الشعر.. عين زجاجية

الشاعر والناقد الإنجليزي رين يحلل قصائد من الشعر الأوروبي والأميركي

غلاف الكتاب - كريج رين
غلاف الكتاب - كريج رين
TT

الشعر.. عين زجاجية

غلاف الكتاب - كريج رين
غلاف الكتاب - كريج رين

«العين الزجاجية لجدتي: نظرة إلى الشعر» عنوان كتاب صدر في هذا العام للشاعر والناقد الإنجليزي كريج رين (الناشر: كتب الأطلنطي، لندن 2016. 204 صفحات).
Craig Raine، My Grandmother›s Glass Eye: A Look at Potery، Atlantic Books، London 2016
وهذا العنوان الذي لا يخلو من غرابة مقتبس من الشاعرة الأميركية إليزابيث بيشوب. تروي هذه الأخيرة أن جدتها كانت إحدى عينيها طبيعية، والعين الأخرى عدسة زجاجية. وهذه العين الأخيرة تومئ إلى أن الشاعر ينظر إلى الدنيا بعين صناعية، أي من خلال الصنعة والتكنيك، وتغيير زاوية النظر إلى المرئيات.
يصدر رين كتابه بجملة من رواية الروائي الكولومبي جابريل جارثيا ماركيز «الحب في زمن الكوليرا»، ثم يتقدم إلى تحديد موقفه في عدد من قضايا الشعر. عنده أن الشعر لا بد، مهما أوغل في الغموض أو الغرابة، أن يكون له معنى، سواء كان معنى واضحا من النظرة الأولى، أو بعد نظر وتدبر. ومن عقائده الأخرى: (1) أنه ما من قواعد مطلقة في الشعر؛ فالعبقرية تصنع قواعدها الخاصة، ولكن عليك أن تعرف هذه القواعد أولا قبل أن تفكر في الخروج عليها. (2) الشعر فن واع. إنه صناعي وليس تلقائيا. (3) لا يجب أن يكون الشعر غامضا لأجل الغموض، أو مدعيا أو مبالغا. فالوضوح لا ينتقص من قدر الشاعر. (4) الشعر فن وليس نسخة من الطبيعة. ليست السوناته مثل غروب الشمس. ولهذا كانت كلمة «شاعر» تعني قديما في اللغة اليونانية «صانع». (5) الشعر يمضي إلى أفق أبعد من النثر. إنه يشحذ من حدة الكلمات، ويصل بها إلى ذروة انفعالية وعقلية، بل وجسدية.
وفي الفصل الأول من كتابه، وعنوان الفصل «الغموض والدقة»، يناقش رين العلاقة بين فن الشعر وفن الموسيقى. ويسوق موافقا قول المؤلف الموسيقي الحداثي إجور سترافنسكي في سيرته الذاتية: إن الموسيقى، باعتبارها أكثر الفنون تجريدا، لا تعبر عن شيء سوى ذاتها. فهي (باستثناء الموسيقى التصويرية في الأفلام مثلا) لا تعبر عن شعور، ولا عن اتجاه، ولا عن حالة نفسية. إنها لا تستخدم كلمات؛ ومن ثم فهي لا «تعني» شيئا بالمعنى الحرفي لكلمة المعنى. وفي فصله المسمى «تعريف الفأر» (عنوان آخر غريب!) يطرح كرين هذا السؤال: ما هو الشعر؟ كيف يمكن تعريفه؟ هنا يورد قول الشاعر والدارس الكلاسيكي الإنجليزي ا.ا.هاوسمان في رسالة كتبها إلى أحد معارفه في 6 مايو (أيار) 1926: «لست أستطيع أن أعرّف الشعر بأكثر مما يستطيع الكلب أن يعرّف الفأر: لكنه يعرف ما هو الفأر عندما يلتقي به». ومغزى هذا، كما يقول ناقد عربي قديم، أن من الأشياء ما تحيط به المعرفة، ولكن لا تدركه الصفة. والشعر واحد من هذه الأشياء.
وعلى امتداد كتابه المؤلف من تصدير ومقدمة، وتسعة فصول وتذييل يعالج رين قضايا من قبيل: الغموض والدقة، الإيقاع، السطر الشعري، القصيدة الغنائية، الاستعارة وغير ذلك. إنه يناقش قصائد تمتد من أواخر القرن السادس عشر إلى العقد الثاني من الألفية الحالية، ولكنه لا يقتصر على الشعر. فهناك إشارات تتفاوت طولا وقصرا إلى روايات مثل «ميدان واشنطن» لهنري جيمس و«هواردز إند» لـا.م.فورستر و«يوليسيس» لجيمز جويس و«لوليتا» لفلاديمير نابوكوف و«رب الذباب» لوليم جولدنج وأقاصيص لتشيخوف وجويس وهمنجواي، ومسرحيات مثل «مكبث» لشكسبير و«الأشباح» لإبسن و«معرض الحيوانات الزجاجية» و«عربة ترام اسمها الرغبة» و«طائر الشباب العذب» لتنيسي وليمز و«من يخاف من فرجيينيا وولف؟» لإدوارد أولبى. بل إنه يخرج أحيانا عن نطاق الأدب ليستمد شواهد على ما يقوله من لوحة لرمبرانت، أو من عمل موسيقي لديبوسي. ويشتبك في جدل لا يخلو من عنف مع نقاد وأدباء آخرين. فهو يعارض مثلا آراء الناقد والأكاديمي الإنجليزي المعاصر جون كاري ويصفه بأنه أصبح ناقدا تفكيكيا، رغم أن كاري يجهر بأنه ضد التفكيكية (عند رين أن «التفكيك لا يصلح طريقا إلى قراءة الشعر»). كذلك يشتد رين في نقد الشاعر والناقد الآيرلندي المعاصر توم بولين فيرى أن أذن هذا الأخير معيبة، وأنه يخطئ في توصيف أوزان الشعر. وفي غمرة هذه المجادلات كلها يكشف رين، رغم نزعته العدوانية أحيانا، عن تواضع محمود ورغبة في الإفادة من أهل الرأي. فهو حين يلتقي مثلا في رواية لوليم جولدنج بكلمة «بلانكتون» (أي العوالق أو الأحياء العالقة في الماء) يلجأ إلى عالم الحيوان رتشارد دوكنز مؤلف كتاب «الجينة (الورثة أو الناسلة) الأنانية» لكي يستوثق من معنى الكلمة علميا قبل أن يجزم بصواب استخدام جولدنج لها أو عدم صوابه.
ويحلل رين عددا من قصائد الشعر الأميركي والإنجليزي والأوروبي بما يكشف عن جماليات هذه القصائد وما تختزنه من دلالات وإيحاءات. إنه يتوقف مثلا عند قصيدة للشاعر الأميركي إزرا باوند عنوانها «في محطة للمترو» (1913). القصيدة بالغة القصر تتكون من بيتين وحسب:
طيف هذه الوجوه في الزحام:



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.