{قصر الصنوبر} في لبنان يفتح أبوابه للزوار

بمناسبة الدورة الـ33 لـ«الأيام الأوروبية للتراث» لعام 2016

مدخل {قصر الصنوبر} في بيروت.. وفي الإطار إحدى القاعات الأثرية ({الشرق الأوسط})
مدخل {قصر الصنوبر} في بيروت.. وفي الإطار إحدى القاعات الأثرية ({الشرق الأوسط})
TT

{قصر الصنوبر} في لبنان يفتح أبوابه للزوار

مدخل {قصر الصنوبر} في بيروت.. وفي الإطار إحدى القاعات الأثرية ({الشرق الأوسط})
مدخل {قصر الصنوبر} في بيروت.. وفي الإطار إحدى القاعات الأثرية ({الشرق الأوسط})

أعلنت السفارة الفرنسية في لبنان عن فتح أبواب «قصر الصنوبر» لأول مرة، أمام الزوّار في بيروت (منطقة سباق الخيل) غدا الأحد (18 الحالي).
وجاءت هذه الخطوة من قبل السفارة الفرنسية بمناسبة إقامة الدورة الثالثة والثلاثين لـ«الأيام الأوروبية للتراث» لعام 2016، الذي استحدثه المجلس الأوروبي منذ سنة 1991. وتعدّ هذه المناسبة التي تجري سنويا كل ثالث أحد من شهر سبتمبر (أيلول) مميزة، لكونها تجعل الفرصة سانحة لاكتشاف المواقع الأثرية المهمة في أكثر من خمسين بلدا ينتمون إلى المجلس الأوروبي.
وانطلاقا من هذه الدورة التي أطلقها وزير الثقافة الفرنسي، جاك لانغ، في عام 1984، قررت السفارة الفرنسية في لبنان فتح أبواب «قصر الصنوبر» أمام الزائرين لكونه يشكّل معلما تاريخيا مشتركا بين لبنان وفرنسا.
وخصصّت السفارة ساعة واحدة (من الثانية عشرة ظهرا حتى الواحدة بعد الظهر)، لأهل الصحافة والإعلام ليتسنى لهم تغطية الحدث بحضور السفير الفرنسي في لبنان إيمانويل بون.
وسيتسنّى للزوار الراغبين في استكشاف هذا المعلم التجوّل في أرجائه، والتعرّف إلى غرفة الطعام فيه وإلى صالوناته الثلاثة الشاسعة: الصالون الكبير (من تصميم المهندس الفرنسي ميشال إيكوشار)، إضافة إلى الصالون العثماني وصالون الموسيقى. وكذلك سيتاح لهم الوقوف على شرفاته (تطلّ على حديقته الغنّاء) والتنقّل في باحته الخارجية (تجري فيها حفلات السفارة الرسمية). وسيسمح لهم أيضا بالتقاط الصور الفوتوغرافية كذكرى من هذه الزيارة.
وتجري في اليوم نفسه زيارات لمعالم أثرية في بلدان عدة، بينها ألمانيا والدنمارك وإسبانيا وكرواتيا وقبرص وبلجيكا وبلغاريا وغيرها من الدول الأوروبية.
والمعروف أن «قصر الصنوبر» في بيروت تحوّل إلى مقرّ رسمي للسفراء الفرنسيين في لبنان منذ تاريخ استقلال لبنان في عام 1943. فتوالى عليه بين أعوام 1946 و1974 تسعة سفراء بينهم: أرمان دي بلانكيه دو شايلا وجورج بلاي ولويس روشيه وميشال فونتان وهوبير آرغو وغيرهم. ومن مدخل هذا القصر أعلن استقلال لبنان الكبير، وذلك في الأول من سبتمبر 1920 كما تشير اللوحة التذكارية الموضوعة إلى يسار المدخل. وبناء على معاهدة وقّعت في 28 سبتمبر 1921. تنازلت أسرة سرسق (المالكة الأساسية لهذا العقار)، عن حقوقها الملكية للدولة الفرنسية مقابل 1850000 فرنك فرنسي. فأضحت بذلك الدولة الفرنسية مالكة المباني والمستأجرة الرسمية من بلدية بيروت (كان استأجرها منها ألفرد سرسق لفترة أربعين عاما). وكان يومها سياجا خشبيا يفصل ما بين هذا العقار، ومساحته 600 ألف متر، وميدان سباق الخيل الواقع على حدوده.
ومع اندلاع الحرب اللبنانية في عام 1975 اضطر السفير هوبير آرغو إلى إخلاء المكان والعودة إليه أواخر عام 1976. وتم احتلال القصر من قبل المسلحين في عام 1978 وبعد خلّوه منهم عاد هوبير إلى المكوث فيه حتى وصول خلفه دولامار، فاستقر فيه هذا الأخير مع عائلته إلى حين اغتياله في عام 1981.
كما أقام فيه السفير بول مارك هنري حتى بدء القصف الإسرائيلي عام 1982، فتم استخدامه مستشفى تابعا للجيش الفرنسي، كما تم استخدامه من قبل فرقة المظلات في الجيش الفرنسي، التي شاركت مع كثير من القوات المتعددة الجنسيات، وكذلك شكّل مقرا للمراقبين الدوليين.
ومع حلول السلام في لبنان استعادت فرنسا هذا المبنى من قوى الأمن الداخلي اللبناني التي عملت على حراسته منذ عام 1984. وكان قد تعرّض لأضرار جسيمة بفعل المعارك وعمليات النهب التي طالته. فتمّ تأمين حمايته من رجال الدرك الفرنسي منذ عام 1991 حتى عام 1995. وأثناء تولّي السفير الفرنسي جان بيار لافون مهامه الدبلوماسية في بيروت (مايو «أيار» 1994)، تم اتخاذ القرار بإعادة تأهيل «قصر الصنوبر»، وانطلقت ورشة الأشغال فيه وإعادة ترميمه أثناء الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى لبنان في شهر أبريل (نيسان) من عام 1996. وأشرف عليها السفير الفرنسي دانيال جوانو، بعد أن كان رئيس الوزراء الفرنسي آلان جوبيه قد أعلن عن مسابقة هندسية لإعادة بناء القصر، فازت بها مجموعة (sud - architectes) من مدينة ليون.
تمّ تدشين وإعادة افتتاح «قصر الصنوبر» مقرّ إقامة السفراء الفرنسيين في احتفال أقيم في شهر مايو من عام 1998، ترأسّه الرئيس الفرنسي يومها جاك شيراك.
إذن اللبنانيون سيتحوّلون غدا إلى «أصحاب السعادة»، لكونهم سيشكّلون أول الزائرين لهذا المعلم التاريخي العريق مقرّ إقامة السفراء الفرنسيين في لبنان.
وعلى أمل أن تعاد الكرة العام المقبل فيفتح القصر أبوابه أمام الجمهور مرة ثانية، فإن زوّار «قصر الصنوبر» غدا سيكونون من بين المحظوظين الذين سيستمتعون في التعرّف إلى هذا المعلم التاريخي، ويكتشفون هندسته المعمارية الداخلية بوصفهم أول جمهور عادي يدخله منذ تأسيسه حتى اليوم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)