مانويل فالس أمل اليسار

مانويل كارلوس فالس غالفتي.. هو الاسم الكامل لرئيس وزراء فرنسا الجديد الذي اختاره الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند عقب الهزيمة المدوية للرئاسة والحكومة والحزب في الانتخابات المحلية ليحل محل جان مارك أيرولت.
ويأمل هولاند الذي طلب منه تشكيل «حكومة مقاتلة، مصغرة ومنسجمة»، أن يستفيد من شعبية وزير الداخلية السابق ومن ديناميته ومهارته العميقة في التعاطي مع الإعلام ليستعيد المبادرة السياسية للسنوات الثلاث المتبقية من ولايته، وأن يحاول إبعاد كأس هزيمة مرة ثانية عن شفتيه بمناسبة الانتخابات الأوروبية أواخر مايو (أيار) المقبل. لكن خيار هولاند لا يخلو من المخاطرة من جهة، وليس مضمون النتائج من جهة أخرى. فالرجل طموح. ومن يدري! فقد تأخذه الرغبة ليكون مرشح الاشتراكيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي تقدم لها مجددا كل الرؤساء الفرنسيين المنتهية ولايتهم باستثناء الرئيس الديغولي جورج بومبيدو الذي وافته المنية قبل أن ينهي عهده الأول.
أما من جهة النتائج، فليس نجاح فالس وحكومته التي تشبه كثيرا الحكومة السابقة مضمونا بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعانيها فرنسا لجهة عجز ميزان المدفوعات والتجارة الخارجية وشبه غياب النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة ناهيك عن «الخطوط الحمراء» الأوروبية التي يتعين على باريس عدم تجاوزها تحت طائلة التنديد بها وتذكيرها بواجباتها والتزاماتها. ولكن من هو مانويل فالس؟ وما هي طريقته التي مكنته من أن يفرض نفسه على هولاند؟ وكيف تحول إلى «الرجل المنقذ»؟
من برشلونة إلى ماتينيون
ليس سرا أن فالس البالغ من العمر 52 سنة شديد التعصب لفريق كرة القدم إف سي برشلونة الإسباني المسمى «برسا» حيث يلعب أندريس إينيستا وشافي هرنانديز والأرجنتيني ليونيل ميسي ورفاقهم.
برسا ناد عريق إذ تأسس في عام 1899، وعندما كان وزيرا للداخلية، علق فالس قميص النادي في مكتبه للدلالة على شدة حبه له. والسبب في ذلك أن فالس ولد في مدينة برشلونة في أغسطس (آب) من عام 1962 وهاجر مع عائلته إلى فرنسا ولم يحصل على الجنسية الفرنسية إلا في عام 1982.
وهو في ذلك يشبه الكثير من السياسيين الفرنسيين المولودين في الخارج مثل رئيسة بلدية باريس الجديدة آن هيدالغو، والرئيس السابق نيكولا ساركوزي المتحدر من أب مجري وأم من عائلة يهودية من مدينة تسالونيكيا اليونانية. أما والدة فالس فإنها سويسرية الجنسية، من مقاطعة تيسان «الإيطالية» وخاله المهندس المعماري المعروف أوريليو غالفتي، وعرابه الكاتب الإيطالي كارلو كوشيولي. وبسبب هذا التنوع، فإن لفالس أربع لغات: أم يجيدها وهي الإسبانية والكتالونية (برشلونة عاصمة مقاطعة كتالونيا) والإيطالية والفرنسية.
دخلت السياسة إلى حياة مانويل فالس باكرا وهو على المقاعد المدرسية؛ إذ انتمى إلى الشبيبة الاشتراكية ولاحقا عندما أصبح في جامعة السوربون التحق بالاتحاد الوطني لطلبة فرنسا اليساري. ومنذ أن بدأت خطواته في عالم السياسة، لم يحد فالس عن الحزب الاشتراكي. أما «معلمه» الحزبي فهو ميشال روكار، رئيس الحكومة الأسبق ومنافس الرئيس ميتران على زعامة الحزب واليسار بشكل عام. وتتميز مدرسة روكار بأنها أكثر براغماتية وأقل آيديولوجية.
قيل عن روكار إنه «محطم الممنوعات». وقيل عن فالس بعد مواقفه الواقعة على يمين الحزب الاشتراكي إنه أيضا «يتجاوز الخطوط الحمراء» إلى درجة أنه دعا قبل سنوات إلى التخلي عن اسم الحزب الاشتراكي. روكار قاد خطواته الأولى على المستويين السياسي والحزبي. وبدأ نجم فالس باللمعان نهاية الثمانينات. ومع انتصار اليسار في الانتخابات التشريعية ربيع عام 1997 اختاره رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان مديرا لقسم الصحافة والإعلام طيلة خمس سنوات بعد أن شغل الوظيفة نفسها داخل الحزب الاشتراكي. وفي سنة 2001 أصبح فالس رئيسا لبلدية مدينة أيفري التي تستضيف جاليات أجنبية كثيرة، وفي العام التالي دخل الندوة النيابية عن المدينة نفسها. ومنذ هذين التاريخين، أعيد انتخابه نائبا ورئيسا للبلدية باستمرار ودون انقطاع، ما ضمن له حضورا سياسيا متواصلا و«عرينا» انتخابيا حوله مختبرا لأفكاره السياسية، خصوصا في مجالات الأمن والهجرة والعلمانية والدفاع عن قيم الجمهورية والتمسك بالأمن والنظام. وداخل الحزب الاشتراكي، انتمى فالس باستمرار إلى تيار «المحدثين» الذين ورثوا فكر ميشال روكار وبراغماتيته وحاولوا التوفيق ما بين الحاجة للعدالة الاجتماعية واقتصاد السوق، الأمر الذي جعل الكثيرين ينظرون إليه على أنه يمثل «يمين» الحزب الاشتراكي.
وتفاقمت الأمور يوما إلى درجة أن أمينة الحزب الاشتراكي مارتين أوبري كتبت له في 14 يوليو (تموز) 2009 رسالة تقول فيها: «إذا كانت الكلمات التي تنطق بها تعبر عن حقيقة تفكيرك فعليك أن تستخلص النتائج وتترك الحزب الاشتراكي». ورد عليها فالس بعد أسبوع برسالة مماثلة يقول فيها إنه «لن يتزحزح» من الحزب الاشتراكي.
في ربيع عام 2007 وصل مرشح اليمين نيكولا ساركوزي إلى رئاسة الجمهورية متغلبا على مرشحة الحزب الاشتراكي سيغولين رويال. وعند تشكيل حكومته الأولى، سعى الرئيس الجديد لجذب بعض الشخصيات اليسارية كبادرة انفتاح ولتوسيع القاعدة السياسية للأكثرية. ونجح ساركوزي في اجتذاب الاشتراكي برنار كوشنير إلى الحكومة موكلا إليه وزارة الخارجية. كذلك عرض ساركوزي وزارة الداخلية على مانويل فالس، لكن الأخير رفضها ليعود إلى تسلمها في مايو عام 2012 مع فوز فرنسوا هولاند برئاسة الجمهورية وعودة اليسار إلى السلطة.
فالس.. ساركوزي اليسار
كثيرون يجدون نقاط تشابه كثيرة بين فالس وساركوزي ليس أقلها الطموح السياسي والرغبة في الوصول إلى أعلى مناصب الجمهورية. ساركوزي كان يقول إنه «يفكر برئاسة الجمهورية وهو يحلق ذقنه كل صباح». وفالس لم يتردد قبل عدة أشهر في القول إنه «مستعد لقبول تحمل مسؤوليات جديدة إذا طلب منه ذلك» في إشارة إلى رغبته في الحلول محل رئيس الوزراء جان مارك أيرولت. ساركوزي اختار عارضة الأزياء السابقة والمغنية كارلا بروني زوجة ثالثة له، وفالس اختار آن غرافوان عازفة الكمان زوجة ثانية له. وقالت يوما إن «وجود رئيس وزراء مع زوجة فنانة أكثر أناقة من وجود رئيس وزراء مع زوجة معلمة للغة الألمانية».. في إشارة إلى أيرولت وزوجته.
بيد أن فالس لم ينتظر وصوله إلى وزارة الداخلية ليكشف عن طموحه السياسي؛ ففي 13 يونيو (حزيران) سنة 2009 أعلن ترشحه للفوز بترشيح الحزب الاشتراكي لخوض الانتخابات الرئاسية المقررة ربيع عام 2012، فالس كان أول المترشحين الذين وصل عددهم إلى خمسة وهم فرنسوا هولاند ومارتين أوبري (الوزيرة السابقة) وأرنو مونتبورغ (وزير الصناعة الحالي) وبونوا هامون (وزير التربية الحالي). وقد استفاد فالس من انسحاب الوزير السابق ومدير عام صندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس - كان، من المنافسة بسبب فضائحه الجنسية ليعزز موقعه. لكن نتائج الانتخابات الداخلية للاشتراكيين بينت أن شعبيته ضعيفة جدا إذ لم يحصل إلا على ستة في المائة من الأصوات، فجاء في المرتبة الرابعة بعد هولاند وأوبري ومونتبورغ.
وسارع فالس مباشرة إلى إعلان تأييده لهولاند في مواجهة أوبري فعينه الأول مسؤول حملته الانتخابية في التواصل مع الإعلام. لكن الحقيقة أنه كان مديرها الفعلي. وبعد الانتصار الذي حققه، كافأه هولاند بتعيينه وزيرا للداخلية. وسريعا جدا، فهم فالس أن المنصب الجديد يمكن أن يستخدمه منصة لتحقيق طموحات أكبر. وبعد أقل من سنتين، وعقب هزيمة اليسار في الانتخابات المحلية، ها هو يجلس في مقعد رئيس الحكومة ويبرز بوصفه رجلا «منقذا» لرئيس الجمهورية والحزب الاشتراكي واليسار على السواء.
خلال 20 شهرا، كان فالس الوزير الأكثر شعبية في حكومة جان مارك أيرولت. ويعود السبب الأول للسياسة الأمنية التي اتبعها وللمواقف المتشددة التي التزم بها في مواضيع الهجرة غير الشرعية والعلمانية والغجر. كذلك سعى فالس دوما لإظهار أنه رجل «حازم وحاسم» بعكس هولاند المعروف عنه أنه «متردد» أو رئيس الحكومة أيرولت الموصوف بـ«الضعيف». وقارع فالس الفكاهي الساخر ديودونيه ومنعه من تقديم عروضه بحجة معاداته للسامية وجعل من ذلك «قضية شخصية». بيد أن مهارته (وهذا ما يقربه أيضا من الرئيس السابق ساركوزي) تتبدى في التعاطي مع الإعلام وفي تسخيره لصقل صورته ولضمان حضوره الإعلامي في كل الظروف. وبعد أسبوع واحد على وصوله إلى رئاسة الحكومة، بين استطلاع للرأي العام أن شعبية فالس تصل إلى 56 في المائة بينما شعبية الرئيس هولاند لا تتجاوز 27 في المائة.
وبالنسبة لرئيس الحكومة الجديد، فإن «الأسلوب» في الحكم يتمتع بالدرجة نفسها من الأهمية الخاصة بمضمون السياسة المتبعة. بعكس ساركوزي الذي لم يقبل الرئيس شيراك أن يوكل إليه رئاسة الحكومة، ها هو فالس متربع على «قصر ماتينيون» (مقر رئاسة الوزارة). وإذا سارت الأمور وفق ما يتمناه ونجح في إقامة علاقة ثقة وتعاون مع الرئيس هولاند، فإنه يستطيع البقاء في منصبه حتى عام 2017 أي حتى تاريخ الانتخابات الرئاسية المقبلة.
حظوظ النجاح والفشل
أمس تقدم فالس ببرنامج حكومته إلى البرلمان لنيل الثقة على أساسه مستوحيا الخطوط الكبرى التي رسمها الرئيس هولاند في رسالة التكليف. لكن المشكلة أن الرئيس هولاند لم يحد عن الخط السياسي الذي اتبعه والذي ثبت أن الفرنسيين لا يقبلونه.. الأمر الذي يفسر لدرجة بعيدة الهزيمة المرة التي أصيب بها الاشتراكيون. فضلا عن ذلك، فإن ضرورة تطبيق الالتزامات الفرنسية إزاء الاتحاد الأوروبي في مواضيع معالجة عجز الميزانية (النزول دون مستوى ثلاثة في المائة مع نهاية هذا العام) وخفض الإنفاق العام (خمسين مليار يورو حتى عام 2017) والهامش المالي الضيق لذي تتمتع به الحكومة الجديدة وضعف النمو الاقتصادي والنسبة المرتفعة من الضرائب التي يخضع لها الفرنسيون، كل ذلك لا يوفر لفالس ضمانات النجاح، خصوصا أن لا أقل من مائة نائب اشتراكي أكدوا رفضهم للتوجهات الاقتصادية، كما أن حزب الخضر خرج من الحكومة ويرفض إعطاء فالس «توقيعا على بياض» لدعم سياسته.
غير أن التحديات التي ستواجهها الحكومة سياسية كذلك وأهمها الانتخابات الأوروبية يوم 25 مايو المقبل. وبالنظر إلى أنها تجرى على قاعدة النسبية، فإن المخاوف من أن يصاب الحزب الاشتراكي بهزيمة إضافية تعني مزيدا من إضعافه سياسيا ومزيدا من التشتت في صفوفه. أما «الهزيمة الكبرى» للاشتراكيين فستكون وصولهم في المرتبة الثالثة أي بعد حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية وحزب الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف).
ويشك الكثيرون في أن ينجح فالس في تغيير الأوضاع خلال الأسابيع الفاصلة عن موعدها. هكذا تبدأ مرحلة جديدة من حياة فالس السياسية مفتوحة على كل الاحتمالات. فإن نجح في «تجربة» رئاسة الحكومة، فإنها ستحسب لصالحه لدى خوضه معارك لاحقة وأهمها «أم المعارك»، أي رئاسة الجمهورية. أما إذا لم يحالفه الحظ، فسيعود عندها مرشحا بين مجموعة من المرشحين الطامحين لأعلى منصب.