«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (7): الكون والأرض وما عليهما في 3 أفلام جديدة

لقطات أسرت أنظار أكثر من ألف مشاهد

فيلم ترنس مالك «سفر زمني» - «آخر واحد فينا» - من «عجينة سيئة»
فيلم ترنس مالك «سفر زمني» - «آخر واحد فينا» - من «عجينة سيئة»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (7): الكون والأرض وما عليهما في 3 أفلام جديدة

فيلم ترنس مالك «سفر زمني» - «آخر واحد فينا» - من «عجينة سيئة»
فيلم ترنس مالك «سفر زمني» - «آخر واحد فينا» - من «عجينة سيئة»

عرض ترنس مالك فيلمه الجديد «سفر زمني: رحلة حياة» ليل أول من أمس لأكثر من ألف مشاهد جلسوا مأخوذين بما يرونه، كما لو أنهم يشاهدون مركبًا فضائيًا مسالمًا حط بالقرب منهم. المهرجان الإيطالي العريق وفّر للحاضرين سببًا آخر من أسباب تفوّقه هذه السنة على عروض المهرجانات المنافسة وهو فوزه بهذا الفيلم.
إنه ليس فيلمًا روائيًا رغم أنه يروي حكاية. في تصنيفه قد يصح القول إنه فيلم تسجيلي لكنه ليس ذلك التسجيل الذي توفره كاميرا تعمل بمقتضى الابتعاد عن الحدث والسرد الروائي. بذلك هو فيلم من نوع ثالث فيه قليل من التمثيل في نصفه الأخير، وكثير من العرض المصوّر لكيف ولدت الأرض والطبيعة، وأكثر من ذلك من الأسئلة التي يوجهها، بلسان الممثلة كايت بلانشيت، إلى الحياة.
أسئلة مالك محيّرة وملهمة وفلسفية. لماذا هذه الحياة؟ ما هي؟ ما هي هذه الطبيعة؟ ما مصدرها؟ ما هو النور والظلام فيها؟ هل ستتخلّى عنّا يومًا؟ يلقي المعلق (بلانشيت) هذه الأسئلة وسواها بصوت هادئ لا تمثيل فيه بل إلقاء مشبع بحس من الصدق والفضول، بينما يوفر لنا الفيلم، في ساعة ونصف الساعة، ذلك السفر في الزمان وتلك الرحلة في الحياة بدفق من المشاهد الأخاذة.
ترتيب تلك المشاهد زمني. يبدأ من مشاهد للفضاء البعيد (من أرشيف «ناسا») وكيف وُلِد كوكب الأرض (حسب السائد من تقدير العلماء) ثم كيف انفجرت براكينها وتشكلت جبالها وتدافعت أنهارها. الماء في أفلام مالك عنصر مهم. يلتقطه بحرًا وعبر الأنهار والشلالات وفي كل صورة ممكنة. تمامًا كما كان يفعل أندريه تاركوفسكي في أفلامه، باستثناء أن المخرج الروسي الراحل كان أكثر رومانسية في تعامله مع الماء.

روحانيات
لكنّ كليهما، تاركوفسكي ومالك، استخدم التعليق (يستخدم مالك التعليق في معظم أفلامه) مقروءًا بتلك النبرة الهادئة والموقنة. كلاهما أيضًا روحاني في علاقته مع ما يعرض ومالك، يقدّم هنا، كما في «شجرة الحياة» (أقرب فيلم من أفلامه إلى هذا العمل) الكثير من خلجات النفس الروحانية في تعاملها مع الموضوع. في أفلام مالك تقارب مع أفلام تاركوفسكي من دون أن تكون تشابهًا أو استنساخًا كذلك فإن بعض فصول «سفر زمني» تقترح توازيًا مع فيلم ستانلي كوبريك المعروف «2001: أوديسا الفضاء».
هذا التوازي موجود، لكن اقتراحه كاستلهام غير صحيح. إنه يذكّر بفيلم كوبريك الذي ينفلت من حكاية بدء الخليقة على الأرض صوب حكاية صراع بين الإنسان والآلة حول العلم، في حين يكثف مالك الحديث عن الخلق الكوني ثم الأرضي ويبقى على الأرض منتقلاً بين هذا الكم من المشاهد التي صوّرها أو استعارها (وقليل منها مستخدم في «شجرة الحياة» أساسًا) وبين مشاهد قام بتصويرها أو استخدامها من الأرشيف لمجتمعات وبيئات محلية أميركية وصينية وهندية ومصرية.
في الواقع، تلعب هذه المشاهد المصوّرة كما لو كانت الكاميرا بيد هاوٍ وبألوان غير فنية دور المنبّه لحال الإنسان على الأرض بعد كل سنوات وجودها. ما يلتقطه المخرج في بعض الدقائق العشر الأولى من فيلمه هو صور حياة أميركيين مشردين يبحثون في القمامة أو يفترشون الرصيف أو يتعرّضون لمظاهر عنف. الدلالات تختلف من دولة لأخرى وصولاً لمشاهد من ثورة 2011 في مصر تنتهي باقتراح تبثه الصورة مفاده أن سوء الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي دفع لمحاولة تغييره.
لكن هذا هو أبعد نقطة يصل إليها مالك. في الحقيقة هو لا يكترث كثيرًا حتى للوصول إلى العتبة الأولى من أي تحليل اجتماعي أو سياسي. يقترح فقط التذكير بالإنسان الحاضر في مشاهد لا تزيد مدّة عرضها معًا عن سبع دقائق تتخلل الفيلم موزعة على نحو عابر. باقي الفيلم هو ذلك الكم من المشاهد التي يصوّرها الفيلم في البحار وفوق الجبال وعلى سهولها وصحاريها. إنه يصوّر الحياة وهي تتحرك تحت الماء أو على الأرض أو بعيدًا في الفضاء. وبفضل ما يختاره من صور وبفضل ما يثيره من أسئلة مطروحة يبتعد كليًا عن كونه مجرد فيلم تسجيلي عن الأرض والفضاء من نوع أفلام «ناشونال جيوغرافي».
ما يباعده أيضًا عن أفلام ذلك النوع هو أنه ليس فيلمًا سياحيًا عن الموضوع بل رحلة في الروحانيات المكتسبة (صمتًا حينًا وتعليقًا حينًا آخر) من خلال الصور. ولعل السؤال الأكثر حرقة وإثارة للخوف العميق هو عندما تسأل بلانشيت الطبيعة إذا ما كانت ستتخلى عن الإنسان يومًا. كل ذلك مصحوبًا بهدير من الأصوات المسجلة بمونتاج صوتي مبهر وبمصاحبة جوقة أوبرالية وألحان كلاسيكية.
النسخة التي عرضها فنيسيا أمام أكثر من ألف متابع شاخص النظر مصنوعة بنظام البعدين بحجم 35 ملليمترًا. تلك التي يعرضها مهرجان تورنتو بعد أيام ستكون على شاشة «أيماكس» المجسدة. ستكون ذات بعدين أيضًا بحجم 70 ملليمترًا لكن سيحل صوت براد بت بدل صوت كايت بلانشيت.
«سفر زمني: رحلة حياة» انتصار آخر لمالك لصالح الفن مجرّدًا من التنازلات الاعتيادية. وسفره كوني وأرضي، قديم وحاضر، باحث وملهم في الوقت ذاته.

رجلان وغابة
السينما خارج كوكب مالك تمتد مثل سلسلة جبال متفاوتة وأبعدها عنه فيلم تونسي (بتمويل مشترك من الإمارات وقطر ولبنان) بعنوان «آخر واحد فينا» لعلاء الدين سليم الذي لا يطرح فيه أسئلة بهذا الحجم، ومصنوع بأقل الإمكانيات تواضعًا ليحكي قصّة رجل واحد في غابة. هو متناقض في فكرته مع تلك الشمولية في فيلم مالك، لكنه يلتقي بخيط نحيف عندما يصف حياة الإنسان على الأرض إذا ما وجد نفسه وحيدًا في غابة لا خروج منها. كذلك يلتقيان بكونهما بلا حوار منطوق من شخصياتهما. أما ما عدا ذلك فلا مجال للمقارنة. فيلم مالك جبل شاهق في إنتاجه وطموحه ورؤيته، حيال هضبة جيدة بحد ذاتها لكنها محصورة في خانات الحجم والطموح والرؤية.
لا يوجد اسم لبطل «آخر واحد فينا» (الكتيب الصحافي للفيلم يذكره بحرف N))، ذلك الذي يبدأ الفيلم به، ورجل آخر وهما يسيران عرض الصحراء في بقعة ما من شمال أفريقيا هائمين. يسيران نهارًا ويواصلان ليلاً ثم يصلان إلى ربوع تونسية. ينضمان إلى بضعة أشخاص تقلهم عربة يوقفها البوليس. هو يهرب وحيدًا ويلجأ إلى ساحل معزول. مركب صغير أمام بيت منزوع عنه المحرك لكي لا يسرقه أحد. يقتحم البيت ويسرق المحرك ويركّبه ثم ينطلق بالمركب الصغير قاصدًا الشاطئ الأوروبي. حين يحط على الأرض من جديد، لا نعلم أي أرض هي. هل وصل إلى أوروبا فعلاً أو جرفه التيار إلى موقع أفريقي آخر، إذ يترك القارب ويبدأ السير في الغابة متكلاً على بوصلة يكتشف لاحقًا أنها لا تعمل فيرميها، يسقط في حفرة عميقة ويجرح ساقه. هناك حيوان ميت بالقرب منها. يحاول تسلق الحفرة لكنه لا يستطيع. بعد ساعات يلقي له مجهول بحبل يتسلقه. المجهول هو رجل كبير في السن يعيش في تلك الغابة وحيدًا. يقبل كل منهما صحبة الآخر. يعيشان على الصيد والماء والنار للطهي ولدرء الذئاب التي نسمعها (ولا نشاهدها). ثم يموت العجوز ويبقى «ن» وحيدًا، وينتهي الفيلم به وهو يرث عزلة المكان وقسوته.
الفيلم بلا حوار كما تقدم والصوت الوحيد الذي نسمعه من بطله (جوهر سوداني) هو صوت صرخته ألما عندما يجرح ساقه (لاحقًا يطببها العجوز بنجاح) وصوت لهاثه من حين لآخر. لا يتبادل مع العجوز أي حوار. لا نعرف إذا ما كانا يفهمان بعضهما لو تكلّما. هذا الصمت يعزز حضور الحالة الفريدة المنشودة ويبلور طموح المخرج التونسي سليم المحقق كأفضل ما يمكن تحقيقه ضمن الأدوات (والميزانيات) المتاحة.

مستقبل ما
في الجوار فيلم من المخرجة آنا ليلي أميربور (إيرانية الأصل، أميركية العيش) يدور حول بعد آخر من الحياة على الأرض. فيلمها السابق «فتاة تمشي وحدها في الليل» أعجب نصف روّاد مهرجان ساندانس قبل عامين، ولم يكن بعيدًا عن حبكة فيلمها الجديد «عجينة سيئة»، كلاهما يدور حول فتاة في أرض وزمن مخيفين محاطة بكوابيس معاشة تتوزع بين مصاصي الدماء، في الفيلم السابق، وآكلي لحوم البشر في فيلمها الجديد هذا.
هناك، في مستقبل ما، محمية أميركية يعيش فيها المواطنون. تعزلهم عن الحياة خارجها. هذه المحمية أشبه بمعسكر كبير مسلح تحيط به حواجز صلبة تفصله عن الخارج الذي، وحسب يافطة عند الباب، «لم يعد أرضًا تابعة لتكساس ولا ينتمي الأحياء عليها إلى الجنسية الأميركية ولحقوقها».
إلى هذا المصير تخرج أرلين (سوكي ووترهاوس) إلى الصحراء قبل أن تقع بين أيدي آكلي لحوم بشر. من هذه النقطة وما بعد ليس هناك داعٍ فني فعلي لسبر غور ما يحدث. الفيلم عنيف في دلالاته، ولأن العنف يعتمد على من يقف وراء الفيلم وكيف يعالجه، فإن هذا العنف هنا مساق للفرجة أكثر مما ينجح للدلالة باستثناء أنه بمثابة نبوءة لنهاية الحياة كما نعرفها.
تخرج أرلين من التجربة وقد خسرت إحدى ساقيها لتهيم من جديد ولينقذها جوال متشرد (جيم كاري) الذي ينقلها إلى مجتمع مختلف محصن ضد الأعداء. يدير هذه المجموعة، على هواه، وبتأثير من خطاب طويل، كيانو ريفز، لكن الأحداث لا تبقى محصورة فيه، بل تخرج إلى ما وراء تلك الجدران من جديد لأن أرلين (وقد اكتسبت ساقًا مصنوعة) تحب استكشاف المكان وتلتقي بامرأة هاربة أخرى لكن من حبيب لها وليس من آكلي لحوم البشر.
هذا فيلم غير متوازن في منهجه. طويل هنا ومبتسر هناك. إيقاع متحرك ولولبي يفيض عن الحاجة في نصفه الثاني ويستخدم الحكاية الأصلية لسلسلة «ماد ماكس» كأرضية مكانية وحدثية، رغم ما تبذله المخرجة من جهد للإتيان بأفكار جديدة ومناسبة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)