تاريخ العرب في برلين.. نجاحات فنية واجتماعية وإخفاقات سياسية

تعداد الجالية اليوم 800 ألف ولا يمثلها أي نائب في البرلمان

أحد المحلات العربية في شارع زونين اليه المعروف بـ{شارع العرب» في العاصمة الألمانية برلين (غيتي)
أحد المحلات العربية في شارع زونين اليه المعروف بـ{شارع العرب» في العاصمة الألمانية برلين (غيتي)
TT

تاريخ العرب في برلين.. نجاحات فنية واجتماعية وإخفاقات سياسية

أحد المحلات العربية في شارع زونين اليه المعروف بـ{شارع العرب» في العاصمة الألمانية برلين (غيتي)
أحد المحلات العربية في شارع زونين اليه المعروف بـ{شارع العرب» في العاصمة الألمانية برلين (غيتي)

يعتبر الكتاب الذي صدر عن مفوضية الأجانب في العاصمة برلين وثيقة مهمة من أجل إلقاء نظرة على تاريخ العرب ومن أول من أتى إليها. فحسب الكتاب فإن أول عربي أتى إلى برلين من إسبانيا وأقام لفترة كان إبراهيم بن يعقوب رسول خليفة الأندلس الحكم الثاني في عام 965 وكان يهوديا عربيا عاش في مدينة تورتوزا الأندلسية، حمل من الخليفة رسالة إلى أوتو الأول ملك ألمانيا وقيصر الرومان من أجل توطيد العلاقات معه، وعند عودته نقل بن يعقوب للخليفة صورة عن ألمانيا التي كانت بالنسبة للعرب في هذا الوقت منطقة مجهولة.
* برلين: من مركز تجاري عثماني إلى كلية الاستشراق
ورغم المعلومات القليلة جدا عن مدى تطور هذه العلاقات كشف الكتاب عن وجود جنود عرب أحضرهم الجيش العثماني في القرن الـ16 إلى مدينة براندنبورغ القريبة من برلين للمشاركة في الحروب، وكانت هذه المدينة كما برلين بالنسبة للعثمانيين مركزا تجاريا مهما وتواصل الاهتمام بها حتى القرن الـ18 ويعتقد بأنهم سكنوا جنوب ألمانيا. ولدعم مساعي تحديث الدولة في مصر والإمبراطورية العثمانية تعمقت الاتصالات بين مصر وأوروبا فأرسل عباس باشا الأول 1849 - 1850 أول دفعة من الطلاب المصريين التحقوا بجامعة ميونيخ لدراسة الطب، تبعهم ما بين عامي 1853 - 1854 تسعة طلاب من بينهم حافظ عفت ومحمد عاطف وعبد الله شكري.
وبعد إصابة العلاقات بين العالم العربي وألمانيا بالبرود لانشغال الأخيرة بالنهوض باقتصادها بسرعة ولكي تصبح قوة عسكرية كبيرة عادت الحياة تدب إليها مع مطلع القرن الـ19 بعد إدخال لغات غير أوروبية إلى عدد من الجامعات مثل العربية والفارسية، فشغل المصري حسان توفيق (1862 - 1904) مركز المدقق باللغة العربية المصرية في كلية الاستشراق في برلين وهي اليوم جامعة هومبولت، بعده عين السوري أمين معربس (1851 - 1915) وفي عام 1891 درّس محمد بو سلحم اللغة (اللهجة) العربية المغاربية.
إلا أن أول عربي عاش في برلين وكان له تأثير سياسي هو المصري محمد لبيب محرم الذي وصل للعاصمة عام 1910 وتزوج من ألمانية، وأهم مهامه كانت حث الحكومة الألمانية لتوفر حماية للمصريين والليبيين الهاربين من الاحتلال الإيطالي (1911 - 1910)، كما أسس الرابطة المصرية وكانت أول حركة سياسية عربية في ألمانيا.
* جمهورية فايمر مرحلة ذهبية للعرب
لكن لا بد من القول: إن جمهورية فايمر (1912 - 1933) كانت مرحلة ذهبية للاجئين السياسيين العرب حيث سمح لهم بمزاولة أنشطة سياسية كثيرة وفندق اسبلانادا في برلين شاهد على بعضها. ففيه عقد أول مؤتمر عربي عام 1916 أُسست خلال المؤتمر لجنة استقلال تونس والجزائر بحضور القائد الروحي صالح الشريف التونسي. بعدها شهدت برلين حركات سياسية وثقافية وفنية عربية كثيرة نشأت على أساسها تجمعات عربية ألمانية، ورافق ظهورها حضور إعلامي ساهم في التقارب من الشعب الألماني، كما سمح بصدور نشرات إخبارية وصحف محلية حملت أخبار التوتر السياسي في البلدان العربية وبالأخص في مصر تحت الاحتلال البريطاني، وخصصت لبعض السياسيين الهاربين من بلادهم أعمدة في الصحف البرلينية لنشر أفكارهم من بينهم علي علاوي ومحمد عدوي وحسن خليفة تحت شعارات مثل «مصر للمصريين».
ومن الصحف التي ظهرت عام 1916 لدعم العلاقات بين العالم العربي وألمانيا صحيفة «الشرق الجديد Der Neue Orient» تحت شعار «مستقبل مصر يجب أن يكون في أيدي أبنائها»، كما سمح لها بشن الهجوم الصحافي تلو الآخر ضد البريطانيين. ولقد انضم إلى الركب المصري منصور رفعت (1883 - 1926) الذي هرب من سويسرا إلى ألمانيا بسبب أنشطته السياسية لصالح بلاده.
إضافة إلى ذلك أنشأت كلية الاستشراق وتسمى اليوم جامعة هومبولت وتأسست بعدها «المؤسسة الإسلامية» عام 1927 بهدف تبادل الثقافات وتوضيح وجهات النظر المتباينة بين الإسلام وألمانيا، وأشرف على تحضير تشكيل المجلس مستشرقون ألمان مثل ريشارد هرتمان وفرانس فون بابين وألبرت زودكوم، وعين كأعضاء شرف المصري فوآد شيرين وشكيب أرسلان، وبرئاسة محمد الجلبي السوري الأصل وأتى إلى برلين مطلع العشرينات من حلب بهدف الدراسة في الكلية التقنية في برلين. وأصدرت هذه المؤسسة ثلاث صحف في برلين ما بين عامي 1927 و1929 وهي «المراسلات المصرية» و«صوت الإسلام» وجريدة «الطلبة المسلمين» ركزت على أخبار الحركات التحريرية الإسلامية في الشرق الأوسط كما وضعت مقرها تحت تصرف الممثلين عن هذه الحركات عند زيارتهم لبرلين، لكن السلطات الألمانية خضعت لمطالب المستعمرين الأوروبيين فضيقت على أنشطتها.
* نجاح العرب تجاريا
ولم يستغل العرب هذا التطور في العلاقات لأن الخلافات الإقليمية والعقائدية كانت تحول دون ذلك لذا كان إبعادها عن الحياة السياسية الألمانية سهلا، مع ذلك نجحوا كرجال أعمال مثل عبد العزيز شاويش (1876 - 1929)، الذي بدأ عمله كبائع سجائر وبجهده المتواصل أسس شركة تصدير واستيراد كبيرة. كما حقق رحمين سليم نجاحا تجاريا كبيرا لبيع الآليات منها آليات زراعية في ألمانيا ثم افتتح عام 1922 عدة فروع في ألمانيا وبغداد، بعدها تسلم المحلات ابنه جورجي.
والأكثر نجاحا كان رجل الأعمال الفلسطيني جورج حوري (1891 - 1965) الذي أتى إلى برلين بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وعمل في قطاع التصدير والاستيراد، فاحتكر في ألمانيا استيراد برتقال يافا وكان يملك وأخوه بساتين واسعة في يافا. إلا أن تجارته بدأت خلال الحرب العالمية الثانية تتراجع بعد تشديد الحكومة الألمانية على وجوب الحصول على تصاريح استيراد خاصة يضاف إلى ذلك تبعات الحرب على ألمانيا النازية، وهذا كان أيضا مصير عبد الكريم سباعي من بيروت الذي حقق عام 1933 أرباحا طائلة كسمسار في قطاع العقارات.
* أسطوانات موسيقى عربية من برلين إلى القاهرة
ومن لم يعمل في التجارة عمل في مجال الفن، فأول شركة أسطوانات للأغاني العربية تأسست في برلين كانت استوديو «بيضا فون» للبناني ميشال بيضا وأتى إلى برلين في العشرينات واستفادة من التقدم التقني، والفضل يعود إليه في التعريف على الكثير من المغنين العرب. وإضافة إلى الأغاني الألمانية صدر عن «بيضا فون» عدة أسطوانات منها للمغني فرج الله بيضاوي وغازف العود قاسم الدرزي.
بعدها وسع أعماله بتصدير الأسطوانات إلى القاهرة وبلدان المهجر وكانت تحمل أصواتا مشهورة مثل المغني المصري سيد الصفتي ومحمد عبد الوهاب واللبناني محي الدين بيهون.
والفن لا يقتصر على الغناء فالمصري محمد سليمان الذي أتى إلى برلين عام 1900 كان أول من أدخل تقنية السينما بالتعاون مع الأخوين سكلادانوفسيكي، وأول فيلم صامت 54 ملم عرضه في برلين كان عام 1904 فحقق نجاحا كبيرا شجعه على افتتاح مركز لونا الفني. إلا أن الحرب العالمية الأولى هدمت كل نجاحاته فاضطر للعمل في صناعة هياكل السيارات وتوفي عام 1926. مع ذلك واصلت ابنته حميدة حبها للفن وكانت مغنية اوبرا توفيت عن عمر يناهز الـ110 أعوام.
* تألق في عالم السينما
وفي عالم السينما استطاع محمد بيومي (1894 - 1963) تحقيق مستقبله فهو قدم إلى برلين عام 1920 وعمل في تحميض الأفلام في استوديوهات شركة «أوفا» ثم لعب أدوارا سينمائية بأجر بسيط جدا، بعدها تحول إلى التصوير السينمائي، ولقد اقترن اسمه بفيلم وثائقي تاريخي عن فتح منقبين ألمان مقبرة توت عنخ آمون عام 1922.
والشخص الذي حقق نجاحا أكبر كان محمد كريم (1896 - 1972) الذي أتى إلى برلين عام 1923
وعمل تحت إدارة المخرج الألماني المعروف فرتس لانتس، ويقرن اسمه حتى اليوم بفيلم الدراما المصري «زينب» من تمثيل بهيجة حافظ وصور في ثلاثينات القرن الماضي.
* أدباء وفنانون
وإذا ما تحدثنا عن الفنانين العرب فلا بد من ذكر المصريين مصطفى الشربيني وأحمد مصطفى في ثلاثينات القرن الماضي واعتبرا من أهم العازفين لموسيقى الجاز التي كانت في قمة شهرتها في ببرلين كما في نيويورك. وعزف الأميركي العربي الأصل هارب فلامينغ واسمه الحقيقي نيقولا الميشال وكانت والدته تونسية ووالده مصري في افتتاح الألعاب الأولمبية عام 1936 ببرلين، فكان أول عربي يحظى بهذه المكانة رغم عدم وجود مشاركة عربية يومها.
ومن أجل خدمة الأدب الألماني كتب عزيز ضوميط الشاعر الفلسطيني الذي ولد في القاهرة (1890 - 1943) أعماله باللغة الألمانية، وكان يهدف أيضا إلى تشكيل مفوضية ثقافية ألمانية عربية إلا أن مصيره لم يكن أفضل من مصير غيره من العرب في برلين أو الذين تعاونوا مع النازية بهدف التخلص من الاستعمار البريطاني، ولسد احتياجاته المعيشية عمل كمذيع في إذاعة برلين إضافة إلى كتاباته التي لم تعد تعبر عن مضامين نفسه.
* «هنا برلين.. حي العرب»
ويتذكر جيل الحرب العالمية الثانية صوت يونس البحري الذي كان يصدح من كل صباح بعبارة «هنا برلين، حي العرب»، إذ أن النازية أسست محطة إذاعية من أجل الترويج لدعاياتها باللغة العربية، وإضافة إلى البحري اشتهر أيضا التونسي تقي الدين الهلالي والذي كان يقرأ البرامج والأخبار بالعربية الفصحى ليسمعها العرب في الشرق الأوسط وبلهجة سكان أفريقيا الشمالية لبلدان المغرب العربي والبلدان التي كانت تحتلها ألمانيا أيضا للمغاربة في باريس وأثينا، وكان عبد اللطيف كمال المصري يتحدث بلهجة بلاده للمستمعين في مصر. وكانت برامج الإذاعة مزيجا من التقارير الحربية وحلقات نقاش أدبية وتاريخية وقراءة من القرآن الكريم ووصلات موسيقية لكن قبل كل شيء دعايات معادية للبريطانيين.
وعلى الرغم من هذا التاريخ الطويل والقديم والأزمان التي برز فيها العرب في برلين بالتحديد فإنهم لم يتمكنوا حتى اليوم من تشكيل وزن في الحياة السياسية الألمانية. مع أن العشرات منهم أتى في ستينات القرن الماضي ودرس وعمل في مؤسسات مهمة لكن الجالية العربية وتعدادها اليوم 800 ألف ليس لديها نائب واحد في البرلمان الاتحادي بينما للجالية التركية التي أتت في الستينات 11 نائبا. ويحتل عدد بسيط جدا من العرب برلمان حكومات أقاليم مثل إقليم هسن وهو طارق الوزير (حزب الخضر) وآخر فلسطيني الأصل وهو رائد صالح في المجلس البلدي ببرلين. في المقابل دخل العرب مجال المهن الحرة منها الطب والهندسة، ويحاول اليوم الجيل الجديد اقتحام ميداني التمثيل والصحافة والإعلام.
* شارع العرب اليوم
يعرف شارع زونين إليه الذي يمتد على مسافة تطول لتصل لعدة كيلومترات وتتفرع عنه ومنه عدة شوارع هامة أيضا بشارع العرب في برلين اليوم. ولأن هذه المنطقة من أكثر المناطق التجارية كثافة وكذلك السكانية، وتعتبر من أفقر مناطق برلين، فإنها من أكثرها شعبية وازدحاما وتسوقا، بحيث تمتلئ بالمتاجر والمحلات التي تبيع سلعها وبضائعها بأسعار زهيدة قياسا بأسعار السوق في المناطق البرلينية الأخرى وتزدحم بالوجود العربي.
على هذا الشارع الممتد لعدة كيلومترات تنتشر المحلات والمقاهي والمطاعم العربية. فإن أراد زائر برلين تناول وجبة غذاء شبيهة بوجبات «المطاعم العربية» فما عليه إلا التجول قليلا على الشارع المذكور إذ أن المطاعم الفلسطينية واللبنانية تنتشر على الشارع المذكور من بدايته حتى نهايته وهي مطاعم منوعة ومختلفة بوجباتها وجلساتها وأجوائها.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».