مواجهات الفكر الأوروبي.. أنطونيو غرامشي

رسائله من السجن من أهم الشواهد على المواجهة بين المفكر والرقيب

غلاف «رسائل السجن»  -  نصب تذكاري لغرامش صممه الفنان السويسري توماس هيرستشيخون
غلاف «رسائل السجن» - نصب تذكاري لغرامش صممه الفنان السويسري توماس هيرستشيخون
TT

مواجهات الفكر الأوروبي.. أنطونيو غرامشي

غلاف «رسائل السجن»  -  نصب تذكاري لغرامش صممه الفنان السويسري توماس هيرستشيخون
غلاف «رسائل السجن» - نصب تذكاري لغرامش صممه الفنان السويسري توماس هيرستشيخون

أعود بعد جولة المقالات التي تناولت السينما إلى سلسلة المقالات التي سبق أن نشرتها في هذا الموضع حول الفكر الأوروبي، وتناولت فيها مفكرين مثل الفرنسيَّيْن فوكو وباديو. أعود إلى تلك المواجهات مع السلطة بأنواعها لأتناول مفكرين آخرين شغلوا بالقضية ذاتها، ويأتي في طليعة من يصعب تجاهلهم في هذا السياق ودون أدنى شك الإيطالي أنطونيو غرامشي Gramsci، الذي يعد أيضًا أحد أبرز مفكري القرن العشرين، وإن تركزت شهرته في كونه أحد أشهر سجناء ذلك القرن على المستويين الثقافي العام والفكري الخاص. وربما كانت المذكرات التي كتبها أثناء فترة سجنه التي امتدت لما يقارب الأحد عشر عامًا أشهر وأكثر المذكرات الشبيهة عمقًا واتساعًا في الرؤية والطرح، إلى جانب تأثيرها الواسع الممتد إلى يومنا هذا. ومع أن مذكرات غرامشي، وكذلك رسائله من السجن، تركزت على الموضوعات التاريخية والفكرية والاجتماعية والثقافية العامة، متفادية السياسي منها، فإنها من أهم الشواهد على المواجهة بين المفكر والرقيب، بين الرؤية المعمقة والشاملة للعالم والسلطة القمعية التي تأبى لتلك الرؤية أن تتطور لتنتشر وتقلقها.
سيقفز إلى ذهن البعض، عند ذكر اسم غرامشي، مفهومان شهيران: المثقف العضوي، والهيجيموني hegemony أو الهيمنة. ولا شك أن المفهومين وما يتصل بهما من تفاصيل في غاية الأهمية، وأن تأثيرهما كان واسعًا وملموسًا في تطور الفكر المعاصر، لا سيما المتصل منه بالعلاقة بين الثقافة والمجتمع، أو بالتغيير الثقافي ودور المثقف على مختلف المستويات. فمن الصعب اليوم أن يتحدث أحد عن مفهوم المثقف والثقافة ودورهما في التغير الاجتماعي والسياسي الاقتصادي دون أن يشير إلى غرامشي، حتى إن لم يكن قرأ له شيئًا. غير أن أهمية غرامشي تتمثل أيضًا في الكيفية التي استطاع من خلالها إنتاج ليس المفهومين المشار إليهما فحسب، وإنما ما تزخر به الدفاتر الثلاثة والثلاثون التي دوّنها في السجن، وتجاوزت صفحات بعضها المائة صفحة، شاملة للكثير من التأملات والملاحظات والمعلومات والتحليلات في مجالات كثيرة تمتد من النحو إلى الفلسفة، ومن الاقتصاد والتاريخ إلى الفن والأدب. هذا إلى جانب رسائله الكثيرة التي تزخر هي الأخرى بالكثير من المسائل والآراء. ومما يسترعي الانتباه هنا الظروف القمعية والصعوبات الشخصية المهولة التي أحاطت بالكاتب ومذكراته، والتي كانت كافية لإسكاته، ولكنه تمكن على الرغم منها أن يقرأ ويكتب ويمرر.
ولد غرامشي عام 1891 لعائلة متواضعة الدخل، واضطر في فترة مبكرة لقطع تعليمه سدًا لاحتياج والدته وإخوته، بعد أن دخل والده السجن لأسباب مالية. لكنه عاد ليواصل تعليمه، فقطع بعض المرحلة الجامعية ليتوقف من جديد ويمارس الكتابة في الصحف. وكان قد تعرف على الفكر الماركسي نتيجة قراءاته الواسعة، الأمر الذي دفعه إلى الانضمام إلى الحزب الشيوعي الإيطالي ليبرز فيه بذكائه وقدراته على التخطيط الاستراتيجي والحركي. كان ذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى حين بدأت تظهر حركات يمينية متطرفة في مقابل الحركات اليسارية. وكان في مقدمة الحركات اليمينية الحركة الفاشية بقيادة موسوليني الذي فرض بعد توليه السلطة، ما بين عامي 1922 و1923، ديكتاتورية حزبية تضمنت إلغاء ما عداها من أحزاب وآيديولوجيات كان الشيوعي منها.
في عام 1924 تولى غرامشي رئاسة الحزب الشيوعي الذي كان قد شارك في تأسيسه بعد اعتقال رئيسه الأسبق، وكان المفكر الإيطالي في الوقت نفسه قد انتخب عضوًا في البرلمان. لكن لم يكد يمضي عامان حتى اعتقل غرامشي نفسه على الرغم من حصانته البرلمانية وحكم عليه بالسجن خمسة أعوام في جزيرة أوستيكا، وفي العام التالي تضاعف الحكم إلى عشرين عامًا. ذلك الحكم الأخير جاء مصداقًا لما طالب به المدعي العام الإيطالي عند محاكمته، حين قال عبارته الشهيرة: «علينا أن نوقف هذا العقل عن العمل لعشرين عامًا». ومع أن العشرين عامًا لم تكتمل، لأن غرامشي توفي في منتصفها تقريبًا، ومع أن مطالبة المدعي لم تتحقق، لأن عقل غرامشي لم يتوقف عن العمل، فإن مواجهة السجن تركت أثرها العميق.
ما تحقق هو إنتاج فكري دؤوب على مدى عقد كامل تمخضت عنه إضافات مهمة، ليس إلى الفكر الماركسي فحسب، وإنما إلى فهمنا لأمور كثيرة خارج إطار ذلك الفكر، على الرغم من كونه الإطار الرئيس أو المهيمن على انشغال المفكر الإيطالي السجين. على أن عملية إنتاج ذلك الفكر والدوافع التي حركته وأبقته متقدًا هي بحد ذاتها من الأهمية والاستثنائية في عمليات التأليف المألوفة، بحيث تستحق التوقف عندها لوحدها. لقد قبل غرامشي قدره بهدوء العارف لما ينتظره، ووضع أمام ناظريه هدفين أساسيين: أن يهزم سجانه، وأن تكون هزيمة ذلك السجان في شكل عطاء فكري قادر على قلب الطاولة على التسلط وإن على المدى البعيد. قرر منذ دخوله السجن أن ينكب على القراءة والكتابة، على الرغم من كثرة العقبات التي كانت أمامه. لكنه ثابر في المحاولة، حتى مكّن من القراءة أولاً ثم الكتابة، وفي العمليتين، القراءة والكتابة، كان حصيفًا مدركًا أن عين الرقيب تلاحقه.
كانت العقبة الأولى أمامه هي تجاوز الكتب المتاحة في مكتبة السجن، ولم تكن تلك بالكتب التي كان يبحث عنها لإشباع احتياجاته البحثية، ولكنه مع ذلك قرأ منها الكثير، واستغل وقته أثناء وقت القراءة بكتابة الرسائل، ولكن دون تسجيل ملاحظات على ما يقرأ، فقد كان ممنوعًا من ذلك. وبعد عدة مطالبات وإلحاح سمح له بالحصول على كتب من خارج السجن، فكتب بذلك إلى أصدقائه وفي طليعتهم أخت زوجته الروسية تاتيانا شوخت، حيث طلب منها ومن صديق آخر كتبًا في مجالات مختلفة كالتاريخ والاقتصاد والنحو، إلى جانب قواميس ألمانية وروسية، اللغتين اللتين أكب على تعلمهما وهو يعلم أن لديه وقتًا كافيًا لذلك. وحين أتيحت له الكتب كتب مرة أخرى يطلب السماح له بالكتابة فجاءه ذلك بعد حين. وهكذا أدى انفتاح الأفقين، القراءة والكتابة إلى تغيير حياته اليومية في الزنزانة ومنحه الكثير من العزيمة والأمل.
على الرغم من أن الهدف الأساسي للقراءة والكتابة كان البحث والتأليف في موضوعات محددة، فقد أراد غرامشي من ذلك النشاط الذهني والفكري تحقيق هدفين: الأول الترويح عن النفس، والثاني هو ما عبر عنه في رسالة لأحد أصدقائه: «صدقني، لم أكن لأزعجك بهذا (أي طلب الكتب) لو لم أكن مدفوعًا بالحاجة إلى حل مشكلة الهبوط الفكري الذي يشكل همًا بالنسبة لي». ذلك الهبوط، أو التحطيم الفكري والذهني بالأحرى، هو الذي أراده المدعي العام حين قال بضرورة «أن نوقف هذا العقل عن العمل عشرين عامًا». أراد غرامشي لذلك العقل ألا يتوقف.
ولم يتوقف عقل ذلك المفكر قبل أن يترك ما يجعل عقولاً كثيرة تعمل. لكن آن لهذه المقالة أن تتوقف وتختم بالقول إن تاريخًا مؤلمًا وملهمًا كتاريخ هذا المفكر الإيطالي يؤكد أن تاريخ الفكر الأوروبي الحديث لم يكن أبدًا طريقًا مفروشًا بالحرية والورود كما يتخيل البعض، بل كان تاريخ كفاح ضد نظم ظالمة عرفتها أوروبا مثلما عرفها العالم، ومنه عالمنا العربي الإسلامي قديمًا وحديثًا. وإذا كانت أوروبا اليوم لا تسجن مفكريها؛ لأنه لم تعد فيها نظم كنظام موسوليني أو ستالين، فإن ما عبر عنه غير مفكر أوروبي وسبق أن أشرت إليه في مقالات سابقة هو أن الطريق إلى الفكر أو الإبداع وإن جللته الحرية محاط بألوان أخرى من الصعوبات، ستتضح مع تأمل حالات لمفكرين آخرين أقرب زمنًا بكثير.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.