حينما يلتقي المغاربة ملكهم خارج البروتوكول

صور «سيلفي» الملك محمد السادس تحقق شعبية كبيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي

العاهل المغربي الملك محمد السادس في صورة تذكارية مع بعض أفراد الجالية المغربية في المهجر
العاهل المغربي الملك محمد السادس في صورة تذكارية مع بعض أفراد الجالية المغربية في المهجر
TT

حينما يلتقي المغاربة ملكهم خارج البروتوكول

العاهل المغربي الملك محمد السادس في صورة تذكارية مع بعض أفراد الجالية المغربية في المهجر
العاهل المغربي الملك محمد السادس في صورة تذكارية مع بعض أفراد الجالية المغربية في المهجر

انتشرت أخيرا صور للملك محمد السادس مع مواطنين مغاربة مقيمين في باريس على مواقع التواصل الاجتماعي تم تناقلها على نطاق واسع، في ظاهرة غير تقليدية وبعيدة عن تعقيدات البروتوكول الملكي.
ويبدو محمد السادس في هذه الصور مرتاحا ومبتسما، وهو يرتدي سروالا من الجينز وتحته قميص صيفي ملون، ما يعكس صورة ملك مواكب للعصر ويبدو واضحا وجود استراتيجية إعلامية مدروسة تسعى إلى ترويجها على منصات التواصل الاجتماعي.
والتقطت بعض هذه الصور في جادة الشانزلزيه الشهيرة في باريس، في إحداها يتحلق عدد من مغاربة المهجر حول ملكهم الذين التقوه صدفة لالتقاط صور «سيلفي» بهواتفهم الذكية، ويبدو الملك مرتاحا ومرحبا بالفكرة. في صور أخرى، يظهر وهو يبادل مواطنيه التحية أو يتبادل معهم أطراف الحديث.
بين هؤلاء عامل نظافة مغربي يأخذ صورة مع الملك، وتبدو الحراسة الأمنية حول الملك شبه غائبة أو غير ظاهرة للعيان في الصور، بينما يمكن رؤية حارسين شخصيين أو ثلاثة في إحدى الصور على مقربة منه. وهم ساعدوا على ما يبدو في بعض الأحيان على التقاط صور السيلفي أو تنظيم أدوار الراغبين في التقاطها.
ويروي مومو، وهو شاب مغربي مقيم في باريس، على حسابه على «فيسبوك» «كنت أتسوق رفقة العائلة في الشانزلزيه عندما لمحت الملك على متن سيارة الدفع الرباعي خاصته، فصرخت: سيدنا (صاحب الجلالة)»، مضيفا: «كان لطيفا وتوقف وجاء ليسلم علينا وأخذ ابنتي بين ذراعيه والتقطت معه صورة».
وحصلت هذه الصورة التي نشرت في سبتمبر (أيلول) على 19 ألف «إعجاب» بعد أسبوع من نشرها.
وفي مقال بعنوان «محمد السادس، ملك السلفيات»، علقت أسبوعية «جون آفريك» الفرنسية المهتمة بالشأن الأفريقي على صور الملك بالقول: «نادرا ما تمت مشاركة صور رئيس دولة بهذا الشكل الذي تمت به مشاركة صور محمد السادس الذي يجد راحة في الوقوف أمام العدسات المرتجلة لمواطنيه».
وظاهرة سلفيات الملك ليست جديدة، سواء في داخل المغرب أو خارجه، فصورة محمد السادس التي تلتقطها عدسات الهواتف الذكية صارت أكثر تداولا من صوره الرسمية على وسائل الإعلام التقليدية.
وفي وقت يحجم عدد من رؤساء الدول قدر الإمكان عن الظهور دون حماية وإجراءات أمنية محكمة بسبب الخوف من الاعتداءات التي طالت دولا عدة، يستمر الملك محمد السادس الذي يدافع عن إسلام معتدل في الخروج علنا خلال كل سفر خاص، والوقوف أمام كاميرات المارة.
ويتم بث معظم الصور التي يتم التقاطها للملك محمد السادس بشكل غير رسمي عبر صفحة على «فيسبوك» تحمل اسم «محمد السادس».
على أعلى الصفحة، نشر شاب صورة له وهو في سن الثامنة يرتدي لباسا تقليديا مغربيا وقد وضع بجانبه صورة للملك محمد السادس تعود لسنة 1999. وهي السنة التي اعتلى فيها عرش المغرب، وعلى صورة البروفايل يظهر الملك محمد السادس بنظارات شمسية وقميص صيفي.
ولم تنجح وكالة الصحافة الفرنسية في الاتصال بالشاب الذي يشرف على الصفحة، ويشاع عنه حذره من وسائل الإعلام الأجنبية، وإضافة إلى صفحة الملك محمد السادس، يدير ثلاث صفحات أخرى لأفراد العائلة الملكية، إضافة إلى صفحته الخاصة المليئة بصوره الشخصية.
وكثيرا ما تساءل المغاربة وصحافيون محليون عن الطريقة التي يحصل بها هذا الشاب على صور الملك مرفقة بتعليقات أصحابها، في وقت ظلت الحياة الشخصية للملك في حكم المحظور، باستثناء ما أراد القصر تسريبه للعموم.
وفي حوار أجراه معه موقع «سي إن إن عربي»، اعترف هذا الشاب بوجود «تنسيق بيني وبين الديوان الملكي في تسيير الصفحة»، معربا عن أمله في «أن تكون الصفحة التي أنشئت صفحة رسمية للملك مستقبلا».
وبات بعض المغاربة يرسلون صورهم إليه مع تعليقات حول ما دار بينهم وبين الملك، فيعيد هذا الشاب نشرها بعد موافقة ديوان الملك.
ورغم شهرته على الإنترنت، يقول سفيان البحري «لم ألتق أبدا بالملك بشكل شخصي. شاهدته مباشرة كبقية الناس أثناء بعض تنقلاته، لكن لم يحدث أي لقاء خاص بيننا، ولم يسبق لي أبدا أن تلقيت دعوة من القصر الملكي للقاء الملك».
وبالنسبة للمؤرخ الفرنسي بيير فيرميرن: «بالطبع يتم نشر هذه الصور بعد موافقة القصر، والعكس غير وارد»، مشيرا إلى أن «الصور تنبع من سياسة اتصال مدروسة».
ويوضح فيرميرن لوكالة الصحافة الفرنسية أن «هناك رغبة واضحة لإظهار قرب الملك من شعبه، سواء داخل أو خارج المغرب، لكن أيضا تجاه الدول العربية الأخرى».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)