إدوارد ألبي.. كاتب مسرحي لا يخاف من «ذئب فرجينيا»

عراف مسرح العبث الأميركي غادرنا عن 88 عامًا

مشهد من مسرحية «من يخاف من فرجينيا وولف؟» وفي الإطار الكاتب المسرحي الأميركي إدوارد ألبي
مشهد من مسرحية «من يخاف من فرجينيا وولف؟» وفي الإطار الكاتب المسرحي الأميركي إدوارد ألبي
TT

إدوارد ألبي.. كاتب مسرحي لا يخاف من «ذئب فرجينيا»

مشهد من مسرحية «من يخاف من فرجينيا وولف؟» وفي الإطار الكاتب المسرحي الأميركي إدوارد ألبي
مشهد من مسرحية «من يخاف من فرجينيا وولف؟» وفي الإطار الكاتب المسرحي الأميركي إدوارد ألبي

لم يتوقف الكاتب المسرحي الأميركي المثير للجدل إدوارد ألبي Edward Albee (1928 - 2016) الذي تُوفي في منزله قبل أيام الماضي، عن الكتابة طوال مهنة استمرت أكثر من ستين عاما. وكما كان في حياته مشاغبًا وصادمًا للنقاد والجمهور، كان لاذعًا أيضًا، حتى في مواجهة الشيخوخة والعجز واعتبر «الموت بمثابة مضيعة تامة للوقت».
اعتبر ألبي أهم كتاب المسرح الأميركيين في النصف الثاني من القرن العشرين. كتاباته شديدة الذكاء في قدرتها على تفكيك مآزق الإنسان المعاصر الوجودية والنفسية، كما توصف أعماله بأنها ثاقبة في إظهار زيف العلاقات البشرية وسطحيتها، وشديد صراحتها - ربما إلى حد الإزعاج أحيانا - في تبيان التناقض بين الإنسان وذاته، وبين قشرة الحضارة الزائفة وبؤس الحياة.
نشأته كانت تكوينًا لا بد منه لملك مسرح العبث الأميركي المطلق. فهو أصلاً ليس ألبي بل ذلك اسم أخذه من العائلة الثرية التي تبنته بعد أن تخلى عنه والداه البيولوجيان. يقول إنه «بينما كان الأطفال يصابون بالهلع خوفًا من أن يكون آباؤهم ليسوا آباءهم الحقيقيين، كنت أخاف أن يكون هؤلاء أهلي الحقيقيين». وبينما كان والداه بالتبني يسعيان لأن يصبح طبيبًا أو محاميًا صدمهما أولاً برغبته في امتهان الكتابة، ولاحقًا بميوله المثلية. لم يتحدث إليه والده بالتبني بعدها، وحرمته أمه بالتبني من الميراث. تنقل ألبي بين المدارس وطرد من معظمها معتبرًا إياها بمثابة كابوس، ولم يكمل تعليمه الجامعي قط. عمل في وظائف تافهة عدة قبل أن يحترف الكتابة للمسرح، وكاد يُصاب بالإدمان على الكحول لولا مساعدة أحد أصدقائه له على الشفاء.
بدأت مهنة ألبي المسرحية بعد تجارب فاشلة أولى في كتابة القصة القصيرة والشعر، وقال مرة إنه تحول إلى كتابة المسرحيات لإحساسه بقدرة هائلة على الكتابة، لكنه لم يفلح في أي من أشكالها، فانتهى إلى الكتابة المسرحية. زمنيًا بدا وكأنه ورث شعلة المسرح الأميركي بعد موت أوجين أونيل، وبعدما كان آرثر ميللر وتينيسي ويليامز قد أنتجا بالفعل أفضل أعمالهما المسرحية. قدم ألبي نفسه إلى العالم من خلال عملٍ اعتبر وقتها صادمًا (قصة حديقة الحيوان - 1959) التي كتبها خلال أسبوعين ونصف الأسبوع على آلة كاتبة استعارها من مقر عمله كان يعمل وقتها كصبي مكتب ومراسل في إحدى الشركات. لم تعبأ أميركا وقتها بالمسرحية الأولى لألبي حتى قادتها الأحداث إلى برلين، المنشدة بحكم السيطرة العسكرية إلى الثقافة الأميركية - وقدمت حينها في تذكرة واحدة مع مسرحية لصموئيل بيكت (قصة حديقة الحيوان)، كانت إضاءة شديدة القسوة على الرعب الوجودي للأميركي العادي في مرحلة أيزنهاور، ويبدو أن الجمهور أحبها لدرجة أنه عندما أعيد تقديمها في أميركا العام التالي على مسرح ريفي صغير في قرية جرينويتش، أساهم الإقبال العريض على حضورها بإطلاق حركة مسرحية سميت «خارج البرودواي»، أي المسارح خارج منطقة تجمع العروض المسرحية الكبرى في نيويورك.
أشهر مسرحياته على الإطلاق (ربما ليست أهمها) كانت «من يخاف من ذئب فرجينيا؟» (1962) التي تحكي قصة زواج فاشل منح على أثرها جائزة توني لأفضل عمل مسرحي، التي تصنف بأنها الأهم بين جوائز المسرح في الولايات المتحدة. كانت المسرحية بمثابة صدمة تامة لمن يشاهدها بسبب الاختناق الذي وصلت إليه حالة الزوجين - الأكاديميين - بطلي النص اللذين فقدا الأمل وانهارت أحلامهما وقضيا ليلة سوداء في حوارات لاذعة شديدة القسوة والابتذال. أسم المسرحية كان استعارة من نص لمجهول على كرسي في إحدى حانات نيويورك، وهو يعني «من يخاف العيش من دون أوهام؟». شهرة «من يخاف من ذئب فرجينيا» لم تكن أساسًا بسبب استمرار عرض المسرحية دون توقف لعام ونصف العام، بل للفيلم الدرامي الذي أنتج عنها في 1966 من بطولة ريتشارد بورتن وإليزابيث تايلور وإخراج مايك نيكولز. المسرحية كانت نموذجًا مبكرًا لصوت ألبي في التعبير الذي سيستمر عليه لعقود ضمن فلسفته الساخرة من تحكم الأنانية بسلوك البشر. «لا يوجد أحد لا يريد شيئًا ما»، يقول أحد بطلي المسرحية.
نشر ألبي نحو ثلاثين عملاً مسرحيا كانت وكأنها عاصفة مستمرة عامًا بعد عام كاشفا أدق أسرار الطبقة الوسطى الأميركية، ساخطا دون رحمة على أوهام الحياة العائلية والمبادلات الاجتماعية، وأية محاولات لفهم الذات أو معنى الوجود، ساخرا فيها بشدة من تفاهة العيش مع تناسي الموت. كل ذلك جعل من أعماله هزة عنيفة لجمهوره، إذ لا يمكن هضمها بسهولة لعلو سقفها الفلسفي الذي يتطلب من المتلقي نضوجا استثنائيا. ولذا فإن علاقته مع الجمهور كانت متفاوتة الحرارة بين الحين والآخر، لكن علاقته بالنقاد كانت سيئة معظم الوقت، وخاض حروب ازدراء متبادل مع عدد منهم. كان يرى أن المسرح يجب أن يقدم للجمهور ما يفيدهم - حتى وإن تسبب لهم بالاستفزاز - لا ما يسليهم فقط، ولذلك كان واضحًا برفضه تحكم المنطق التجاري البحت في العمل المسرحي.
وانطلاقًا من هذا الإيمان، أنفق معظم ثروته التي جناها من العمل المسرحي على دعم كتاب مسرحيين آخرين كي يمكنهم أن يقدموا أعمالهم للجمهور.
يرفض ألبي وبشده التصنيفات السطحية التي تحاول وضعه في صندوق أنه كاتب مثلي رغم أنه لم ينكر ميوله تلك أبدًا. وقد نقل عنه قوله: «أنا لست مثليًا يكتب، في الحقيقة أنا كاتب تصادف أنه مثلي». وهو يقول: «إن النصوص يجب أن ترتقي دومًا فوق توجه الكاتب أو الكاتبة الجنسي»، وللحقيقة فإن البذاءة في بعض مسرحياته ليس لها علاقة تذكر بتوجهاته الشخصية.
نجحت عدة مسرحيات لألبي في أوروبا قبل عرضها في الولايات المتحدة. استقبل بعضها استقبالاً حافلاً. ولذلك يصف ألبي نفسه بأنه «كاتب مسرح أوروبي على نحو ما».
يقول النقاد إنه تأثر فيما كتب بصموئيل بيكيت ويوجين أيونيسكو وجان جينيه وهو عاصر هارولد بنتر في مرحلة كان الفن فيها متمحورًا حول الخواء وانعدام المعنى وخيبات الأمل الوجودية. وعلى الرغم من سجالاته الكثيرة مع برودواي، فقد فاز ألبي بجائزة توني لمجمل أعماله المسرحية، وأيضًا بجائزة بوليتزر ثلاث مرات، أولا عن «توازن هش» (1967)، وهي كوميديا سوداء عن عائلة غنية يكشف أفرادها عن تعاستهم المقيمة من خلال مبارزات لغوية حادة، وثانيا عن «مشهد بحري» (1975) هي مسرحية شديدة الغرابة عن ثيمات الحياة والتطور والموت من خلال نقاش على شاطئ البحر، وأخيرا «ثلاث نساء طويلات» (1991)، وهي عمل يستلهم ذكرياته عن حياة السيدة التي تبنته، ويحكي - في مراحل ثلاث - قصة حياة سيدة تحتضر.
«ألبي بالتأكيد ليس معجبًا بالنوع البشري» يقول الناقد جون لاهر في «النيويوركر». هو يحس أن «البشر يقضون وقتًا طويلاً في العيش وكأنهم لن يموتوا». ذلك كثير بالنسبة له بالطبع، ولذا فمسرحياته على حد قوله: «عن أناس لم يلحقوا بالقطار، يغلقون ذواتهم عن الحياة مبكرين، وينتهون إلى الموت وهم نادمون على ما لم يفعلوه لا على ما فعلوه».
ألبي وكأنه عراف، فـ«مهمة الكاتب أن يرفع للناس مرآة كي يروا كم هي حياتهم مليئة بالعبث».



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي