تلعب الصين دوراً متزايد الأهمية في الفضاء الدولي، كما أنها بالتوازي مع اهتماماتها التنموية مع العالم العربي تنشط في المجال السياسي. وكان من المحطات اللافتة أخيراً دعوة الرئيس الصيني شي جينبينغ يوم أول من أمس إلى عقد مؤتمر للسلام لإنهاء الحرب بين إسرائيل و«حماس»، وذلك خلال خطاب توجّه به إلى القادة العرب في إطار منتدى يهدف لتعزيز العلاقات مع المنطقة. ما لا يحتاج إلى تذكير، أن الصين لطالما استوردت النفط الخام من الشرق الأوسط، ثم جاءت مبادرة «الحزام والطريق» الصينية (عام 2013)، لتدق جدياً أبواب الشرق الأوسط. وعلى الصعيد السياسي، سعت الصين تحت قيادة شي جينبينغ «البراغماتية» إلى توسيع نفوذها خلال السنوات الأخيرة، مستفيدة مما يراه مراقبون أخطاء ارتكبتها كل من الولايات المتحدة وروسيا في تعاملها مع بعض ملفات المنطقة الساخنة مثل فلسطين وسوريا. والواقع أن وراء «البراغماتية» الصينية في مجالات السياسة والاقتصاد والتنمية تقف خلفها قيادة حزبية قوية ورؤيوية شرّعت الأبواب لإصلاحات اقتصادية وتنمية مستدامة من دون إغفال الدور الرائد للحكومة بمقترحاتها وتوجيهاتها نحو الأهداف المعدّة؛ إن في الاقتصاد أو المجتمع، مع التركيز على تعزيز وتطوير التكنولوجيا بوصفها مدخلاً لتحقيق التقدم والتنمية.
من المفهوم أن الفلسفة الشيوعية الصينية تمحورت طويلاً حول دور الحزب الشيوعي الصيني بصفته قائداً ومحرّكاً للتغيير الاجتماعي والاقتصادي. وهنا أكد شي جينبينغ، أمين عام الحزب، «أهمية التمسك بالمبادئ الشيوعية التقليدية وتطويرها بما يتناسب مع الواقع الصيني الحديث وتحدياته». وبالطبع، شدد على أهمية دور الحزب في تحقيق التوازن بين التطور الاقتصادي والمحافظة على القيم والمبادئ الشيوعية.
إلا أن وراء الأسس الفلسفية لـ«الاشتراكية الصينية» تاريخاً طويلاً من التطوّر الفكري والسياسي في البلاد، وجمع فيه بين الشق العقائدي والتقاليد الثقافية. واليوم تظهر نتائج المرونة الحزبية التي أفضت إلى التطور والتكيف ليتناسب مع الوضع الصيني الفريد. وكل هذا من دون المساس بكون الحزب الشيوعي الصيني المحرّك الرئيس للتغيير الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
ووفق مناصري تجربة الصين، يؤكد شي جينبينغ أهمية دور الحزب في توجيه المجتمع نحو مستقبل أكثر استدامة وعدالة، كما أنه يرى من الضروري تطوير المبادئ الشيوعية التقليدية بما يتلاءم مع الواقع الصيني الحديث وتحدياته.
وفي هذا المجال، يسعى شي إلى استخدام التراث الثقافي الصيني منصةً لبناء مستقبل أفضل، مع تطوير وتحسين نموذج الاقتصاد الاشتراكي ليكون أكثر فاعلية وتوجهاً نحو العدالة الاجتماعية، وفي الوقت عينه يركز الأمين العام على أهمية الحفاظ على القيم والمبادئ الشيوعية في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الحديثة، ويؤمن بأن التوازن بين التطور الاقتصادي والمحافظة على القيم الثقافية والاجتماعية هو الطريق لتحقيق التنمية المستدامة والاستقرار الاجتماعي في البلاد.
تحقيق التنمية الاقتصادية
هنا يشير المراقبون المقرّبون من بكين إلى أنه بفضل الرهان على نجاح التوجيه الاقتصادي والإصلاحات الهيكلية، حققت الصين نمواً اقتصادياً كبيراً خلال العقود الأخيرة؛ إذ بلغ الناتج المحلي الإجمالي للبلاد مستويات قياسية، ما جعلها واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم.
والحقيقة أن تحقيق التنمية الاقتصادية كان يعدّ من أولويات الحكومة الصينية في فترة حكم شي جينبينغ. ذلك أنه منذ تولي شي السلطة في عام 2012، قاد الزعيم الصيني جهوداً دؤوبة لتعزيز النمو الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة. ثم إن الحكومة واصلت في الوقت عينه سياسات الإصلاح والانفتاح التي كانت قد بدأت في أواخر السبعينيات، ولكن تحت قيادة شي جارٍ حالياً تعزيز هذه السياسات وتوسيع نطاقها.
وفي التفاصيل، جرى اتخاذ إجراءات لتحسين بيئة الاستثمار وتشجيع الابتكار وتطوير القطاعات الحديثة مثل التكنولوجيا والابتكار، وتعزيزاً للبنية التحتية خصّصت الحكومة الصينية موارد كبيرة لتطوير البنية التحتية في البلاد، بما في ذلك الطرق والسكك الحديدية والمطارات والموانئ. وأيضاً حسّنت البنية التحتية لتعزيز الربط بين المدن والمناطق الريفية وتسهيل التجارة والنقل، وأُنجز تقدم لافت على صعيد رفع مستوى المعيشة للشعب الصيني إبان فترة حكم شي.
ومن ثم، نجحت السلطات في خلق فرص العمل، وتحسين الرواتب، وتوسيع نطاق التأمينات الاجتماعية ليشمل مزيداً من المواطنين، وإذ ركّزت الحكومة تحت قيادة شي بينغ على تحويل الاقتصاد الصيني نحو الابتكار والتكنولوجيا، جرى دعم الشركات الناشئة وتشجيع البحث والتطوير، وسُجّل تحقيق تقدمٍ مهمٍّ في مجالات مثل التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. وبناءً على هذا، أدت كل هذه السياسات المعتمدة والجهود الاقتصادية المبذولة إلى تعزيز دور الصين في الاقتصاد العالمي، بل لقد أصبحت الصين أكبر مشتر للسلع العالمية، ومن أهم المصدرين للاستثمار الخارجي.
تطوير التكنولوجيا والابتكار
وحقاً، يتفق متابعون وخبراء على أنه عبر توجيه القيادة الحالية اهتمامها نحو تعزيز الابتكار وبناء اقتصاد مبتكِر، شهدت الصين تطورات هائلة في مجال التكنولوجيا والابتكار، تمكنت بفضلها من أن تغدو قوة رائدة في مجالات عدة تشمل التكنولوجيا الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الطاقة المتجددة.
وراهناً، تعدّ الصين ضمن طليعة دول العالم في مجال التكنولوجيا الرقمية، حيث تمتلك شركاتها العديد من الابتكارات في مجال الدفع الرقمي، والتجارة الإلكترونية، والتطبيقات الذكية. ومن بين أبرز الشركات الصينية الرائدة في هذا المجال «تينسنت»، و«علي بابا». كذلك تُعَد الصين من أبرز الدول التي تستثمر بقوة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتطوير تقنياته وتطبيقاته في مختلف الصناعات، مثل الصحة والتعليم والتصنيع والزراعة، وتعدّ شركات مثل باتا وهواوي من أبرز الشركات الطليعية المتقدمة في هذا المجال.
وبالنظر إلى التزايد الكبير في الطلب على الطاقة والمخاوف المتزايدة بشأن التغير المناخي، ركّزت الصين على تطوير تكنولوجيا الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية والرياح والطاقة النووية النظيفة، وهو ما يعكس التزام البلاد بالتنمية المستدامة.
والى جانب التركيز على التكنولوجيا الحديثة، تعمل الصين أيضاً على تحسين وتطوير الصناعات التقليدية من خلال التبني والتكامل مع التكنولوجيا الجديدة، ما يعزّز قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية. وكذلك تقوم الحكومة راهناً بدعم الابتكار والبحث العلمي من خلال توفير الدعم المالي والتسهيلات للشركات والمؤسسات البحثية، بالإضافة إلى تشجيع الابتكار من خلال تطبيق السياسات والحوافز المناسبة.
مكافحة الفقر وتحسين مستوى المعيشة
ووفق تخطيط القيادة الحالية، وبناء على توجيهاتها، نجحت الصين في تبني العديد من السياسات والبرامج التي تهدف إلى مكافحة الفقر بفاعلية، وتحقيق التنمية المستدامة، وتطوير البنية التحتية، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين.
وفي هذا الصدد، اعتمدت الصين سياسات اقتصادية شاملة تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة ومكافحة الفقر، مثل سياسات الإصلاح والانفتاح الاقتصادي، والاستثمار في البنية التحتية، وتطوير الصناعات الحديثة. وأيضاً، اضطلعت الحكومة بتنفيذ برامج اجتماعية وتنموية موجهة لمكافحة الفقر، مثل برنامج الحماية الاجتماعية، وبرنامج الرعاية الصحية الشاملة، وبرنامج الإسكان الاجتماعي، كما شهدت الصين جهوداً كبيرة في تطوير البنية التحتية في المناطق الريفية، مثل بناء الطرق والجسور، وتوفير الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء، مما ساهم في تحسين جودة حياة السكان وتعزيز فرص العمل.
ويضاف إلى كل ما سبق، صب الاهتمام على تشجيع الاستثمارات في المناطق الفقيرة، وتقديم الدعم للشركات الصغيرة والمتوسطة، وإطلاق مشاريع تنموية تهدف إلى خلق فرص عمل جديدة للمواطنين، مع إيلاء الدولة اهتماماً كبيراً لتحسين جودة التعليم، وتقديم التدريب المهني، بهدف زيادة فرص العمل، وتمكين الفرد وتحسين مستوى المعيشة.
شهدت الصين تطورات هائلة في مجال التكنولوجيا والابتكار بتوجيه من القيادة الحالية التي تعمل
على بناء اقتصاد مبتكِر
التأثير الدولي والدبلوماسية النشطة
أما على صعيد السياسة الدولية، فإن القيادة الصينية في بكين نجحت في إحداث اختراقات في عدد من مناطق العالم عبر مبادرات لافتة عزّزت دور الصين على الساحة الدولية، حيث أصبحت شريكاً أساسياً في مجالات الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية والتنمية المستدامة. وتحت إشراف شي صارت شريكاً بارزاً في مجالات الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية والتنمية المستدامة. وأدت الدبلوماسية النشطة والمؤثرة للصين إلى تعزيز التعاون الدولي وتحقيق مكاسب مهمة على المستوى العالمي، وتجلّى هذا بتعزيز الصين التجارة الدولية من خلال شراكات قوية مع دول ومنظمات دولية، وإسهامها في تعزيز النمو الاقتصادي العالمي، وخلق فرص العمل، والالتزام بتقديم الدعم والمساهمة في جهود التنمية المستدامة على الصعيدين الوطني والدولي. وأبرز المبادرات التي اعتمدتها أو شاركت فيها بكين بغية تعزيز التضامن الدولي والإسهام في تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، «مبادرة الحزام والطريق»، و«مبادرة التنمية العالمية»، و«مبادرة السلام العالمية»، و«مبادرة الحضارة العالمية: مع تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية للدول المحتاجة في مختلف أنحاء العالم، مما يعكس التزامها بالتضامن الإنساني والمسؤولية الدولية، وتعزيز القيادة الدولية في مواجهة التحديات العالمية، مثل تغير المناخ والفقر والأمن العالمي بالشراكة مع الدول الأخرى؛ لإيجاد حلول شاملة ومستدامة.
مبادرات مهمة
«مبادرة السلام العالمية» تعدّ إحدى الأولويات الرئيسة في السياسة الخارجية الحالية للصين؛ إذ تهدف هذه المبادرة إلى تعزيز التعاون الدولي من أجل حل النزاعات الدولية بوسائل سلمية، والتصدي للتهديدات الأمنية العالمية مثل الإرهاب والتطرف، وتحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي. بفضل هذه المبادرة، شاركت بكين بفاعلية في الجهود الدولية لحل النزاعات والأزمات، وساهمت في إرساء قواعد اللعبة الدولية العادلة والمساواة.
ومن خلال «مبادرة التنمية العالمية» تسعى بكين إلى دعم التنمية المستدامة في العالم، وتحقيق الشمولية الاجتماعية والاقتصادية. وتشمل هذه المبادرة توجيه استثمارات هائلة نحو المشاريع التنموية في الدول النامية، وتقديم المساعدات الإنسانية والتقنية، وتبادل الخبرات في مجالات التنمية الزراعية والصحية والبنية التحتية.
وفيما يتعلق بتعزيز التبادل الحضاري والثقافي بين الشعوب بوصفه وسيلةً لتعزيز التفاهم والتسامح العالميين، تشمل «مبادرة الحضارة العالمية» تنظيم الفعاليات الثقافية المشتركة، وتبادل الزيارات الثقافية، وتقديم المنح الدراسية للطلاب الدوليين، وترويج الفنون والثقافات الشعبية.
أما «مبادرة الحزام والطريق» فتعدّ، بلا أدنى شك، إحدى أبرز المبادرات الاقتصادية والتجارية التي أطلقتها بكين، وهي تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين والدول الأخرى. وبفضل هذه المبادرة، تم تنفيذ مشاريع ضخمة للبنية التحتية في العديد من الدول، مما ساهم في تحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة، وتعزيز التجارة والاستثمارات المشتركة.
... التحديات والتطلعات المستقبلية
في المقابل، على الرغم من الإنجازات الهائلة التي تحققت في السنوات الأخيرة، فإنه لا تزال هناك تحديات تستلزم التفكير الاستراتيجي والتصدي لها بحكمة. وتشمل هذه التحديات تحسين البيئة والتصدي لتغير المناخ، ومواجهة التحديات الديمغرافية، وتعزيز الابتكار والابتكار التكنولوجي، ومكافحة الفساد، وتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والمحافظة على القيم والمبادئ الاجتماعية.
حول تطور العلاقات العربية ــ الصينية
> منذ بداية عام 2021، التزمت القيادة الصينية طرح مبادرات وأفكار جديدة تتناول القضايا العربية الرئيسية. وساعد هذا الأمر على فتح الأبواب أمام تنظيم انعقاد «القمة العربية - الصينية الأولى» في ديسمبر (كانون الأول) 2022 في العاصمة السعودية الرياض. وراهناً في أولويات التعامل الصيني مع القضايا السياسية التي تشغل العالم العربي، اعتماد خطة من خمس نقاط الهدف منها تحقيق الاستقرار والأمن الإقليميين في منطقة الشرق الأوسط، والدفع باتجاه «حل الدولتين» حيال القضية الفلسطينية، وتوليفة مقترحات تضم أربع نقاط لحل الأزمة السورية وتداعياتها. مع ملاحظة أن الأجواء في بكين لا تريد الاكتفاء بالدور الصيني التاريخي إزاء الشرق الأوسط الذي تبلور بعد «مؤتمر باندونغ» في عقد الخمسينات من القرن الماضي، بل وجود حرص استراتيجي على الذهاب أبعد في تعزيز العلاقات مع العالم العربي.الجدير بالذكر أن فاتحة التقدم في هذا الاتجاه كانت عام 2018 على الاتفاق العربي – الصيني على بناء «شراكة استراتيجية»، ومن ثم أثمرت هذه الخطوة «القمة العربية - الصينية الأولى» عام 2022، وكان الأمل وطيداً، ولا يزال، في أن يؤسس هذا الإنجاز إطاراً تنموياً استراتيجياً يربط بين الحضارتين الصينية والعربية والإسلامية.وهنا، توفر مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، من دون أدنى شك، فرصاً مهمة وواعدة للدول العربية، في طليعتها الانفتاح الواسع على استقبال الاستثمارات الصينية في المنطقة. وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى مشاريع واسعة النطاق تسبق وتلي المراحل الأولية للمبادرة، والاستثمارات الصينية المباشرة عبر القروض والمنح، ومشاريع النفط والغاز، والتصنيع، والطاقة المتجددة، وعلوم التكنولوجيا الفائقة. وبالتوازي، من تأثيرات المبادرة مجالات تطوير الخدمات التي تقدمها الدولة المشاركة في قطاعات مثل الرعاية الاجتماعية والرعاية الصحية والمشاريع التنموية والأمن، ناهيك بإمكانية توفير فرص عمل لعشرات الآلاف من الشباب في الدول العربية من خلال مختلف مشاريع البنية التحتية والاستثمارية.
* رئيس جمعية طريق الحوار اللبناني - الصيني/ رئيس معهد طريق الحرير
للدراسات والأبحاث - كونفوشيوس