تصور الأرض في عصر النهضة وأزمة النموذج الأرسطي للعالم

فكرة دورانها كانت المسمار الذي دق في نعش نموذجه وأدى إلى مراجعات شاملة

تصور الأرض في عصر النهضة وأزمة النموذج الأرسطي للعالم
TT

تصور الأرض في عصر النهضة وأزمة النموذج الأرسطي للعالم

تصور الأرض في عصر النهضة وأزمة النموذج الأرسطي للعالم

كان أفول العلم خلال العصور الوسطى المبكرة نتيجة مباشرة لأفول كل حياة ثقافية تقريبا. وجاء نتيجة لانهيار الحضارة الرومانية في الغرب. وبدوره كان إحياء العلم، نحو القرن الثاني عشر، مرتبطا بإحياء ثقافي عام، أدى في خط صاعد ومستمر إلى الازدهار الثقافي العظيم لعصر النهضة.
ويبدو أن الانقلابات الكبرى في تاريخ العلم، حسب توماس غولدشتاين صعودا وهبوطا: «لا تحدث على الإطلاق على مستوى معزول، بل تعكس الحركات الأساسية في المسار الواسع للتاريخ الثقافي، وكذلك تفعل بعض اتجاهاته واستبصاراته الكبرى. كانت الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الكون والكيفية التي يدركون بها أرضهم مشروطة بشكل وثيق، بوضعهم الثقافي الذي كانت تحتمه هو ذاته، منظومات السببية التي تحكم التحقق الواسع للأحداث التاريخية».
في قراءة متميزة لتوماس غولدشتاين، لا نجد قراءة لتاريخ العلم والحداثة الغربية مستغرقة في الفكر العلمي النظري الخالص، بل نجد قراءة نسقية تستفيد من كل خلاصات العلوم الإنسانية والاجتماعية والمعرفية، لتعيد قراءة تاريخ العلم وتطور العلوم، في ارتباط بالشروط الثقافية والاجتماعية والسياسية في حقبة تاريخية ما. وكأنه هنا، لا يفاضل بينه وبين ميشال فوكو، سوى أن الثاني جعل من الإبستيمية لحظة حفرية لقراءة علاقات السلطة. وغولدشتاين يبحث عن الفكرة العلمية الجديدة، وكيف تنبثق من روح الصراع الضاري داخل المجتمع، بين طبقات وفئات كثيرة لديها مصالحها ورهاناتها. لذلك كان إحياء التراث اليوناني والروماني، يخدم غايتين أساسيتين حسب غولدشتاين: فالكنيسة تراهن عليه لتعضيد سلطتها، ورجال النهضة يراهنون عليه لجعل العالم أكثر حرية وأكثر اتساعا للإنسان منه للرب.
هذا الإحياء العظيم الذي عرفه العلم، سيسهم في الكشف عن مجموعة من الحقائق المغلوطة التي قبلت بوصفها مسلمات، بتبرير سلطة الرب وتعاليمه السمحة، وسيتم توجيه مجموعة من الضربات العنيفة للذات الغربية في صميم اعتقاداتها ومعرفتها الراسخة، التي حرصت الكنيسة على مر عقود على حمايتها. وكانت أولى الضربات قد بدأت تحت مطرقتها القوية، ضمن علم الجغرافيا مع توسكانيللي في فلورنسا. وسيتم التعبير عن هذه الفكرة في شكلها الرياضي المجرد مع كوبرنيكوس، وشباب العلماء الفلكيين الذين جاءوا من بعده: كبلر، غاليلو وغيرهما، ما انعكس إيجابا على الحداثة الغربية، التي كان أساسها يقظة تقنية، بتعبير سالم يفوت للغرب، في لحظة أصبح فيها مفهوم الحركة ذا أهمية على مفهوم السكون، الذي تشبثت به الكنيسة لدواع سياسية وآيديولوجية يطول شرحها.
في الرابع والعشرين من يونيو (حزيران) 1474، كان رجل عجوز وواحد من أشهر علماء عصره، جالسا في حجرة مكتبه بفلورنسا، يكتب خطابا إلى صديق: «كان يقدم بملاحظات عن مسار الشمس، مستخدما أداة قياس بدائية صممها بنفسه - أداة قياس توسكانيللي - وقد شغلته الأسئلة الحاسمة الآتية: (ما بالضبط العلاقة بين الأرض والشمس؟ كيف تبدو تحركات الشمس حين تقاس بدقة رياضية؟ وما هي على وجه الدقة تغييرات المجموعة الشمسية؟).
بعد نصف قرن من ذلك الحين، كان لهذه الأسئلة أن تؤدي إلى مراجعات شاملة لمجمل الكون بنظرية كوبرنيكوس عن الكون المتمركز حول الشمس». غير أن هذا لا يعني أن كوبرنيكوس كان أول من فكر على هذا الشكل. بل سبقه إلى ذلك، توسكانيللي وأرسطارخوس، والفيلسوفة التي أعدمت قبل ذلك في الإسكندرية هباتيا. وقد «شهد القرن الخامس عشر الاكتمال المظفر لهذه العملية. وإذا كانت لمحات البيئة الإنسانية والطبيعية، حتى ذلك الحين، لا تعدو أن تكون متقطعة، وعودة العقل إلى الأرض بطيئة وناضرة في مجملها، فقد اكتسب عصر النهضة دلالته الكاملة، مع الاكتمال السعيد لاكتشاف الأرض. ولم يكن الاستكشاف المتأني للبيئة اليومية الذي ألهم مصوري عقد 1470 في حقيقته، على الرغم من غزارته الساذجة، سوى ثمرة توافق طويل ومعقد للعقل الغربي. كان قد جرى قبول الأرض المتحركة في النهاية، وجرى فعليا استيعاب تلك التقاليد الأخروية العميقة الجذور، داخل الرؤية الإيجابية الجديدة للحياة. لقد أشرقت الأرض على فلورنسا عصر النهضة، في التفاصيل الدقيقة للملاحظة الفنية، التي فتحت آفاقها قوانين المنظور والتشريح. وظهرت الأرض أمام باولو توسكانيللي وأصدقائه، بتفصيل علمي، بوصفها رؤية جغرافية وجزءا من عملية الاسكتشاف».
كانت مساهمة باولو توسكانيللي في الجغرافيا الحديثة تتكون من مأثرتين حاسمتين بالقدر نفسه. فقد أعلنت - أي مساهمته - قابلية المحيط للإبحار. لذلك جزم بأن الأرض برمتها، هي منطقة نفوذ للإنسان. ومن خلال هذا الإنجاز النظري، فتح المحيط أمام اكتشاف العالم الجديد. وقد كان ثمة شعراء ضمن تلك التقاليد التأملية الطويلة، توقعوا، سلفا، فكرة الأرض الكروية الحديثة. وكان الشاعر الروماني سينكا، قد تنبأ بعصر تتحطم فيه أغلال المحيط وتتمدد الأرض - يقول سينكا في أحد المقاطع التي تؤكد تفوق الفكر الجغرافي الكلاسيكي وعمقه في الرؤية: سيأتي عصر في مستقبل بعيد، يفك فيه المحيط أصفاده وتتمدد الأرض مفتوحة على مصراعيها، ويكتشف بحار مستكشف عالما جديدا، ولن يعود ثمة نهاية للأرض». نقلا عن كتاب توماس غولدشتاين، ص39 - أخيرا، مفتوحة على مصراعيها أمام الاستكشاف الإنساني.
«وإذا كان الاختراق الفعلي قد تحقق بواسطة الاكتشافات الكبرى، ابتداء مع البرتغاليين الأوائل، من قبيل كولومبس وفسبوتشي وماجلان، فإن الفضل في المأثرة العقلية التي جعلت ذلك التحرر ممكنا، ترجع إلى توسكانيللي إلى حد كبير، إذ إنه بقوة فكر مدقق ومتوقد، توصل إلى مفهوم مقنع للأرض، يكون فيه المحيط بأسره في متناول الناس وسفنهم، وتكون فيه أجزاء الأرض الصلبة كلها قابلة للسكنى شرقا وغربا في نصفي الكرة الشمالي والجنوبي». وقد كان لدى بطليموس كثير من الأشياء المهمة التي يمكن أن يتعلمها منه قراء القرن الخامس عشر. فمن ناحية، لقنهم درسا في المقاربة التجريبية المباشرة للمعلومات الجغرافية. وكان ضباب الأساطير ينقشع أمام عقله الهيلنستي البارد. كذلك علمهم كيف يرون الأرض في كل جزيئة من جزيئياتها على أسس رياضية صعبة. ولا بد أن عصرا مثل النهضة الباكر، ذي التوجه البصري، قد أذهلته الفصول التي وضعها بطليموس حول طرق الإسقاط الكروي. وفي الحقيقة، فإن علم رسم الخرائط الحديث والأطلس الحديث، قد وجدا فاتحتهما نتيجة النقاشات حول الجغرافيا. وهو ما سيكون له انعكاس كبير على علم الفلك، على الأقل من ناحية الرؤية وتغيير المنظار والتفكير بشكل جدي، في السؤال - الإشكال الذي يقول عنه لويس التوسير، إنه أحد جراحات الذات الغربية: ما الذي قد يحدث لو كانت هذه الأرض الثابتة هي التي تدور حول الشمس؟

أزمة المنظومة الأرسطية: فرضية الأرض المتحركة عند كوبرنيكوس

في محاضرات شائقة وعميقة لعبد المجيد باعكريم، حول تاريخ الأنساق النظرية، يقول: «إن المشكلة التي هزت الفلك البطليموسي هي مشكلة تحير الكواكب. إذ لوحظت نجوم تغير مواقعها أثناء الدوران سميت كواكب متميزة، لأنها تستمد نورها من ذاتها. أما الأرض فكانت تستمد نورها من الشمس. لنأخذ المريخ مثلا. إنه نقطة تدور دورة يومية من الشرق إلى الغرب، ودورة سنوية تستغرق اثنتي عشرة سنة من الغرب إلى الشرق مع أن الأرض ثابتة. لكن المشكل هو أن المريخ في حركته يتوقف مرة، ثم يتقهقر مرة أخرى، ثم يستأنف الحركة بعد ذلك. إنه حائر. ووجدت تفسيرات كثيرة، لكنها لم تكن مقنعة. وظل من غير المقبول وجود فوضى في السماء. إذن، لا بد من منح معقولية لهذه الفوضى التي ربما تكون ظاهرية، والحيرة مجرد وهم، كما قال كوبرنيكوس: «المريخ يسير عاديا والتحير وهم». ثم يقترح دوران الأرض لكي يحل المشكل. لكن أين تكمن قيمة الحل الذي قدمه كوبرنيك؟ وأين تكمن أزمة المنظومة الأرسطية التي حاول بطليموس ترميمها في كتابه المجسطي. يضيف عبد المجيد باعكريم: «إن الحل الذي أعطاه كوبرنيك، هو الذي سيستعمله الفلاسفة في حل مشكلات ميتافيزيقية. والسر هو الحديث عن حركة الملاحظ - الذات بالمفهوم الفلسفي - حيث تمت العودة إلى الذات، ولم يعد الاهتمام فقط بالموضوع. لأن الخلل في الذات وليس في الموضوع، المريخ مثلا - فحركة الشمس هي حركتي أنا، إذن فالمشكلات المطروحة آنذاك، وجدت حلها في الذات، ومشكلتها في الذات كذلك. وهكذا نلاحظ أن المعنى الفلسفي للذات، هو الملاحظ observateur، والمعنى العلمي هو الذات sujet. ومن ثم لا يمكن أن نفهم الفلسفة الحديثة، من دون فهم الكوبرنيكية، التي تمثل لحظة الانتقال من منظومة الموضوع إلى منظومة الذات، أو من منظومة الوجود إلى منظومة المعرفة. لذلك نجد كانط يقول بالثورة الكوبرنيكية في مجال الميتافيزيقا.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد. فقد ساهمت بعض المستجدات الفيزيائية، حسب الباحث محسن المحمدي، في تأزيم المنظومة الأرسطية. ففي سنة 1572، ظهر نجم جديد في السماء، لم يعثروا عليه فيما بعد، بل بحثوا عنه، لأنه بدا حينها يدب الشك في السماء. فأصبحنا أمام فرضيتين: إما أن نختار الأرسطية وإما أن ننسحب. وفي سنة 1574، لاحظ تيكوبراهي انطفاء النجم، ما يعني أن السماء مثلها مثل الأرض فيها كون وفساد. أما في سنة 1577 فقد تم اكتشاف أن المذنب ليس ظاهرة جوية، وإنما يدور في عالم ما فوق القمر، في فلك الزهرة، وهو ما لم تصمد أمامه إجابات أرسطو التي كانت ترى أن مبدأ الثقالة خاصية أرضية، والخفة خاصية لعالم ما فوق القمر».
صحيح أن فكرة الأرض الكروية ليست واحدة من المعضلات التي أدت إلى انهيار النسق الأرسطي - منذ المراجعات والاكتشافات التي بدأت في عصر النهضة - وتحريك براديغم جديد، لديه القدرة على تقديم بدائل إرشادية عامة، تستجيب إلى حاجيات المجمّعات العلمية الجديدة. لكنها كانت أحدى أكبر المسامير التي دقت في نعش الأرسطية، وأدت إلى مراجعات شاملة ستنعكس على باقي الأنساق المعرفية، ما سيسهم في تأسيس الحداثة الغربية، ويسهل ميلاد مفهوم الذات بمعناها الحداثي.

إحالات
* جورج يوليا، الطريق الرياضية في العلوم، ترجمة صالح القويز، منشورات آل سعود، جامعة الملك سعود، سنة 1986
* عبد المجيد باعكريم، محاضرات حول تاريخ الأنساق النظرية، الموسم الجامعي 2011. كلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس - المغرب
* الباحث محسن المحمدي، مقال حول كوبرنيك ومفهوم الذات منشور بالاقتصادية السعودية



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.