يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

ما يمكن أن تخسره حكومة الوفاق الليبية في المعركة ضد التنظيم المتطرف

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»
TT

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

يوميات الحرب في سرت 2-5 :الخلافات تطيل عمر «داعش»

هذا الشاب الذي يحمل رتبة نقيب في قوات «البنيان المرصوص» ضد «داعش» في مدينة سرت الليبية، يلقبه بعض المقاتلين بـ«الكابتن عبد الرحيم»، لأنه أبلى بلاء حسنًا على الأرض، ومن فوق ظهر الدبابة. لكنه تلقى أوامر أخيرًا من قائد عسكري يقيم في طرابلس، ويعد من زعماء جماعة الإخوان المسلمين، تطلب منه شحن مقاتليه في سياراتهم والعودة بهم إلى مدينة مصراتة التي ينتمي إليها الغالبية العظمى من المحاربين على جبهة سرت. كانت مجموعة عبد الرحيم تتصدى مع مجموعات أخرى لفلول الدواعش، وتمنعهم من التقدم في منطقة العمارات الهندية، بعد أن انسحب منها مقاتلون تابعون لقوات «البنيان المرصوص» قبل أيام. وقد بدأ الضابط الشاب في جمع مقاتليه، وهو يصيح في غضب ظاهر، لكن عددًا منهم، ومعظمهم من شباب مصراتة المتطوعين لمقاتلة «داعش»، دخل معه في نقاش ورفض 20 منهم على الأقل، أي أكثر من نصف عدد المجموعة، الانصياع للأوامر أو ترك الجبهة.
من بين هؤلاء المقاتلين المدنيين الشبان إسماعيل، الذي لوح بسلاحه مهددًا، وقال إنه لن يغادر. ورفع إسماعيل (28 عامًا)، صوته في الساحة كأنه يلقي خطبة محذرًا من «الخيانة»، ومن «بيع دماء (الشهداء)» الذين سقطوا في المعارك ضد «داعش» منذ بدء العملية في مايو (أيار) الماضي، مذكرًا في الوقت نفسه بما قال إنه قيام «قيادات منتمية لجماعة الإخوان في المؤتمر الوطني في طرابلس بإفشال هجوم قامت به قوات من مصراتة ضد (داعش) العام الماضي».
وبينما خيّمت الحيرة على رؤوس المجموعة، وجّه إسماعيل أسئلة للنقيب عبد الرحيم، والكلام يندفع من فمه مثل طلقات رصاص: «أريد أن أعرف من أين تأتي هذه الأوامر.. هل جاءت من الأفندي (يقصد مسؤولاً بدرجة عميد في عملية البنيان المرصوص يقيم في مصراتة)؟ أم أنها جاءت من الأفندي الفلاني (يقصد قائدًا بدرجة مقدم في جبهة سرت)، أم من علان (يقصد قائدًا في سرايا دعم بنغازي يقيم في بلدة هون جنوبًا)؟».
وبدا أن الأمور تخرج عن السيطرة، رغم أن المئات كانوا يقاتلون بضراوة؛ فالدبابات تطحن الإسفلت وتدهس كتل الحجارة والإسمنت، وتفتح دربًا لملاحقة «داعش».. انفجارات القذائف تصم الآذان، وسيارات الإسعاف تلتقط الجرحى من زوايا المباني. ومع ذلك تُثار مثل هذه المناقشات المثبطة للهمم.
في المساء، تلقى إسماعيل رسائل من قادة آخرين على الجبهة بالبقاء مع زملائه في الحرب، والانضمام إلى كتيبة من الكتائب الأساسية التي تحارب هنا، أي أن تقوم بتكليفه بمهام وتكون مسؤولة عن مده بالذخيرة والإسعافات الطبية والطعام. وبهذه الطريقة يكون هناك معنى لـ«جبهة الحرب.. الأخوة»، كما يقول إسماعيل.
لكن، ووفقًا لتركيبة الكتائب والميليشيات، فإن تصرف إسماعيل ومن معه في سرت قد يحرمهم من الحصول على المكافآت المقررة لهم كمنتسبين في المجالس العسكرية للمدن، وهي مجالس تكونت أثناء الانتفاضة المسلحة التي دعمها حلف «الناتو» ضد نظام معمر القذافي. فكل مجلس عسكري لديه كشوف بأسماء منتسبيه، لكن من يفكر في الاستفادة المالية وهو يواجه الموت؟
مواقف محيرة كهذه تتكرر بشكل واضح بين قادة ومقاتلين متطوعين على الجبهة. وهذا أمر من شأنه أن يثير تساؤلات بشأن القوات التي يعتمد عليها المجلس الرئاسي في محاولته بسط سلطانه على بلد يعاني من الانفلات منذ أكثر من خمس سنوات. كما أنه يثير المزيد من علامات الاستفهام حول فاعلية المساعدات التي تقدمها عدة دول غربية للمجلس الرئاسي، وما تطلق عليه هذه الدول «قوات حكومة الوفاق» برئاسة فايز السراج.
ويخشى أعضاء في مجلس السراج من خسائر في معركة سرت قد تؤدي لانتكاسة أو تؤخر النصر. وفي هذا السياق يقول الدكتور جمال حريشة، الذي ترك حزب «العدالة والبناء» الإخواني، بعد أن شارك في تأسيسه في العاصمة الليبية عقب سقوط نظام القذافي، إن «تجربة الحرب على (داعش) في 2015 تثير ذكريات مريرة لدى المقاتلين على جبهة سرت اليوم». ويضيف لـ«الشرق الأوسط» موضحًا أن من أصدر الأوامر حينها بوقف مهاجمة «داعش» كانوا من بين قيادات في المؤتمر الوطني في طرابلس.
ومن جانبه، استبعد عوض عبد الصادق، نائب رئيس المؤتمر الوطني، الذي يوجد مقره في العاصمة الليبية، أن يكون هناك أي دعم يصل لدواعش سرت من داخل البلاد، بقوله: «لا يستطيع أحد أن يقدم الدعم لهم.. فمن يقدم الدعم لـ(داعش) فسيُحارب حتى لو كان من حلفاء اليوم».
ووفقًا لمصدر مقرب من المجلس الرئاسي، فقد بدأ المجلس في إجراء تحقيقات عما يجري على جبهة سرت، لا تقتصر فقط على «تصرفات متخاذلة» بدت من بعض قادة الميليشيات والكتائب المشاركة في الحرب على «داعش»، ولكنها تتضمن أيضًا التحقيق في العملية برمتها. وفي هذا السياق يقول طارق القزيري، أحد مستشاري الحوار والاتفاق السياسي الليبي الذي أنتج المجلس الرئاسي، إن الانتصار في سرت محسوم لصالح «البنيان المرصوص».
وبعيدًا عن جدل السياسيين والتصرفات الرعناء لبعض القادة من ذوي التوجهات المذهبية والجهوية، يبقى على الجبهة جماعات من الشبان الذين يواجهون «العدو» بشجاعة، ويرفضون العودة إلى ذويهم قبل رفع رايات النصر في شوارع سرت «حتى لو انسحب مَن انسحب، وحتى لو توقفت المساعدات الأميركية»، كما يقول المقاتل خالد، وهو رجل مدني يرتدي صدرية عسكرية مموهة وبنطلون جينز أزرق، يقف على حاجز يؤدي إلى منطقة مصيف السبعة في غرب المدينة. فقد تصدى قبل أيام مع ثلاثين من زملائه لهجوم داعشي يائس. وتقع بالقرب من المصيف مرافئ للزوارق البحرية يبدو أنها كانت ذات أهمية للتنظيم المتطرف.
لم يتلقَّ خالد، وهو من أبناء مصراتة، أي تدريبات عسكرية نظامية تُذكر، لكن خبرته في حمل السلاح والقتال لا يستهان بها. وهو يعد قناصًا ماهرًا ببندقية الـ«إف إن»، ويضرب قذائف «آر بي جيه» دون أن يهتز. كما شارك، بحماسته واندفاعه في دحر قوات القذافي في طرابلس عام 2011، وشارك في حرب مطار العاصمة لطرد ميليشيات منافسة في 2014، وخلال الحرب الجديدة في سرت، اكتسب مهارة إضافية تجعله قادرًا على تحديد الأهداف لرماة المدفعية الثقيلة. ومن بين جيرانه شاب نحيف ضمن طاقم دبابة مكتوب على مقدمتها «كل نفس ذائقة الموت».
ويتقاضى خالد، البالغ من العمر 29 عامًا، الأب لطفلين، راتبًا شهريًا من المجلس العسكري الذي يتبعه كمكافأة ينفق منها على أسرته. ومع ذلك يقول إنه مجرد متطوع لـ«الحفاظ على الثورة»، وإنه سيعود لوظيفته الأصلية بعد أن تستقر الدولة. ويوجد عدة آلاف مثله، يعملون منذ ما يزيد على خمس سنوات ضمن ميليشيات، ويطلقون على أنفسهم «ثوارًا» و«متطوعين» لمنع عودة النظام القديم، والعمل على بناء نظام جديد.
ويبدو أن البعثة الأممية إلى ليبيا لم تجد غضاضة في ترسيخ هذا الواقع، كما يقول لـ«الشرق الأوسط» الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، القيادي في جبهة النضال الوطني الليبي. وقد رحب زعماء عدة ميليشيات وغالبيتهم من ذوي الأصول المصراتية بقدوم السراج إلى العاصمة في أواخر مارس (آذار)، وشارك مقاتلوها في تأمين مقر تابع لوزارة الداخلية في طرابلس لصالح السراج. ويقول خالد إن الميليشيات تكبدت مقابل هذا الموقف خسائر كثيرة في صورة انشقاقات واتهامات بالخيانة من جانب بعض الداعمين لحكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني. وفي الوقت الحالي فقد مجلس السراج مقر وزارة الداخلية بسبب انشغال مقاتليه في ملاحقة «داعش». ربما كان هذا يسهم في تفسير السبب وراء تخبط قرارات بعض قادة الميليشيات بشأن جبهة سرت، وخشيتهم من فقد جبهات كانت تحت أيديهم، خصوصًا في الغرب والجنوب.
ويتضح من حالة الحرب ضد «داعش» وجود ما يشبه السيولة السياسية والعسكرية والأمنية. إنها حالة صعبة لا تجعل هناك يقينًا أو ثقة، حيث تتداخل المواقف وتتغير الولاءات يومًا بعد يوم، وكل شيء يتغير مثلما تتغير معالم سرت الجميلة إلى مدينة ذات أسقف مهدمة، وجدران مثقوبة بالقذائف يغطيها الدخان. وفي هذا الصدد يقول إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، إن أجواء الشد والجذب بين قادة الميليشيات لا تساعد على «حوار سياسي مثمر»، ويشير إلى أن بعثة الأمم المتحدة لا يبدو أنها جادة في الوصول إلى حلول بقوله: «نحن نرى أنها منحازة لمجلس السراج، وتتحامل على البرلمان الشرعي والجيش الوطني. ومن يدفع الثمن هم الليبيون.. يدفعونه من دماء أبنائهم».
وفي خضم الحرب الدائرة يذهب ضحية الاضطرابات آلاف الشبان ما بين قتلى وجرحى، وآلاف العائلات ما بين نازحين ومهجرين. وبعد أن توجّه المقاتلون إلى سرت تاركين مواقعهم في طرابلس ومصراتة ومناطق أخرى قريبة من بنغازي، بدأت عدة أطراف تتنفس الصعداء، وتعد العدة لشغل الفراغ. فالجيش بقيادة المشير خليفة حفتر لم يكن صاحب الحركة الوحيدة لاقتناص مكاسب في الموانئ النفطية. ولكن تحركت أيضًا حكومة الإنقاذ في طرابلس بعد شهور من اختفاء رجالها عن مسرح الأحداث.
وحكومة الإنقاذ هذه التي يرأسها خليفة الغويل، منبثقة عن «المؤتمر الوطني العام»، أي البرلمان السابق، ويرفض بعض أعضاء المؤتمر الاعتراف بالسراج، وبدأوا خلال الأيام الأخيرة في استئناف عقد جلسات في العاصمة، وهم لا يعترفون كذلك بالبرلمان الحالي الذي يعقد جلساته في طبرق، ولا بقائد الجيش حفتر، ولا بالحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الله الثني، والتي تعمل انطلاقًا من مدينة البيضاء في الشرق. لكن النائب عبد الصادق يقول إن «المؤتمر الوطني» مستعد لبحث كل نقاط الخلاف مع «البرلمان».
ويرى نائب رئيس المؤتمر أن قضية إنهاء «داعش» في سرت «كان بالإمكان حلها بطرق أسهل»، مضيفًا أن أغلب المقاتلين من مدينة مصراتة و«الآن فقدوا أكثر من 500 (شهيد) في هذه المعارك التي كان في الإمكان تفاديها».
إلا أن عبد الصادق، من جانب آخر، لا يخفي شدة الخصومة مع مجلس السراج، قائلا إنه حين دخل المجلس الرئاسي إلى طرابلس، استولى على مقار تابعة لحكومة الإنقاذ وللمؤتمر الوطني. وكشف عن أن حكومة الغويل «ما زالت تجتمع، وما زالت بعض المقار تحت سيطرتها.. والآن بدأت خطوات لاسترجاع بعض المقار الأخرى. ولعل آخرها كان استرجاع مقر وزارة الداخلية.. وفي الأيام المقبلة سيرى الليبيون والمجتمع الدولي بأن حكومة الإنقاذ تقوم بخطوات حثيثة لتقف على أرضية صلبة داخل العاصمة، ومن ثم تفرض سيطرتها ربما حتى خارج العاصمة».
على أي حال يمكن القول إن حرب سرت أحيت جبهات أخرى كثيرة كلها تعمل ضد مجلس السراج. ويبدو مثل هذا التنازع مؤلمًا حين تستمع إلى مقاتلين مدنيين مثل إسماعيل وخالد. فقد جاء هؤلاء إلى سرت مع عدة آلاف من الشبان المندفعين لطرد «داعش»، والآن وصلوا إلى المربع الأخير. لكن هنا أصبحت الأمور تتبدل بشكل غريب.
يقول إسماعيل موضحًا: «كيف يمكن أن تبتعد من أمام عينيك لحظة النصر النهائي، بعد أن كنت قد قاربت على الإمساك بها». وبالإضافة إلى مئات القتلى، تكبدت قوات «البنيان المرصوص» نحو 3000 جريح، ونفذت الميليشيات التي أيدت السراج واحدة من أكبر عمليات إعادة الانتشار ما بين طرابلس ومصراتة والبلدات المجاورة لهما، وذلك حين أعلن رئيس المجلس في أبريل (نيسان) الماضي عن تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة لتحرير سرت، في تحد لحفتر والبرلمان الذي يسانده. وبعد نحو خمسة أشهر من انطلاقها وتعضيد الولايات المتحدة لها، لا يبدو أن حرب السراج هنا ستنتهي سريعًا كما كان يتوقع البعض.
ومع أن القزيري يقر بأن العمليات في سرت تباطأت، فإنه يقول إن هناك سببين لهذا التباطؤ «الأول» عدم الرغبة في إيقاع المزيد من «الشهداء» طالما كانت مسألة تحرير سرت محسومة. والثاني «المقاومة الشديدة جدا»، التي يبديها الدواعش. بيد أن الدكتور حريشة يفسر الأمر بطريقة مختلفة، ملقيًا باللوم على من يقدمون مساعدات لـ«داعش». ويضيف موضحا: «ما زال هناك أناس يساعدون (داعش) للوقوف ضد تقدم قوات (البنيان المرصوص).. وهذا يفسر تأخير الحسم في هذه الحرب، وسقوط كثير من أبنائنا ما بين (شهيد) ومصاب». وبعد لحظات من الصمت والتفكير، يضيف قائلا إن «سبب الانتكاسة التي تلوح في الأفق هو أنه ما زالت هناك جماعة تؤيد (داعش).. وتعد من القيادات في طرابلس».
ويستعيد قادة من أولئك المتمسكين باستمرار الحرب على «داعش» في سرت التفكير في أحداث مثيرة للريبة وقعت في عام 2015، تتعلق بخطة عسكرية وضعتها حكومة الغويل لطرد «داعش» من المدينة، حين كان التنظيم فيها ما زال ضعيفًا، ويقول قائد عسكري في قوات «البنيان المرصوص» ممن شارك وقتها في العملية ضمن «الكتيبة 166»: «في ذلك الحين تقدمنا بقوة. لكن الخطة جرى إفشالها لأسباب غير مفهومة. لقد تكبدنا حينذاك خسائر فادحة ثم قيل لنا، ونحن في منتصف الطريق: (ارجعوا إلى مصراتة)».
ويضيف أنه ترتب على ذلك تمدد «داعش» في سرت، وسيطرة التنظيم على قاعدة عسكرية وعلى باقي مرافق المدينة، بما فيها قاعة واغادوغو للمؤتمرات. ومن جانبه يوضح الدكتور حريشة أن قوات «الكتيبة 166» في ذلك الوقت (في ربيع العام الماضي) تحركت من مصراتة لطرد «داعش» من سرت، لكن صدرت لها أوامر بالعودة.. لماذا؟ يجيب قائلا إن السبب كان يتعلق بوجود أشخاص على قمة الهرم في طرابلس، وفي المؤتمر الوطني، ساعدوا هؤلاء الدواعش. وبالتالي مُنعوا من أن يحاربوا التنظيم المتطرف في سرت. ويزيد موضحًا أن محاولة حماية «داعش» والإبقاء على عناصر التنظيم تتكرر اليوم مرة أخرى من القيادات نفسها التي قامت بمنع الحرب على التنظيم العام الماضي، مشيرًا إلى أن الدعم الذي تتلقاه عملية «البنيان المرصوص» من باقي المدن الليبية «بسيط جدا»، وأن «الذين فُقدوا من المدن الأخرى في الحرب في سرت لا يزيد على 4 إلى 5 في المائة من (الشهداء) الذين فقدتهم مصراتة وحدها». وهو يتحدث عن وجود منافذ يبدو أنها تعطي لدواعش سرت القدرة على التنفس حتى الآن. فحين جرت محاصرتهم، وجد بعضهم طريقًا إلى الصحراء «حيث يمكن من هناك مساعدة المتحصنين في المدينة بطريقة أو بأخرى»، أو كما يقول: «هذا يجعل بؤرة الاقتتال في سرت مشتعلة لفترة أطول».
بيد أن عبد الصادق يرى، مثلما يرى القزيري، أن دواعش سرت أصبحوا «محاصرين في منطقة ضيقة جدا.. وإذا نحن في المؤتمر الوطني، أو في حكومة الإنقاذ، أو في أي جهة تمثل خطوط الثوار المعتدلة، رأينا أي أحد يمول أو يدعم هذه الفئات الإرهابية المارقة، فإننا سنقف له بالمرصاد، وسنصده، ولن يكون له مكان بيننا».



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.