دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً

من شتم باراك أوباما.. إلى فرق قتل «مافيات» المخدرات

دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً
TT

دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً

دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً

أثار رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي خلال «قمة العشرين» ثم قمة مجموعة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) جدلاً بالكلام النابي الذي صدر عنه بحق الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو ما حدا بالأخير إلى إلغاء اجتماعه بدوتيرتي. وفيما بعد حاول الرئيس الفلبيني توضيح ملابسات ما حدث وما قيل، وادعى أن الكلام ما كان موجهًا إلى أوباما، وأنه نقل في غير سياقه.
غير أن مشاكل دوتيرتي لا تقتصر على أقواله، بل تشمل سياساته التي هي الأخرى تثير لغطًا، ولا سيما ملاحقته شبكات المخدرات بصورة خارجة على نصوص القانون، مع أنه محام ممارس. وكان مسؤولون أميركيون وحقوقيون قد دعوا بالأمس إلى فتح تحقيق مستقل في مزاعم أدلى بها «قاتل تائب» مضمونها أن الرئيس الفلبيني أمر بقتل ألف من المجرمين ومن خصومه عندما كان رئيسا لبلدية مدينة دافاو لأكثر من عشرين سنة. وقال الرجل أمام لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ إنه شارك مع مجموعة من الشرطيين في قتل نحو ألف شخص في دافاو بأمر من دوتيرتي بين العامين 1988 و2013، بل إنه شخصيًا قتل بنفسه أحد الضحايا. كذلك يزعم معارضوه أن أعمال القتل في دافاو انتشرت لاحقًا إلى مختلف أنحاء البلاد بعد توليه السلطة.
شهدت الحياة السياسية في الفلبين، إحدى الدول المحورية في شرق آسيا، خلال الجزء الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي شخصيات كثيرة مثيرة للجدل. وقد يكون أهم هذه الشخصيات فرديناند ماركوس الذي حكم البلاد كديكتاتور لمدة 21 سنة بين 1965 و1986، شاركته الأضواء واللغط زوجته إيميلدا الشغوفة بالبذخ والأزياء والأحذية الفاخرة. كذلك شهدت فترات نفوذ لبيوت وعائلات سياسية منها عائلة ماكاباغال، التي جاء منها ديوسدادو ماكاباغال، الرئيس الذي سبق ماركوس في السلطة وتولى الرئاسة بين 1961 و1965، ثم شغلت منصب الرئاسة ابنته غلوريا ماكاباغال - أرويو بين 2001 و2010.
وكذلك عائلة أكينو السياسية العريقة التي خرج منها بنينيو أكينو (الثاني)، السياسي المعارض العنيد أيام ديكتاتورية ماركوس الطويلة الذي اغتيل في مطار مانيلا لدى عودته إلى البلاد من المنفى عام 1983، وأدى اغتيال أكينو إلى ركوب أرملته كورازن أكينو مد الغضب الشعبي وقادت «الثورة الصفراء» واستفادت من ابتعاد عدد من أركان نظام ماركوس - على رأسهم الجنرال فيديل راموس قائد الأمن الداخلي يومذاك - عن الديكتاتور العجوز.. فانتخبت رئيسة للجمهورية عام 1986 وظلت رئيسة حتى 1992. وبعدما خلفها راموس في الرئاسة (بين 1992 و1998)، ثم جوزيف استرادا الممثل السينمائي السابق وعمدة مانيلا، ثم ماكاباغال أرويو، انتخب ابنها بنينيو أكينو (الثالث) رئيسًا وتولى المنصب بين 2010 و2016.
* دوتيرتي الشخص والسياسي
يوم 30 مايو (أيار) من العام الحالي، فاز رودريغو دوتيرتي بالرئاسة وخلف أكينو (الثالث) مرشحًا عن حزب الفلبين الديمقراطي - «قوة الشعب» PDP - Laban الذي تعود جذوره إلى مقاومة ديكتاتورية ماركوس، والذي تشكل بكيانه الحالي من حزبين هما حزب الفلبين الديمقراطي وحزب «قوة الشعب» الذي أسسه الزعيم المعارض الراحل أكينو.
انتخب دوتيرتي في أعقاب حصوله على أكثر من 16 مليون صوت، متغلبًا بفارق يزيد عن 6.6 ملايين صوت على منافسه مار روكساس. وهو من مواليد يوم 28 مارس (آذار) 1945 في مدينة ماسين بجنوب جزيرة لايته بوسط أرخبيل الفلبين، والعاصمة الإدارة لمحافظة جنوب لايته. وبانتخابه بات أول رئيس للفلبين من جزيرة مينداناو بجنوب البلاد، ورابع رئيس تعود أصوله إلى جزر الأرخبيل الوسطي بين جزيرتي لوزون (شمال) ومينداناو (جنوب) الكبيرتين. وللعلم، كانت عائلته قد استقرت في مينداناو بين 1948 و1950 إلا أن دوتيرتي، مثل كثيرين من الساسة الذين لمعوا في الفلبين خلال العقود الأخيرة، سليل عائلة سياسية نشطت ونجحت في العمل السياسي المحلي. إذ تولّى أبوه المحامي فيتشنتي دوتيرتي منصب عمدة مدينة دافاو - كبرى مدن مينداناو - وحاكم ولاية دافاو قبل تقسيمها، وابن عمه رولاند عمدة لمدينة سيبو، وكان عمه رامون (والد رامون) عمدة أيضا قبل ابنه.
تلقى رودريغو تعليمه في ماسين ثم في دافاو حيث أكمل دراسته الثانوية. وبعدها التحق بجامعة ليسيوم الفلبين في العاصمة مانيلا وتخرّج فيها حاملاً درجة بكالوريوس في العلوم السياسية عام 1968، ثم درس الحقوق بكلية سان بيدا للحقوق أيضًا في مانيلا وتخرّج مجازًا في الحقوق عام 1972، ثم، بعدما أكمل تأهيله القانوني ودخل نقابة المحامين، عمل في عام 1972 أيضًا مستشارًا في مكتب الادعاء العام في مدينة دافاو، وتدرج في المناصب القانونية هناك حتى عام 1986.
* «الثورة الصفراء»
في أعقاب «ثورة قوة الشعب» - أو «الثورة الصفراء» الشعبية، نسبة لشعارها وهو الأشرطة الصفراء - التي أطاحت ديكتاتورية فرديناند ماركوس عام 1986، عيّن دوتيرتي نائبا لعمدة مدينة دافاو. وفي عام 1988 ترشح للانتخابات المحلية وفاز بمنصب العمدة واحتفظ بالمنصب حتى عام 1998.
بعد ذلك دخل دوتيرتي مجلس النواب عام 1998 عن الدائرة الانتخابية الأولى في مدينة دافاو، وعاد عام 2001 ليترشح لعمودية دافاو ويفوز، ثم يكرّر فوزه عامي 2004 و2007. وحقّق إبان هذه الفترة نجاحات لافتة انعكست بفوز دافاو ثلاث مرات بجائزة «أفضل حكم محلي» على مستوى البلاد. واشتهر عنه أنه كان يُباغت السكان المحليين بظهوره بينهم مترجلا من سيارة أجرة متفقدًا أحوالهم. ولكن لم تقتصر شهرته وسمعته الطيبة كمسؤول محلي على الفلبين وحدها، بل نشرت مجلة «تايم» الأميركية المرموقة صورًا له وهو يقوم بجولات ودوريات تفقدية داخل شوارع مدينته ممتطيًا إحدى دراجاته النارية المفضلة الضخمة، على رأس قوة مسلحة. في المقابل، أخذت عليه عدة أوساط، ولا سيما جماعات حقوق الإنسان والشرطة الوطنية وبعض الصحافة، ناهيك من الأمم المتحدة نفسها، اعتماده أساليب عنفية خارج حرفية القانون عبر فرق ميليشياوية تلاحق وتعاقب بالقتل الضالعين بتجارة المخدرات و«مافياتها» الإجرامية، وهذا، مع أنه بنى مراكز إيواء وإعادة تأهيل لضحايا المخدرات من المدمنين، ورغم خلفيتهم القانونية كمحام.
وعلى هذا الصعيد تشير الأرقام التي أعلنها دوتيرتي عن حملاته ضد الجريمة المنظمة وشبكات المخدرات تراجعت بدرجة كبيرة بين عامي 1985 و2000، ويدعي أن معدلات الجريمة انخفضت من مستوى بالمئات لكل 1000 نسمة عام 1985 إلى 0.8 لكل 10 آلاف نسمة في الفترة بين 1999 و2005، ولكن في المقابل، في دحض لفاعلية إجراءات دوتيرتي، تقول الشرطة الوطنية إنه في حين ازداد عدد سكان دافاو بنسبة 29 في المائة (من نحو مليون و120 ألف نسمة إلى نحو مليون و440 ألف نسمة) بين 1999 و2008، ارتفع معدل الجرائم الموثقة بنسبة 248 في المائة (من 975 جريمة إلى 3391 جريمة). كما تقول الشرطة الوطنية إن دافاو تحتل المرتبة الرابعة بين مدن البلاد على قائمة جرائم القتل، والمرتبة الثانية في قائمة جرائم الاغتصاب الجنسي. غير أن المؤشر العام للجرائم انخفض كثيرًا بين 2013 و2015 وكان العدد الأكبر من الوفيات قد سجّل خلال عمليات الشرطة.
من ناحية أخرى، يسجَّل لدوتيرتي أنه أول عمدة مدينة في الفلبين خصّص تمثيلاً رسميًا للمواطنين الأصليين من قومية اللوماد، وكذلك للمسلمين في البلديات والجهات الإقليمية، وإسناد مناصب لهم في مناطقهم للاهتمام بشؤونهم. ويقال إن دوتيرتي - الذي يتحدر من شجرة عائلية فيها مسلمون - تبنى إجراءات مكافحة التمييز ردًا على تقارير كان تلقاها عن تعرض المسلمين لتمييز ديني وعنصري ضدهم من السماسرة العقاريين. وتجدر الإشارة إلى أن معظم المسلمين في الفلبين يعيشون بجزيرة مينداناو وأرخبيل سولو وجزيرة بالاوان بجنوب البلاد وجنوب غربها. وقبل انتخابه رئيسًا، وبفضل شعبويته وانفتاحه على الأقليات، بات دوتيرتي أحد أطول عُمُد المدن حكمًا في الفلبين إذ بلغ طول مدة توليه المنصب في دافاو أكثر من 22 سنة (موزعة على سبع دورات).
* معركة الرئاسة
دوتيرتي كان قد لمّح إلى اعتزامه الترشح لرئاسة الجمهورية في الأشهر الأولى من عام 2015 غير أنه كان ينفي وجود خطط جدية بهذا الشأن، بينما كان مؤيدوه يناشدونه بإصرار خوض انتخابات 2016، وحقًا، يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، وهو آخر مهلة لشهادات الترشيح، تقدم السياسي مارتين دينيو بترشحه للرئاسة عن حزب دوتيرتي، وأثار مناصرو الأخير فكرة أن يكون دوتيرتي مرشحًا احتياطيًا لدينيو في حال رفضت المفوضية الانتخابية ترشيحه أو قرر لاحقًا الانسحاب من الميدان. ثم يوم 26 أكتوبر أعلن دوتيرتي أن آخر موعد سيعلن فيه عن نيته الترشح أو العزوف عنه سيكون يوم 10 ديسمبر (كانون الأول)، ونبه مناصريه إلى ضرورة الالتزام بالهدوء والانضباط إذا ما فاز. وفي اليوم التالي، أعلن الحزب رسميًا ترشيح دوتيرتي كمرشح احتياطي في حال خروج دينيو أو إخراجه من الحلبة. وبعد يومين فقط سحب دينيو ترشحه وسُمّي دوتيرتي بديلاً من منطلق أن المفوضية الانتخابية قد تعتبر دينيو «مرشح مشاغبة» غير جدي. ووسط مناورات وأخذ ورد بين المرشحين.
* رئيسًا للجمهورية
فوز دوتيرتي الكبير في الانتخابات الرئاسية سلط عليه الأضواء لجملة من الأسباب المحلية والودلية، أبرزها كونه من أبناء مينداناو التي شهدت على امتداد سنوات كثيرة معارك طاحنة بين سلطات مانيلا وثوار مورو بشتى تلاوينهم الوطنية والإسلامية، وكذلك الأزمة الدولية الكبرى في الشرق الأقصى بين عدة دول منها الصين والفلبين وفيتنام حول أرخبيل سبراتلي المتنازع عليه في بحر الصين الجنوبي، ما يستحق الذكر أن للأرخبيل غير المأهولة جزره أهمية بالغة في رسم الحدود البحرية الدولية بين الدول المتنازعة عليه، وبالتالي، ثروات النفط والغاز، ناهيك من مصائد الأسماك.
إلا أن الأزمة الأخطر التي يواجهها اليوم، ولا سيما إذا قررت الولايات المتحدة، الحليف التقليدي القديم للفلبين، التصعيد مع الرئيس دوتيرتي هي سجله في موضوع التعاطي الدامي و«غير القانوني» مع شبكات المخدرات والجريمة المنظمة منذ كان عمدة في مدينة دافاو. وتجدر الإشارة إلى أنه مع إثارة المسؤولين الأميركيين وعدة جهات قانونية مسألة فتح تحقيق مستقل في تهم أمر دوتيرتي الشرطة والميليشيات الموالية له بقتل من يعتبرهم مجرمين وكذلك من خصومه السياسيين، علّق مارك تونر نائب الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية قائلا: «هذه مزاعم خطيرة ونحن نأخذها على محمل الجد، إننا نتفحصها».
وفي سياق متصل زعم معارضو دوتيرتي، أمام مجلس الشيوخ الأميركي، أن عمليات القتل التأديبي في الحملة المستمرة ضد تجار المخدرات أدت لتصفية أكثر من ثلاثة آلاف شخص خلال 72 يوما من تنصيبه رئيسًا للجمهورية. كذلك، حثت منظمة «هيومن رايتس ووتش» السلطات الفلبينية على السماح للأمم المتحدة بالتحقيق في التهم الموجهة إلى الرئيس، واعتبر براد آدامز، مدير المنظمة في آسيا، عبر في بيان أنه «يستحيل أن يتولى الرئيس دوتيرتي التحقيق مع نفسه، ولذا من الضروري أن يُطلب من الأمم المتحدة تولي هذه المهمة».
* دوتيرتي.. في سطور
- ولد رودريغو روا دوتيرتي في مدينة ماسين بالفلبين يوم 28 مارس (آذار) 1945.
- تشير شجرة عائلية إلى أصول برتغالية وإسبانية ومالاي وصينية وعربية (لجهة أمه) بجانب السكان الأصليين.
- تزوج إليزابيث زيمرمان (أميركية ألمانية الأصل) عام 1973، وطلقا عام 2000، يعيش حاليًا مع خليلة اسمها سييليتو آفانسينيا.
- أولاده: باولو وسارا وسيباستيان (من زيمرمان) وفيرونيكا (من آفانسينيا).
- محام، وسياسي، برز في الحكم المحلي عمدة، وبرلماني، قبل انتخابه رئيسًا، خلفًا للرئيس السابق بنينيو أكينو «الثالث»
- ينتمي إلى حزب الفلبين الديمقراطي - قوة الشعب.
* نائبه، نائب رئيس الجمهورية، ليني روبريدو.
- يعرف عنه شغفه الشديد بالدراجات النارية.
- ابنته سارا هي العمدة الحالية لمدينة دافاو، معقل العائلة السياسي.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.