تأمين مقر تابع لوزارة الداخلية في طرابلس لصالح السراج. ويقول خالد إن الميليشيات تكبدت مقابل هذا الموقف خسائر كثيرة في صورة انشقاقات واتهامات بالخيانة من جانب بعض الداعمين لحكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني. وفي الوقت الحالي فقد مجلس السراج مقر وزارة الداخلية بسبب انشغال مقاتليه في ملاحقة «داعش». ربما كان هذا يسهم في تفسير السبب وراء تخبط قرارات بعض قادة الميليشيات بشأن جبهة سرت، وخشيتهم من فقد جبهات كانت تحت أيديهم، خصوصًا في الغرب والجنوب.
ويتضح من حالة الحرب ضد «داعش» وجود ما يشبه السيولة السياسية والعسكرية والأمنية. إنها حالة صعبة لا تجعل هناك يقينًا أو ثقة، حيث تتداخل المواقف وتتغير الولاءات يومًا بعد يوم، وكل شيء يتغير مثلما تتغير معالم سرت الجميلة إلى مدينة ذات أسقف مهدمة، وجدران مثقوبة بالقذائف يغطيها الدخان. وفي هذا الصدد يقول إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، إن أجواء الشد والجذب بين قادة الميليشيات لا تساعد على «حوار سياسي مثمر»، ويشير إلى أن بعثة الأمم المتحدة لا يبدو أنها جادة في الوصول إلى حلول بقوله: «نحن نرى أنها منحازة لمجلس السراج، وتتحامل على البرلمان الشرعي والجيش الوطني. ومن يدفع الثمن هم الليبيون.. يدفعونه من دماء أبنائهم».
وفي خضم الحرب الدائرة يذهب ضحية الاضطرابات آلاف الشبان ما بين قتلى وجرحى، وآلاف العائلات ما بين نازحين ومهجرين. وبعد أن توجّه المقاتلون إلى سرت تاركين مواقعهم في طرابلس ومصراتة ومناطق أخرى قريبة من بنغازي، بدأت عدة أطراف تتنفس الصعداء، وتعد العدة لشغل الفراغ. فالجيش بقيادة المشير خليفة حفتر لم يكن صاحب الحركة الوحيدة لاقتناص مكاسب في الموانئ النفطية. ولكن تحركت أيضًا حكومة الإنقاذ في طرابلس بعد شهور من اختفاء رجالها عن مسرح الأحداث.
وحكومة الإنقاذ هذه التي يرأسها خليفة الغويل، منبثقة عن «المؤتمر الوطني العام»، أي البرلمان السابق، ويرفض بعض أعضاء المؤتمر الاعتراف بالسراج، وبدأوا خلال الأيام الأخيرة في استئناف عقد جلسات في العاصمة، وهم لا يعترفون كذلك بالبرلمان الحالي الذي يعقد جلساته في طبرق، ولا بقائد الجيش حفتر، ولا بالحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الله الثني، والتي تعمل انطلاقًا من مدينة البيضاء في الشرق. لكن النائب عبد الصادق يقول إن «المؤتمر الوطني» مستعد لبحث كل نقاط الخلاف مع «البرلمان».
ويرى نائب رئيس المؤتمر أن قضية إنهاء «داعش» في سرت «كان بالإمكان حلها بطرق أسهل»، مضيفًا أن أغلب المقاتلين من مدينة مصراتة و«الآن فقدوا أكثر من 500 (شهيد) في هذه المعارك التي كان في الإمكان تفاديها».
إلا أن عبد الصادق، من جانب آخر، لا يخفي شدة الخصومة مع مجلس السراج، قائلا إنه حين دخل المجلس الرئاسي إلى طرابلس، استولى على مقار تابعة لحكومة الإنقاذ وللمؤتمر الوطني. وكشف عن أن حكومة الغويل «ما زالت تجتمع، وما زالت بعض المقار تحت سيطرتها.. والآن بدأت خطوات لاسترجاع بعض المقار الأخرى. ولعل آخرها كان استرجاع مقر وزارة الداخلية.. وفي الأيام المقبلة سيرى الليبيون والمجتمع الدولي بأن حكومة الإنقاذ تقوم بخطوات حثيثة لتقف على أرضية صلبة داخل العاصمة، ومن ثم تفرض سيطرتها ربما حتى خارج العاصمة».
على أي حال يمكن القول إن حرب سرت أحيت جبهات أخرى كثيرة كلها تعمل ضد مجلس السراج. ويبدو مثل هذا التنازع مؤلمًا حين تستمع إلى مقاتلين مدنيين مثل إسماعيل وخالد. فقد جاء هؤلاء إلى سرت مع عدة آلاف من الشبان المندفعين لطرد «داعش»، والآن وصلوا إلى المربع الأخير. لكن هنا أصبحت الأمور تتبدل بشكل غريب.
يقول إسماعيل موضحًا: «كيف يمكن أن تبتعد من أمام عينيك لحظة النصر النهائي، بعد أن كنت قد قاربت على الإمساك بها». وبالإضافة إلى مئات القتلى، تكبدت قوات «البنيان المرصوص» نحو 3000 جريح، ونفذت الميليشيات التي أيدت السراج واحدة من أكبر عمليات إعادة الانتشار ما بين طرابلس ومصراتة والبلدات المجاورة لهما، وذلك حين أعلن رئيس المجلس في أبريل (نيسان) الماضي عن تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة لتحرير سرت، في تحد لحفتر والبرلمان الذي يسانده. وبعد نحو خمسة أشهر من انطلاقها وتعضيد الولايات المتحدة لها، لا يبدو أن حرب السراج هنا ستنتهي سريعًا كما كان يتوقع البعض.
ومع أن القزيري يقر بأن العمليات في سرت تباطأت، فإنه يقول إن هناك سببين لهذا التباطؤ «الأول» عدم الرغبة في إيقاع المزيد من «الشهداء» طالما كانت مسألة تحرير سرت محسومة. والثاني «المقاومة الشديدة جدا»، التي يبديها الدواعش. بيد أن الدكتور حريشة يفسر الأمر بطريقة مختلفة، ملقيًا باللوم على من يقدمون مساعدات لـ«داعش». ويضيف موضحا: «ما زال هناك أناس يساعدون (داعش) للوقوف ضد تقدم قوات (البنيان المرصوص).. وهذا يفسر تأخير الحسم في هذه الحرب، وسقوط كثير من أبنائنا ما بين (شهيد) ومصاب». وبعد لحظات من الصمت والتفكير، يضيف قائلا إن «سبب الانتكاسة التي تلوح في الأفق هو أنه ما زالت هناك جماعة تؤيد (داعش).. وتعد من القيادات في طرابلس».
ويستعيد قادة من أولئك المتمسكين باستمرار الحرب على «داعش» في سرت التفكير في أحداث مثيرة للريبة وقعت في عام 2015، تتعلق بخطة عسكرية وضعتها حكومة الغويل لطرد «داعش» من المدينة، حين كان التنظيم فيها ما زال ضعيفًا، ويقول قائد عسكري في قوات «البنيان المرصوص» ممن شارك وقتها في العملية ضمن «الكتيبة 166»: «في ذلك الحين تقدمنا بقوة. لكن الخطة جرى إفشالها لأسباب غير مفهومة. لقد تكبدنا حينذاك خسائر فادحة ثم قيل لنا، ونحن في منتصف الطريق: (ارجعوا إلى مصراتة)».
ويضيف أنه ترتب على ذلك تمدد «داعش» في سرت، وسيطرة التنظيم على قاعدة عسكرية وعلى باقي مرافق المدينة، بما فيها قاعة واغادوغو للمؤتمرات. ومن جانبه يوضح الدكتور حريشة أن قوات «الكتيبة 166» في ذلك الوقت (في ربيع العام الماضي) تحركت من مصراتة لطرد «داعش» من سرت، لكن صدرت لها أوامر بالعودة.. لماذا؟ يجيب قائلا إن السبب كان يتعلق بوجود أشخاص على قمة الهرم في طرابلس، وفي المؤتمر الوطني، ساعدوا هؤلاء الدواعش. وبالتالي مُنعوا من أن يحاربوا التنظيم المتطرف في سرت. ويزيد موضحًا أن محاولة حماية «داعش» والإبقاء على عناصر التنظيم تتكرر اليوم مرة أخرى من القيادات نفسها التي قامت بمنع الحرب على التنظيم العام الماضي، مشيرًا إلى أن الدعم الذي تتلقاه عملية «البنيان المرصوص» من باقي المدن الليبية «بسيط جدا»، وأن «الذين فُقدوا من المدن الأخرى في الحرب في سرت لا يزيد على 4 إلى 5 في المائة من (الشهداء) الذين فقدتهم مصراتة وحدها». وهو يتحدث عن وجود منافذ يبدو أنها تعطي لدواعش سرت القدرة على التنفس حتى الآن. فحين جرت محاصرتهم، وجد بعضهم طريقًا إلى الصحراء «حيث يمكن من هناك مساعدة المتحصنين في المدينة بطريقة أو بأخرى»، أو كما يقول: «هذا يجعل بؤرة الاقتتال في سرت مشتعلة لفترة أطول».
بيد أن عبد الصادق يرى، مثلما يرى القزيري، أن دواعش سرت أصبحوا «محاصرين في منطقة ضيقة جدا.. وإذا نحن في المؤتمر الوطني، أو في حكومة الإنقاذ، أو في أي جهة تمثل خطوط الثوار المعتدلة، رأينا أي أحد يمول أو يدعم هذه الفئات الإرهابية المارقة، فإننا سنقف له بالمرصاد، وسنصده، ولن يكون له مكان بيننا».



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».