بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

قائد الجيش اللبناني متطرف في ضبط الأمن ويسعى للبقاء «وسطيا» بين السياسيين

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية
TT

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

بروفايل: قهوجي.. عسكري بصفات دبلوماسية وطموحات رئاسية

تبدأ اليوم، فترة التمديد الثالثة، لقائد الجيش اللبناني العماد جان قهوجي على رأس المؤسسة العسكرية اللبنانية. وهي عملية يشكك فرقاء لبنانيون بقانونيتها، كونها تمت بقرار من وزير الدفاع، لا من مجلس الوزراء الذي يفترض به أن يتخذ قرار تمديد ولاية قائد الجيش التي انتهت في العام 2013. ومددت ثلاث مرات من أجل منع الفراغ في رأس الهرم العسكري اللبناني، نتيجة عجز القيادات السياسية اللبنانية على التوافق على رئيس جديد للجيش من جهة، ورغبة أطراف أخرى في إبقاء قهوجي في السلك العسكري، بما يسمح له بأن يكون مرشحا جديا لرئاسة الجمهورية.
وإذا استمر العمل بالقاعدة التي أحضرت آخر رئيسين للجمهورية في لبنان إلى المنصب، فإن قهوجي يجب أن يكون الرئيس الجديد للبلاد ويملأ الشغور الحاصل منذ 25 مايو (أيار) 2014. لكن حساباته مختلفة عن حسابات سلفيه العماد إميل لحود الذي أتى إلى الرئاسة في العام 1998 بدعم من «الوصاية السورية» والعماد ميشال سليمان الذي أتى في العام 2008 بإرادة إقليمية عربية للخروج من الأزمة السياسية الطاحنة التي كانت تعصف بالبلاد.
يواجه العماد جان قهوجي، قائد الجيش اللبناني حاليًا، واحدة من أصعب المهام في حياته السياسية – العسكرية. فهو يتولى قيادة المؤسسة التي تعتبر العمود الفقري للأمن في لبنان، وصمام الأمان، في ظل أجواء مجنونة تعصف بالمنطقة ككل، والحرب السورية الطاحنة التي تدور في البلد الجار منذ 5 سنوات، وتصيب شظاياها لبنان بشكل دوري، مهددة بالإطاحة باستقراره الهش القائم على سياسة «الأمن بالتراضي» من منطلق أن المعنيين بأزمة المنطقة يفضلون لبنان هادئا بالحد الأدنى من دون حلول جذرية لأوضاعه، وهو ما يبقي الوضع قريبا من حافة الانفجار في أي لحظة.
وتنبع أهمية موقع قائد الجيش، من أنه يترأس المؤسسة شبه الوحيدة التي تعمل بانتظام، وتحظى بإجماع وطني على دورها. غير أن قائد الجيش في موقعه هذا كالقابض على الجمر، فهو يريد مسك العصى من الوسط، لكنه يضطر أحيانا إلى أن يميل نحو أحد الاتجاهين لتعديل مسار ما، فما أن يميل، حتى يواجه بغضب أحد الطرفين. ولما كان الجيش يحتاج إلى التوافق الوطني – ولو بالحد الأدنى – فإن موقفه يصبح أضعف كلما شعر بحاجة إلى تفادي «فيتو» ما على مستقبل قائده السياسي، ولذا يطرح الكثيرون قائد الجيش للرئاسة كلما اقترب المتخاصمون من فكرة «الرئيس التوافقي»، ويبتعدون عنه كلما اقترب أحد الطرفين من الظفر بمقعد الرئاسة، كما كانت الحال مؤخرا مع ترشيح النائب سليمان فرنجية، أحد أعضاء فريق 8 آذار الذي يقوده ما يسمى «حزب الله»، ومن بعده أحد أعمدة هذا الفريق النائب ميشال عون الحليف الأول للحزب.
* منافس لعون
ويربط خصوم عون رفضه التمديد لقهوجي في المرات الثلاث، باعتبار قهوجي منافسًا طبيعيًا لعون لموقع رئاسة الجمهورية، وأحد الأسماء المطروحة للرئاسة، رغم أن قهوجي لم يعلن ذلك. وفي حال الاتفاق على اسمه للرئاسة، فإن ذلك لن يحتاج إلى تعديل دستوري في البرلمان انطلاقا من القاعدة التي أرساها رئيس البرلمان نبيه بري بأن «الفراغ يسقط المهل»، أي أن الفراغ في رئاسة الجمهورية يسقط المهل التي ينص عليها الدستور لموظفي الفئة الأولى (وقهوجي من بينهم) للاستقالة قبل ستة أشهر ليتم انتخاب أي منهم رئيسا للجمهورية.
ويرى الخبير الاستراتيجي العميد نزار عبد القادر أن «أي ماروني يصل إلى قيادة الجيش، يصبح مرشحا للرئاسة دون أن يعلن ذلك»، لافتًا إلى أن «4 جنرالات تبوأوا موقع الرئاسة بينهم عون في ظروف معينة» حين تولى رئاسة الحكومة العسكرية في العام 1988. وقال عبد القادر لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه «لا أعتقد أن قهوجي قد نطق بترشيحه، لكن اسمه متداول بين الخيارات المفتوحة على إشغال هذا الموقع»، رغم تأكيده أن ملف إنهاء الشغور الرئاسي «مرتبط بموانع إيرانية عبر «حزب الله»، تنطلق من حسابات إقليمية، كون إيران الطامحة للعب دور إقليمي تحمل ورقتين لتحقيق هذا الطموح، أولاهما ورقة بشار الأسد، والثانية ورقة الرئاسة اللبنانية للضغط فيها على العرب وعلى المجتمع الدولي»، معربًا عن اعتقاده أن إيران «ليست جاهزة للتخلي عن الورقة المضمونة لمناصرة عون أو قهوجي لاحقا لانتخابه رئيسًا للجمهورية».
ووضع عبد القادر التمديد لقهوجي في سياق «تعثر مجلس الوزراء وعدم قدرته على تعيين قائد جديد للجيش»، لافتًا إلى أن عون «لعب بالورقة عندما كان يرشح صهره العميد شامل روكز قبل إحالته للتقاعد، واليوم يحاول الوقوف حجر عثرة أمام التمديد لقهوجي لأنه يعتبر إطالة وجوده في القيادة يبقيه مرشحا قويا للرئاسة».
وأكد عبد القادر أن «قيادة الجيش، هي الموقع الأخير في الدولة الذي يؤمن الغطاء الأمني للبلد في ظل غياب الغطاء السياسي»، لافتًا إلى أن «الموقف الدولي كان مؤيدا للجيش الذي يقف بين مختلف الأفرقاء ويشكل ضمانة أمنية للبنان عبر حفظ السلام والاستقرار»، مشيرًا إلى أن الجيش اللبناني «لديه الغطاء الدولي والعربي لأنه يبقى آخر المؤسسات الضامنة لبقاء لبنان الدولة القادرة أمنيا على الأقل».
ومع أن قهوجي لم يتحدث مرة واحدة عن طموحه السياسي، فإن هناك إجماعا على اعتباره من المرشحين الأساسيين لرئاسة الجمهورية، وهو ما يجعله عرضة لـ«النيران الصديقة». ويُعتبر قهوجي قريبا من كل الأطراف المتنافسة في لبنان، ففي الجانب الأمني، يُعد قريبا جدا من منطق «حزب الله» في مكافحة الجماعات السورية المسلحة، وضبط الوضع الأمني ومكافحة الإرهاب، ولكن وفق المنطق السيادي يُعد قريبا من قوى «14 آذار» التي لم تضع فيتو مباشرا عليه. لكن هذا كله يجعله تحت مرمى سهام الطامحين للرئاسة، وسهام الفرقاء المحليين بسبب حساباتهم الخاصة. فالعداء معروف مع النائب ميشال عون، رغم أن قهوجي لم يتحدث بسلبية أبدا عنه، أما علاقته بالنائب وليد جنبلاط فهي عرضة لتقلبات حادة، خصوصا أن جنبلاط عارض تعيينه في البداية، ثم وصفه لاحقا بـ«القائد المعلّب»، بسبب ما يقال: إنه لا يرغب في رؤية منافس ماروني في منطقة نفوذه (الشوف). أما «حزب الله» فقد لزم الصمت حيال قهوجي، وتعاون معه في كل الملفات الأمنية، قبل أن يطلق النار باتجاهه الأسبوع الماضي عندما نشر الكاتب اللبناني المقرب من الحزب إبراهيم الأمين في صحيفة «الأخبار» مقالا حمل عنوان «قهوجي يا قهوجي: من أين لك هذا؟» وقال فيه إن قرارا صدر عن مصرف لبناني شهير يسمح لقهوجي وزوجته وأولاده بعدم التقيد بسقف المبالغ المستثناة من استمارة عمليات الإيداع النقدية وذلك لغاية مليون ومائتي ألف دولار أميركي. ورأى أن «هذا القرار يعني السماح لقهوجي والمذكورين معه بإيداع مبالغ مالية نقدية، تصل إلى مليون ومائتي ألف دولار أميركي في المصرف، من دون تحديد مصادرها، فيما المواطن العادي ممنوع من إيداع مبالغ تفوق 10 آلاف دولار أميركي، من دون تبرير كيفية حصوله عليها، وإشهار مستندات تثبت بأن هذه الأموال (نظيفة) ولم تتأتَّ من مصادر أو عمليات (غير مشروعة)».
وعلى الرغم من إعلان المصرف في وقت لاحق أنه قام بالأمر بمبادرة منه، لا بطلب من قهوجي، وأن الأخير طلب إلغاء هذه التسهيلات، فقد رأى كثيرون في هذا المقال إعلانا غير مباشر من الحزب عن إسقاط ورقة قهوجي الرئاسية لصالح حليفه ميشال عون الذي يبدو أنه يقترب من نيل ترشيح كتلة «المستقبل» التي يرأسها الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري.
* موقف برّي
ويقال: إن قهوجي هو المرشح المفضل لدى رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي يفضل رئيسا توافقيا «يساعد في إعادة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي»، كما أنه الشريك المفضل للأميركيين الذين قدّموا للجيش اللبناني في عهده الكثير من المساعدات العسكرية والقتالية، ويعتبرونه أساسا في حفظ الاستقرار الداخلي.
قهوجي ولد في بلدة عين إبل الحدودية الجنوبية (مسقط رأس والدته) يوم 23 سبتمبر (أيلول) 1953، لكنه يتحدّر من بلدة بعذران في منطقة الشوف بجبل لبنان. ولقد تطوّع في الجيش بصفة تلميذ ضابط، وألحق في المدرسة الحربية اعتبارًا من 1 أكتوبر (تشرين الأول) 1973. ثم تنقل بين مختلف قطاعات الجيش وألويته قائدا لكتائب وألوية، وتدرج في الترقية حتى رتبة عميد ركن في العام 2002. بعد أن نال قدمًا للترقية لـ«أعمال حربية باهرة». وفي العام 2008 تم تعيينه قائدا للجيش خلفا للعماد ميشال سليمان الذي انتخب رئيسا للجمهورية قبل أن يستقيل من قيادة الجيش.
* رجل الثكنات والعسكر
يعتبر العماد قهوجي من الضباط المقربين من العسكر، فهو اعتاد أن يعيش معهم في المهمات، ويقضي معظم أوقاته في الثكنات. ومنذ تعيينه قائدا للجيش، باتت وزارة الدفاع مقرا شبه دائم لإقامته وسط عائلته الكبيرة. أما عائلته الصغيرة، فقد تأثرت بهذا الواقع، لكنه يحاول أن يبقى بين أفرادها كلما استطاع، وهو ما يزال يحافظ على غداء يوم الأحد كتقليد يجمع فيه كل أبنائه حوله مهما كانت المشاغل والظروف.
تزوج قهوجي من السيدة مارلين صفير، ولهما ثلاثة أولاد يحملون جميعا الحرف الأول من اسمه (جان): جاد وجو وجوانا. وتقول جوانا الابنة الوحيدة لقهوجي إن علاقتها بوالدها مميزة للغاية وتضيف في مقابلة مع الزميلة «هي» قائلة: «يعتقد الكثير من الناس أن قائد الجيش قد يتعاطى مع أفراد عائلته بأسلوب عسكري لكن الوضع مختلف كليًا مع والدي فهو حنون جدًا ويدللني كثيرًا». وتتحدث جوانا عن طبيعة شخصية والدها في البيت من اللحظة الأولى، شارحة «أنه إنسان بعيد كليًا عن العقلية العسكرية، بل على العكس لطالما سمعت كلمة (لا) من والدتي أكثر مما سمعناها منه شخصيًا، فهو يحاول دائمًا أن يجعل مشاكل وأمور الحياة أكثر وضوحًا وسهولة علينا. وهو يبسّط أصعب الأمور بدبلوماسيته الدائمة، فلا يفرض رأيه على أي كان بل يعتمد سياسة الحوار حتى نصل أو يصل إلى قناعة». وتضيف «حتى عندما لا ألتقي بوالدي يوميًا إلا أنه دائمًا موجود لأجلي، فرغم كل انشغالاته اليومية كقائد للجيش لكنه يجد الوقت لي في اللحظة التي أطلب منه لقاءه لأستشيره أو لآخذ رأيه في أي مسألة تحيرني أو تزعجني».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.