الفنان السوري نور مهنا يطرب ويرد على المشككين في طاقاته الصوتية

غنىلأكثر من ساعتين على مسرح قرطاج

جانب من الحفل
جانب من الحفل
TT

الفنان السوري نور مهنا يطرب ويرد على المشككين في طاقاته الصوتية

جانب من الحفل
جانب من الحفل

برهن الفنان السوري نور مهنا أن صوته ما زال في أوج عطائه، خلال سهرة فنية أحياها فوق مسرح قرطاج، بمناسبة تظاهرة «ربي يحفظ تونس» التي تنظمها إحدى المؤسسات الخاصة.
وأكد لآلاف الجماهير على أن ما تعرض له في مهرجان نابل الصيفي (شمال شرقي تونس)، خلال البرمجة الصيفية الماضية، لم يكن إلا من مخلفات مشكلة صحية تعرض لها جعلته يختصر الحفل إلى أقل من ساعة.
وطوال أكثر من ساعتين من الزمن، قدم نور مهنا خلاصة تجربته الفنية الطويلة، فأدى باقتدار القدود الحلبية المعروفة، وغنى بحرفية عالية الأغاني الطربية الشهيرة، وتحكم في المواويل والقصائد، من خلال اختيارات حافظ بها على طاقاته الصوتية وخاماته الفنية المميزة.
ولم ينتظر نور مهنا، مثل بقية الفنانين، امتلاء مسرح قرطاج ليبدأ في الغناء، بل وجده ممتلئا قبل ساعات من بداية السهرة، وما زال الإقبال متواصلا بعد بداية العرض، وهو ما شجعه على استعراض كامل طاقاته.
وانطلق في الغناء من خلال معزوفة موسيقية (لعل وعسى أشوفك مساء)، وقد هيأت له الأجواء لبداية الطرب، والدخول في صلب الموضوع، فصافح جمهوره الذي يحن إلى الزمن الجميل، وأدهشه بأدائه الخالي من النشاز.
وغنى نور مهنا أغنية «وحشتني» للفنانة المصرية سعاد محمد، وقد عرف بها، فهي التي لعبت دورا حاسما في التعريف بطاقاته الصوتية على المستوى العربي، وأدى أغنية «إن كنت ناسي أفكرك» لهدى سلطان، وهي من روائع الموسيقار المصري رياض السنباطي، كما قدم أغنية جديدة لجمهور الحضور، حملت عنوان «يوم التلاقي»، وهو ما أضفى أجواء خاصة على الحاضرين، حيث ساد صمت رهيب بغية اكتشاف الأغنية الجديدة من ناحية، والاستمتاع بالخامات الصوتية القوية لنور مهنا من ناحية أخرى. كذلك، قدم باقة من أجمل أغانيه، ومنها: «الله يعمر بيتك»، و«بحلم بقلبي يا جمال رمشك». وعن هذا الحفل الذي حضره جمهور غفير ليلة الجمعة الماضية، تقول نزيهة الغضباني، الناقدة الفنية التونسية، إن مهنا أطرب ورقص كما لم يقم بذلك من قبل، وبدا في أوج عطائه وطاقته، ولم يتأثر بعامل التقدم في السن، أو عوامل الطقس، كما حدث في مناسبات سابقة. وأضافت الغضباني أن مهنا تقاسم الأدوار بذكاء مع فرقته الموسيقية، وتبادل معها المجهودات والأدوار، ليتمكن من تجاوز عتبة الساعتين في إحدى الحفلات الطربية الناجحة، خلال تظاهرة «ربي يحفظ تونس».
وغنى مهنا صحبة فرقة موسيقية تونسية في معظمها، قادها باقتدار الفنان التونسي نعمان الشعري، وتمكن من إنجاح ثاني حفل لنور مهنا فوق مسرح قرطاج خلال مدة قصيرة. وقد تحاشى الفنان السوري الحديث عن الحملة القوية التي تعرض لها في تونس وعدد من البلدان العربية، والتي تضمنت نشر خبر مفاده أن صوته قد انتهى، وأنه لم يعد قادرا على الصمود لمدة طويلة بسبب تراجع صوته وتقدمه في السن. ولكن رد مهنا جاء حاسما، من خلال أداء أغانٍ ذات طبقات صوتية قوية، لا يمكن لأغلب فناني الجيل الجديد من المبدعين العرب أن يصمدوا في أدائها.
وكان مهنا قد غنى، خلال مهرجان نابل في تونس، لمدة 50 دقيقة فحسب، قبل أن يعتذر للجمهور الحاضر عن مواصلة الغناء نتيجة وعكة صحية، وهو ما غذى الإشاعات حول حقيقة الأسباب التي دعته إلى مغادرة الركح، وعلى رأسها فقدان صوته، وتراجع أدائه الغنائي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)