واقع التشيّع في المغرب

بين تهديد الأمن الروحي والاستيعاب السياسي

جنازة في مدينة طنجة لشيعي مغربي توفي في بلجيكا قبل أشهر
جنازة في مدينة طنجة لشيعي مغربي توفي في بلجيكا قبل أشهر
TT

واقع التشيّع في المغرب

جنازة في مدينة طنجة لشيعي مغربي توفي في بلجيكا قبل أشهر
جنازة في مدينة طنجة لشيعي مغربي توفي في بلجيكا قبل أشهر

كشفت عدة تقارير دولية ووطنية، من ضمنها تقرير الحريات الدينية الذي تصدره وزارة الخارجية الأميركية، وتقرير الحالة الدينية الذي يصدره المركز المغربي للدراسات والأبحاث عام 2015م، أن ظاهرة التشيّع بالمغرب أصبحت تحديًا جديًا يواجه المجتمع والدولة. فلقد كانت منظومة التدين المغربي والمغاربي، مؤطرة منذ قرون طويلة بتصوّرات المذهب المالكي والاعتقاد الأشعري، غير أن إيران وحلفاءها مذهبيًا وطائفيًا، أخذوا يستغلون تحوّلات ما أطلق عليه علماء الاجتماع المعاصر «عصر الأديان»، وموجاته المعقدة، لنشر التشيّع بشمال أفريقيا. وهو ما عرّض النسيج الديني لهذه المنطقة للتفاعلات الطائفية بالشرق الأوسط، وأدمجها قسرًا في عولمة القيم والتدين المتلبس بالتشيّع الإمامي، والمتخذ من المرجعيات العقدية الإيرانية والعراقية واللبنانية، مرجعيته الدينية العليا.
وظاهرة التشيع في المغرب جعلت كثيرًا من المتخصصين والباحثين في هذه الظاهرة بشمال أفريقيا، ينبهون إلى التهديد الذي يشكله مَن يطلقون على أنفسهم اسم «المستبصرين» على وحدة النسيج الديني، والتماسك العقدي. وذلك إذ يصبح الولاء الخارجي للشيعة بشمال أفريقيا قضية تداخل انصهاري بين العقيدة والسياسة في المذهب الجعفري، وهو ما يجعل من الولي الفقيه في إيران سلطة دينية وسياسية، يخضع لها الشيعة في شمال أفريقيا.
من الناحية العملية، يصعب تحديد أرقام محددة للمتشيّعين المغاربة، لسببين: السبب الأول أنهم يخفون نوعية تدينهم ومعتقداتهم، ويمارسون التقية مع محيطهم الاجتماعي، والخاص في كثير من الأحيان. والسبب الثاني، أن مواقفهم السياسية تتعارض والثوابت المغربية التي تجعل من الاستقلالية الدينية والسياسية المغربية مرتبطة بالملك، بصفته أميرًا للمؤمنين، كما ينص على ذلك الفصل 41 من دستور 2011م.
ومع أن تقارير وزارة الخارجية الأميركية تفيد بأن في المغرب نحو 8 آلاف شيعي أو متشيّع، فإن هذا العدد يضم، أساسًا، الشيعة العراقيين والسوريين واللبنانيين الموجودين على أرض المملكة المغربية. في حين يقدر بعض الباحثين في ظاهرة التشيّع بالمغرب عدد الشيعة المغاربة المستقرين بنحو 3 آلاف فقط. ويؤكد الباحثون المشار إليهم أن التشيّع بالبلاد ينقسم إلى قسمين: الأول، تشيّع عقدي وهو الأخطر والأقل عددًا. والثاني، تشيّع سياسي وهو الأكثر والأبرز، ويستفيد أساسًا من الموقف الشعبي المغربي حول القضية الفلسطينية، وضرورة مقاومة الكيان الصهيوني.
في هذا السياق وانطلاقًا من نقاشات أجريناها مع بعض المتشيّعين المغاربة، بخصوص تكاثرهم، وطريقة ممارسة التدين والتحرك العام بالمجتمع المغربي، نسجل إقرارهم بأنهم يواجهون بصدّ مجتمعي وذهنية شعبية رافضة للطائفية وللارتباط بالتدين الخارجي البعيد عن المذهب المالكي والأشعرية السنّيّة المعروفة في العرف والتقاليد الدينية الشعبية. كذلك فإنهم يواجهون برفض سياسي من الدولة، يهم على الخصوص ارتباطهم السياسي بولاية الفقيه، من جهة، وارتباطهم المالي بدوائر مجهولة تموّل بعض الجمعيات والمكتبات، وبعض الشخصيات الشيعية المغربية.
* ارتباط وولاء عقدي
ينقسم الشيعة المغاربة إلى عدة تيارات قليلة العدد، يجمع بينها الارتباط والولاء العقدي والسياسي للخارج. وللعلم، قبل أن تظهر التنظيمات الشيعية الجديدة، كان التعاطي مع المقولات المذهبية الشيعية منحصرًا في الجامعات المغربية. وكان هذا التعامل فكريًا سياسيًا، ومبتعدًا عن التمثل العقدي. غير أن منتصف الألفية الثالثة شهد تغيرًا مهمًا، حين استغل المتشيّعون المغاربة مجموعة من العوامل للظهور بشكل سريع على سطح الساحة السياسية الدينية في المغرب.
أول هذه العوامل، الانفراج الذي شهدته العلاقات المغربية الإيرانية في عهد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، وكذلك الحرب الأخيرة بين ما يسمى «حزب الله» اللبناني وإسرائيل عام 2006، وما خلفه ذلك من تعاطف عربي شعبي كبير مع ما كان يطلق عليه اسم «جبهة المقاومة». وكان للقنوات الفضائية التابعة والداعمة لإيران، ومنها قنوات عراقية وقناة المنار والعالم وغيرها، في حينه، دور مهم في الترويج للتدين الشيعي. غير أن أهم عاملين ما زالا يتحكّمان في ظهور التشيع بالمغرب على السطح، يتعلقان بالدراسة في الخارج، خصوصًا في سوريا. فأهم الرموز المغربية المعروفة اليوم على الساحة سبق لها أن درست بجمهورية الأسد.
* سفارة إيران في بلجيكا
أما العامل الثاني، فيتمثل في الدور النشط جدًا للسفارة الإيرانية في بلجيكا والجمعيات التابعة لها ماليًا. ولقد أسهمت هذه السفارة، بالذات، بقوة في تشيّع المهاجرين المغاربة. إذ منذ بداية التسعينات من القرن العشرين أقدمت هذه السفارة على تقديم مساعدات مالية شهرية منتظمة للشباب المغربي الوافد إلى بلجيكا، وتشجيعهم على زواج المتعة الذي يمكّنهم من الحصول على أوراق الإقامة. كذلك عملت على ربط جزء من المغاربة بشخصيات دينية تمثل مرجعية الولي الفقيه بالعاصمة البلجيكية بروكسل ونواحيها، ومولت أنشطة وزيارات لإيران استفاد منها هؤلاء الشباب، وهو ما مكّن الإيرانيين من تأسيس جالية شيعية مغربية في بلجيكا تقدر بنحو 20 ألف مغربي.
هذا المسار انعكس على التشيّع داخل المغرب، وقسمه لبعدين؛ خارجي وداخلي: الأول، تتحكم فيه إيران بشكل مباشر وهو يتمثّل بالشيعة المغاربة في أوروبا، خصوصًا الشيعة المغاربة في بلجيكا الذين يقطنون في مدن بروكسل (العاصمة) ولييج وشارلروا وأنتويرب، والذين يكثفون جهودهم لنشر مذهبهم الطائفي بمدن المغرب الشمالية.
والواقع، أن بروكسل وغيرها من المدن البلجيكية غدت قاعدة خلفية لـ«الغزو» الشيعي الطائفي للمغرب. وهذا الاستهداف المنظم له مؤسساته من مثل «جمعية الهدى» بإمامة الشيخ بلوق، و«جمعية الهادي المغربية» المرتبطة بالمراجع العراقية الشيعية، إضافة إلى «مركز أبحاث وحسينية الحسن المجتبى للإخوان العراقيين» التي تجمع الطرفين، كما ينشط الشيعة المغاربة بمدرسة في «مركز الرضا» متخصصة في تعليم أبناء الجالية.
* داخل المغرب
أما البعد الداخلي المتعلق بالشيعة المستقرين داخل المغرب، فتعمل الدولة وأجهزتها الأمنية، على فصله بشكل تام عن إيران وسعيها الحثيث لتقسيم المغرب طائفيًا، وخلق «جيوب» لها في أفريقيا عبر دعم شبكتها المنظمة في غرب القارة، التي تمتد من نيجيريا إلى السودان، ومن السنغال إلى الغابون وساحل العاج، مرورًا بالجزائر ووصولاً إلى المغرب.
أيضًا على المستوى الداخلي، سجل المتخصصون تراجعًا كبيرًا لجمعية «الغدير» في مدينة مكناس التي أسسها شيعة مغاربة تأثروا بالفضاء الجامعي، وما كان يتداول فيه من كتب وأفكار كل من السيد حسين فضل الله والسيد محمد مهدي شمس الدين والدكتور علي شريعتي والسيد محمد باقر الصدر والرئيس الأسبق محمد خاتمي.. في تسعينات القرن العشرين. غير أن «الغدير» وخطها في التشيّع لم يعد لهما أثر يذكر حاليًا. ولكن في المقابل، ظهر تياران متمركزان بشمال المملكة، وبالتحديد في مدينة طنجة، هما:
1 - «هيئة الإمام الشيرازي»، وهي مجموعة متشيّعة كانت تحمل اسم «هيئة شيعة طنجة» قبل عام 2012م، ثم غيّرت اسمها، دون أن تغير من ارتباطها بياسر الحبيب، الطائفي المتطرف المقيم في العاصمة البريطانية لندن راهنًا، الذي سحبت منه الكويت جنسيتها.
2 - المجموعة الثانية تعرف بـ«الخط الرسالي»، ويذكر أنه عام 2013 سمحت السلطات المغربية لأعضاء من هذه المجموعة بتأسيس جمعية «الرساليون التقدميون». كما اعترف بشكل قانوني بمؤسسة «الخط الرسالي للدراسات والنشر» عام 2014، ثم في العام الماضي 2015 أعلن متشيّعو «الخط الرسالي» تأسيس «المرصد الرسالي لحقوق الإنسان».
* التعامل مع الظاهرة
في هذا السياق تحاول السلطة السياسية في المغرب ألا تجعل من ظاهرة التشيع حدثًا إعلاميًا أو حقوقيًا، بل تكتفي بالمراقبة الأمنية، كي تتجنب الانتقادات المتكررة للتقارير الأميركية المدافعة عن التشيع والتنصير في المغرب.
ويبدو أن هذه السياسة الجديدة، غير ثابتة، ذلك أن السلطة واجهت المجموعات الشيعية عام 2009 بحزم، وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع إيران، كما أغلقت المدرسة العراقية بالرباط. بل وصل الأمر إلى إقدام وزارة التعليم العالي على إلغاء حصص اللغة الفارسية في الجامعات المغربية، وإغلاق بعض المكتبات الخاصة بالكتب الشيعية، وإخضاع بعض الأفراد لاستجوابات أمنية في كل من مدن الدار البيضاء وطنجة والصويرة وفاس.
غير أن الوضع بدأ يتغير من جديد منذ عام 2012م، إذ لم تكتفِ السلطة السياسية المغربية بالاعتراف القانوني ببعض المؤسسات التي أسسها الشيعة المغاربة، بل سمحت لهم بالاحتفال الجماعي بعاشوراء لأول مرة عام 2014م، حين أقيمت طقوس بحضور نحو 300 فرد في قاعة للحفلات بمدينة طنجة. ويأتي هذا بعد السماح لمجموعة شيعية في المدينة نفسها بتشييع جثمان أحد أفرادها عبد الله الدهدوه، الذي قتل في بلجيكا عام 2012م، وشهدت الجنازة خروجًا واضحًا عن المذهب المالكي، من خلال طريقة الدفن مثل دفن كتاب مع الجثة وحضور النساء.
* الدمج سياسيًا
من جانب آخر، يظهر أن السلطة السياسية في المغرب تسعى لدمج الشيعة المغاربة في الحقل السياسي، بعدما سمحت لهم بمزاولة بعض شعائرهم بشكل جماعي. إذ التحق أبرز الوجوه الشيعية إدريس هاني، بحزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية عام 2015، وكان هاني من المؤسسين لحزب النهضة والفضيلة، والمعدين لورقته المذهبية عام 2005، قبل أن ينسحب منه ويلتحق بحزبه الجديد. وفي السياق ذاته، نسجل أنه عام 2015 سجلت محاولة لبعض الوجوه الشيعية للالتحاق بالحزب الاشتراكي الموحّد، غير أن أطرافًا من داخل الحزب تحفّظت عن اتخاذ هذه الخطوة، خصوصًا مع غموض ارتباطات بعض العناصر الشيعية بإيران، وإيمانها العقدي بولاية الفقيه. في أي حال، يبدو مما سبق أن ظاهرة التشيع في المغرب لها امتدادات خارجية واضحة، تتعلق بالجهود الإيرانية لتشييع الجالية المغربية المقيمة في بلجيكا وكندا وهولندا وإسبانيا، ومن ثم ربط الشيعة المقيمين في المغرب بشيعة غرب أفريقيا، عبر عمل شبكي يلقى دعمًا سياسيًا وماليًا من طهران وشيعة لبنان خاصة. كل هذا من شأنه أن يهدد الأمن الروحي المغربي وتماسك وحدة مذهبه المالكي، الذي قال عنه المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي إنه «مذهب مسح الطاولة بشمال أفريقيا»، واستطاع لقرون طويلة جدًا الحفاظ على الوحدة الدينية المذهبية المغاربية، مع الاعتزاز بحب آل البيت.
من الناحية السياسية، تتعارض ولاية الفقيه، مع الاستقلال الديني التاريخي المغربي عن المشرق، إذ تتناقض السلطة الدينية والسياسية التي يتمتع بها مرشد الثورة الإيرانية مع صلاحيات إمارة المؤمنين للملك التي ينص عليها الدستور المغربي. ذلك أن ولاية الفقيه التي تجعل للفقيه المعصوم ولاية على الفرد الشيعي أينما كان، وعلى المجتمع وعلى الدولة الشيعية. وبذلك يتبين أن هذا المفهوم يتناقض والثوابت الدينية والدستورية المغربية، وخصوصًا الفصل 41 من الدستور الحالي.

* أستاذ علوم سياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟