تاريخ العرب في برلين.. نجاحات فنية واجتماعية وإخفاقات سياسية

تعداد الجالية اليوم 800 ألف ولا يمثلها أي نائب في البرلمان

أحد المحلات العربية في شارع زونين اليه المعروف بـ{شارع العرب» في العاصمة الألمانية برلين (غيتي)
أحد المحلات العربية في شارع زونين اليه المعروف بـ{شارع العرب» في العاصمة الألمانية برلين (غيتي)
TT

تاريخ العرب في برلين.. نجاحات فنية واجتماعية وإخفاقات سياسية

أحد المحلات العربية في شارع زونين اليه المعروف بـ{شارع العرب» في العاصمة الألمانية برلين (غيتي)
أحد المحلات العربية في شارع زونين اليه المعروف بـ{شارع العرب» في العاصمة الألمانية برلين (غيتي)

يعتبر الكتاب الذي صدر عن مفوضية الأجانب في العاصمة برلين وثيقة مهمة من أجل إلقاء نظرة على تاريخ العرب ومن أول من أتى إليها. فحسب الكتاب فإن أول عربي أتى إلى برلين من إسبانيا وأقام لفترة كان إبراهيم بن يعقوب رسول خليفة الأندلس الحكم الثاني في عام 965 وكان يهوديا عربيا عاش في مدينة تورتوزا الأندلسية، حمل من الخليفة رسالة إلى أوتو الأول ملك ألمانيا وقيصر الرومان من أجل توطيد العلاقات معه، وعند عودته نقل بن يعقوب للخليفة صورة عن ألمانيا التي كانت بالنسبة للعرب في هذا الوقت منطقة مجهولة.
* برلين: من مركز تجاري عثماني إلى كلية الاستشراق
ورغم المعلومات القليلة جدا عن مدى تطور هذه العلاقات كشف الكتاب عن وجود جنود عرب أحضرهم الجيش العثماني في القرن الـ16 إلى مدينة براندنبورغ القريبة من برلين للمشاركة في الحروب، وكانت هذه المدينة كما برلين بالنسبة للعثمانيين مركزا تجاريا مهما وتواصل الاهتمام بها حتى القرن الـ18 ويعتقد بأنهم سكنوا جنوب ألمانيا. ولدعم مساعي تحديث الدولة في مصر والإمبراطورية العثمانية تعمقت الاتصالات بين مصر وأوروبا فأرسل عباس باشا الأول 1849 - 1850 أول دفعة من الطلاب المصريين التحقوا بجامعة ميونيخ لدراسة الطب، تبعهم ما بين عامي 1853 - 1854 تسعة طلاب من بينهم حافظ عفت ومحمد عاطف وعبد الله شكري.
وبعد إصابة العلاقات بين العالم العربي وألمانيا بالبرود لانشغال الأخيرة بالنهوض باقتصادها بسرعة ولكي تصبح قوة عسكرية كبيرة عادت الحياة تدب إليها مع مطلع القرن الـ19 بعد إدخال لغات غير أوروبية إلى عدد من الجامعات مثل العربية والفارسية، فشغل المصري حسان توفيق (1862 - 1904) مركز المدقق باللغة العربية المصرية في كلية الاستشراق في برلين وهي اليوم جامعة هومبولت، بعده عين السوري أمين معربس (1851 - 1915) وفي عام 1891 درّس محمد بو سلحم اللغة (اللهجة) العربية المغاربية.
إلا أن أول عربي عاش في برلين وكان له تأثير سياسي هو المصري محمد لبيب محرم الذي وصل للعاصمة عام 1910 وتزوج من ألمانية، وأهم مهامه كانت حث الحكومة الألمانية لتوفر حماية للمصريين والليبيين الهاربين من الاحتلال الإيطالي (1911 - 1910)، كما أسس الرابطة المصرية وكانت أول حركة سياسية عربية في ألمانيا.
* جمهورية فايمر مرحلة ذهبية للعرب
لكن لا بد من القول: إن جمهورية فايمر (1912 - 1933) كانت مرحلة ذهبية للاجئين السياسيين العرب حيث سمح لهم بمزاولة أنشطة سياسية كثيرة وفندق اسبلانادا في برلين شاهد على بعضها. ففيه عقد أول مؤتمر عربي عام 1916 أُسست خلال المؤتمر لجنة استقلال تونس والجزائر بحضور القائد الروحي صالح الشريف التونسي. بعدها شهدت برلين حركات سياسية وثقافية وفنية عربية كثيرة نشأت على أساسها تجمعات عربية ألمانية، ورافق ظهورها حضور إعلامي ساهم في التقارب من الشعب الألماني، كما سمح بصدور نشرات إخبارية وصحف محلية حملت أخبار التوتر السياسي في البلدان العربية وبالأخص في مصر تحت الاحتلال البريطاني، وخصصت لبعض السياسيين الهاربين من بلادهم أعمدة في الصحف البرلينية لنشر أفكارهم من بينهم علي علاوي ومحمد عدوي وحسن خليفة تحت شعارات مثل «مصر للمصريين».
ومن الصحف التي ظهرت عام 1916 لدعم العلاقات بين العالم العربي وألمانيا صحيفة «الشرق الجديد Der Neue Orient» تحت شعار «مستقبل مصر يجب أن يكون في أيدي أبنائها»، كما سمح لها بشن الهجوم الصحافي تلو الآخر ضد البريطانيين. ولقد انضم إلى الركب المصري منصور رفعت (1883 - 1926) الذي هرب من سويسرا إلى ألمانيا بسبب أنشطته السياسية لصالح بلاده.
إضافة إلى ذلك أنشأت كلية الاستشراق وتسمى اليوم جامعة هومبولت وتأسست بعدها «المؤسسة الإسلامية» عام 1927 بهدف تبادل الثقافات وتوضيح وجهات النظر المتباينة بين الإسلام وألمانيا، وأشرف على تحضير تشكيل المجلس مستشرقون ألمان مثل ريشارد هرتمان وفرانس فون بابين وألبرت زودكوم، وعين كأعضاء شرف المصري فوآد شيرين وشكيب أرسلان، وبرئاسة محمد الجلبي السوري الأصل وأتى إلى برلين مطلع العشرينات من حلب بهدف الدراسة في الكلية التقنية في برلين. وأصدرت هذه المؤسسة ثلاث صحف في برلين ما بين عامي 1927 و1929 وهي «المراسلات المصرية» و«صوت الإسلام» وجريدة «الطلبة المسلمين» ركزت على أخبار الحركات التحريرية الإسلامية في الشرق الأوسط كما وضعت مقرها تحت تصرف الممثلين عن هذه الحركات عند زيارتهم لبرلين، لكن السلطات الألمانية خضعت لمطالب المستعمرين الأوروبيين فضيقت على أنشطتها.
* نجاح العرب تجاريا
ولم يستغل العرب هذا التطور في العلاقات لأن الخلافات الإقليمية والعقائدية كانت تحول دون ذلك لذا كان إبعادها عن الحياة السياسية الألمانية سهلا، مع ذلك نجحوا كرجال أعمال مثل عبد العزيز شاويش (1876 - 1929)، الذي بدأ عمله كبائع سجائر وبجهده المتواصل أسس شركة تصدير واستيراد كبيرة. كما حقق رحمين سليم نجاحا تجاريا كبيرا لبيع الآليات منها آليات زراعية في ألمانيا ثم افتتح عام 1922 عدة فروع في ألمانيا وبغداد، بعدها تسلم المحلات ابنه جورجي.
والأكثر نجاحا كان رجل الأعمال الفلسطيني جورج حوري (1891 - 1965) الذي أتى إلى برلين بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وعمل في قطاع التصدير والاستيراد، فاحتكر في ألمانيا استيراد برتقال يافا وكان يملك وأخوه بساتين واسعة في يافا. إلا أن تجارته بدأت خلال الحرب العالمية الثانية تتراجع بعد تشديد الحكومة الألمانية على وجوب الحصول على تصاريح استيراد خاصة يضاف إلى ذلك تبعات الحرب على ألمانيا النازية، وهذا كان أيضا مصير عبد الكريم سباعي من بيروت الذي حقق عام 1933 أرباحا طائلة كسمسار في قطاع العقارات.
* أسطوانات موسيقى عربية من برلين إلى القاهرة
ومن لم يعمل في التجارة عمل في مجال الفن، فأول شركة أسطوانات للأغاني العربية تأسست في برلين كانت استوديو «بيضا فون» للبناني ميشال بيضا وأتى إلى برلين في العشرينات واستفادة من التقدم التقني، والفضل يعود إليه في التعريف على الكثير من المغنين العرب. وإضافة إلى الأغاني الألمانية صدر عن «بيضا فون» عدة أسطوانات منها للمغني فرج الله بيضاوي وغازف العود قاسم الدرزي.
بعدها وسع أعماله بتصدير الأسطوانات إلى القاهرة وبلدان المهجر وكانت تحمل أصواتا مشهورة مثل المغني المصري سيد الصفتي ومحمد عبد الوهاب واللبناني محي الدين بيهون.
والفن لا يقتصر على الغناء فالمصري محمد سليمان الذي أتى إلى برلين عام 1900 كان أول من أدخل تقنية السينما بالتعاون مع الأخوين سكلادانوفسيكي، وأول فيلم صامت 54 ملم عرضه في برلين كان عام 1904 فحقق نجاحا كبيرا شجعه على افتتاح مركز لونا الفني. إلا أن الحرب العالمية الأولى هدمت كل نجاحاته فاضطر للعمل في صناعة هياكل السيارات وتوفي عام 1926. مع ذلك واصلت ابنته حميدة حبها للفن وكانت مغنية اوبرا توفيت عن عمر يناهز الـ110 أعوام.
* تألق في عالم السينما
وفي عالم السينما استطاع محمد بيومي (1894 - 1963) تحقيق مستقبله فهو قدم إلى برلين عام 1920 وعمل في تحميض الأفلام في استوديوهات شركة «أوفا» ثم لعب أدوارا سينمائية بأجر بسيط جدا، بعدها تحول إلى التصوير السينمائي، ولقد اقترن اسمه بفيلم وثائقي تاريخي عن فتح منقبين ألمان مقبرة توت عنخ آمون عام 1922.
والشخص الذي حقق نجاحا أكبر كان محمد كريم (1896 - 1972) الذي أتى إلى برلين عام 1923
وعمل تحت إدارة المخرج الألماني المعروف فرتس لانتس، ويقرن اسمه حتى اليوم بفيلم الدراما المصري «زينب» من تمثيل بهيجة حافظ وصور في ثلاثينات القرن الماضي.
* أدباء وفنانون
وإذا ما تحدثنا عن الفنانين العرب فلا بد من ذكر المصريين مصطفى الشربيني وأحمد مصطفى في ثلاثينات القرن الماضي واعتبرا من أهم العازفين لموسيقى الجاز التي كانت في قمة شهرتها في ببرلين كما في نيويورك. وعزف الأميركي العربي الأصل هارب فلامينغ واسمه الحقيقي نيقولا الميشال وكانت والدته تونسية ووالده مصري في افتتاح الألعاب الأولمبية عام 1936 ببرلين، فكان أول عربي يحظى بهذه المكانة رغم عدم وجود مشاركة عربية يومها.
ومن أجل خدمة الأدب الألماني كتب عزيز ضوميط الشاعر الفلسطيني الذي ولد في القاهرة (1890 - 1943) أعماله باللغة الألمانية، وكان يهدف أيضا إلى تشكيل مفوضية ثقافية ألمانية عربية إلا أن مصيره لم يكن أفضل من مصير غيره من العرب في برلين أو الذين تعاونوا مع النازية بهدف التخلص من الاستعمار البريطاني، ولسد احتياجاته المعيشية عمل كمذيع في إذاعة برلين إضافة إلى كتاباته التي لم تعد تعبر عن مضامين نفسه.
* «هنا برلين.. حي العرب»
ويتذكر جيل الحرب العالمية الثانية صوت يونس البحري الذي كان يصدح من كل صباح بعبارة «هنا برلين، حي العرب»، إذ أن النازية أسست محطة إذاعية من أجل الترويج لدعاياتها باللغة العربية، وإضافة إلى البحري اشتهر أيضا التونسي تقي الدين الهلالي والذي كان يقرأ البرامج والأخبار بالعربية الفصحى ليسمعها العرب في الشرق الأوسط وبلهجة سكان أفريقيا الشمالية لبلدان المغرب العربي والبلدان التي كانت تحتلها ألمانيا أيضا للمغاربة في باريس وأثينا، وكان عبد اللطيف كمال المصري يتحدث بلهجة بلاده للمستمعين في مصر. وكانت برامج الإذاعة مزيجا من التقارير الحربية وحلقات نقاش أدبية وتاريخية وقراءة من القرآن الكريم ووصلات موسيقية لكن قبل كل شيء دعايات معادية للبريطانيين.
وعلى الرغم من هذا التاريخ الطويل والقديم والأزمان التي برز فيها العرب في برلين بالتحديد فإنهم لم يتمكنوا حتى اليوم من تشكيل وزن في الحياة السياسية الألمانية. مع أن العشرات منهم أتى في ستينات القرن الماضي ودرس وعمل في مؤسسات مهمة لكن الجالية العربية وتعدادها اليوم 800 ألف ليس لديها نائب واحد في البرلمان الاتحادي بينما للجالية التركية التي أتت في الستينات 11 نائبا. ويحتل عدد بسيط جدا من العرب برلمان حكومات أقاليم مثل إقليم هسن وهو طارق الوزير (حزب الخضر) وآخر فلسطيني الأصل وهو رائد صالح في المجلس البلدي ببرلين. في المقابل دخل العرب مجال المهن الحرة منها الطب والهندسة، ويحاول اليوم الجيل الجديد اقتحام ميداني التمثيل والصحافة والإعلام.
* شارع العرب اليوم
يعرف شارع زونين إليه الذي يمتد على مسافة تطول لتصل لعدة كيلومترات وتتفرع عنه ومنه عدة شوارع هامة أيضا بشارع العرب في برلين اليوم. ولأن هذه المنطقة من أكثر المناطق التجارية كثافة وكذلك السكانية، وتعتبر من أفقر مناطق برلين، فإنها من أكثرها شعبية وازدحاما وتسوقا، بحيث تمتلئ بالمتاجر والمحلات التي تبيع سلعها وبضائعها بأسعار زهيدة قياسا بأسعار السوق في المناطق البرلينية الأخرى وتزدحم بالوجود العربي.
على هذا الشارع الممتد لعدة كيلومترات تنتشر المحلات والمقاهي والمطاعم العربية. فإن أراد زائر برلين تناول وجبة غذاء شبيهة بوجبات «المطاعم العربية» فما عليه إلا التجول قليلا على الشارع المذكور إذ أن المطاعم الفلسطينية واللبنانية تنتشر على الشارع المذكور من بدايته حتى نهايته وهي مطاعم منوعة ومختلفة بوجباتها وجلساتها وأجوائها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)