موت الكتابة.. أم الكاتب؟

المبدعون فصيل بشري موشك على الانقراض في عصر قريب

موت الكتابة.. أم الكاتب؟
TT

موت الكتابة.. أم الكاتب؟

موت الكتابة.. أم الكاتب؟

علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) يعرفون الكتابة بأنها ليست مجرد أداة لتسجيل الكلام المحكي، بل هي صوت آخر مختلف للتعبير عن معاناة الوجود البشري وتجربة سحرية من طراز رفيع تسمو فيها الروح البشرية عن الأحياء الأخرى. لا شك أن أسلافنا الذين اخترعوا الكتابة - وهم بالمناسبة من الشرق الأوسط وفق أحدث المعطيات الأثرية - كان لديهم نفس الإحساس الخارق للمألوف والمحكي واليومي في حضرة الكتابة: كأنها حوار مع لا أحد، ولكنها حوار مع الجميع في نفس الوقت. لا غرابة أبدا أنه بحسب الأساطير الفرعونية القديمة كان الإله الذي أهدى الكتابة للبشر إله السحر بالذات.
عقل الكاتب بحر شاسع من الخيالات والانفعالات والتجارب والأحاسيس، والحافز الانفعالي لديه هو الذي يخلق الشعور المختلف عن الإنسان العادي تجاه مواقف الحياة والاشتباك معها. لا يذهب الكاتب مستسلما إلى النوم كالآخرين ولا يغمض عينيه على نعاس بل يفتحهما على بسط التساؤلات والانشغال بإجاباتها.
القلق سمته الكبرى، وعلى ضوئه والتوتر الناشئ عنه يحرك البواعث والنزعات الإنسانية نحو قضيته إلا بداعية لتفريغ شحناته على جسد الكلمات، لكن ملامح القلق لم تعد مقتصرة على إشكالية المعاناة الوجودية ذات نفسها بل على كارثية لقمة العيش نفسه التي تكبل عملية اقتراف الإبداع.
فبعد مرور آلاف السنين من مسار تصاعدي لحركة التاريخ كانت الكتابة خلاله جزءا لا يتجزأ من أدوات تشكيل الواقع، وصلنا اليوم - فيما يبدو - إلى النقطة التي أصبحت فيها هذه الصنعة الإبداعية في تقهقر مستمر وكأنها تلفظ أنفاسها شنقا.
الكتاب المبدعون وكأنهم فصيل بشري موشك على الانقراض.
ففي دولة عظمى مثل بريطانيا مثلاً، يقول اتحاد الكتاب إن هنالك تراجعًا صادمًا في عدد الكتّاب الذين يعتاشون من كتاباتهم في المملكة المتحدة وإن معدل دخل الكاتب السنوي منها يقل بمقدار الثلث عن الحد الأدنى للعيش وفق تعريف السلطات، وهو ما انعكس على تزايد أعداد الكتاب الذين يحتاجون إلى معونات الدولة والمنح الطارئة التي تقدمها بعض الجهات للمبدعين. ولك أن تتخيل بالطبع كيف هو الحال الموازي في العالم العربي ودول العالم الثالث. الروائي الأفريقي ليدودوما لينغاني الفائز بجائزة كاين للكتابة - الجائزة الأرفع للكتابة بالإنجليزية في القارة الأفريقية - عندما سئل عما إذا كان سيوزع قيمة الجائزة (عشرة آلاف جنيه إسترليني) على زملائه المرشحين للجائزة، قال أتمنى ذلك، ولكن تذكروا أن هذا المبلغ هو كل ما حصلت عليه من الكتابة حتى الآن! في العالم العربي عندما يطبع من معظم الكتب أقل من ثلاثة آلاف نسخة يذهب جل عائدها للناشرين، هذا دون الحديث عن تزوير الكتب وتصويرها ونشرها مجانًا على الإنترنت وامتناع معظم الصحف السيارة عن الدفع لكتابها - فكيف يمكن حينئذ للكاتب أن يكتب؟
وبينما كان المثقفون يحذّرون من موت الشعر وموت الرواية وموت الكتابة الجادة بالنظر إلى سيطرة ثقافة المعلومة السهلة التي توفرها معطيات التكنولوجيا الحديثة والتي تعكس اتجاهًا شعبيًا عامًا نحو الأقل تعقيدًا، فإن الخطر الأشد - فيما يستشف من الإحصائيات الحديثة حول صنعة الكتابة - يكمن أكثر في خسارة الشعراء والروائيين والكتاب أنفسهم. بكل بساطة: أقل من 12 في المائة من الكتاب المحترفين في بريطانيا يعتمدون على الكتابة كمصدر رزق أول لهم، مقارنة بـ40 في المائة قبل عقد من الزمن. ولذا فإن غالبية الذين يكتبون مضطرون إلى العمل في مهن موازية كالتدريس وكتابة النصوص الأكاديمية والتحرير والإعلانات أو حتى تصفيف الشعر لكسب عيشهم أو هم مضطرون إلى الانخراط في مؤسسات ذات صبغة آيديولوجية وأجندات سياسية تفرض عليهم إيقاعًا معينًا وتفرغ روحهم من شعاع الحرية فتصير حروفهم بلاستيكية الشرايين من دون حرارة دم التغيير، ويتحولون بالنهاية إلى مجرد أبواق تطلق الرصاص الطائش على الإبداع.
«لا يمكنك أن تعتبر الكتابة مهنة هذه الأيام. ربما في أزمان سالفة نعم، لكن اليوم لا أعتقد أن أحدًا يمكن أن يعتاش من الكتابة» يقول جيمس سميث الروائي المعروف الفائز بعدة جوائز أدبية.
هنالك بالتأكيد كتاب نجوم يحصلون على ملايين ربما من عقود النشر لأسباب متعددة، لكن هؤلاء يظلون أقلية واستثناء يؤكد القاعدة.
البديل الآخر بالطبع هو أن تتحول الكتابة إلى هواية يمارسها الأثرياء فقط، هذا يضمن بالضرورة أن يترك أمر تكوين ثقافة المجتمعات إلى الفئة المهيمنة وقيمها ورؤيتها للعالم مما قد يطيح بأي إمكانية لإثراء حياة المجتمع من خلال جدليات الفكر.
بالطبع فإن مناخًا سلبيًا متشائمًا حول مهنة الكتابة عمومًا ليس في مصلحة المستهلكين والمنتجين للعمل الثقافي كليهما، إذ أن تقلص عدد الكتّاب وحجم تفرغهم للعمل الإبداعي سينتهي إلى تراجع حجم ونوعية المادة الثقافية المبدعة ربما لمصلحة أشكال أكثر سطحية من منتجات الثقافة الشعبية - وهذا أمر غير جيّد بالطبع لأي مجتمع - بل وحتى لصناعة النشر نفسها إذ أن ذلك سيضع مزيدًا من الضغوط على أرباحها على المدى الطويل إن هي لم تسعَ إلى توازن أفضل في تقاسم العوائد مع الكتّاب.
ولكن كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة في الإطار الكلّي؟
يذهب البعض - خاصة في طرف الناشرين - إلى ربط تراجع معدلات دخل المبدعين بتراجع الإقبال العام على القراءة والأعمال الثقافية. وهذا يفسرونه بتغول الشاشات على الكتب والمطبوعات عمومًا وهو أمر ملحوظ لا يمكن إنكاره. لكن التدقيق في جذوره - خصوصًا في ظل نجاح استثنائي لقليل من الأعمال الشديدة التميّز - إنما يشير إلى تراجع نوعية المحتوى كأحد العوامل البنيوية التي ترسل بالقراء بعيدًا إلى أشكال معارف وتسليات أخرى. وبما أن قيمة الكتابة أصلاً لا يمكن ربطها بعدد النسخ المبيعة من حيث المبدأ، فإن مجتمعاتنا عرضة لخسارة عدد ليس بقليل من أهم أصواتها بسبب مقاييس مادية غير دقيقة.
يستغرب فيليب بولمان، الروائي البريطاني المعروف كيف أن الجميع - حتى في إطار صناعة الثقافة - يريد الحصول على دخل يضمن حدًا أدنى للعيش الكريم، في حين يتوقع من الكاتب، الذي هو قلب الصناعة الإبداعية، أن يعمل بالمجان. «الجميع يقبضون أجورهم في المهرجانات الثقافية وفي صناعة الكتب. حتى عمال التنظيفات والسائقون، فقط الكتّاب - الذين هم سبب علّة وجود المنتج الثقافي سواء كان مهرجانًا أو مطبوعًا - يتوقع منهم أن يكونوا سعداء بمجرد المشاركة». في الحقيقة فإن المنظومة الرأسمالية التي تتحكم بصناعة المنتجات الثقافية صناعة وإنتاجًا وتوزيعا تبدو قادرة على جمع أرباح طائلة، وتوظيف محامين مرتفعي الأجر بحثًا عن طرق قانونية لتجنب دفع الضرائب، وهي تفرض إيقاعًا معينًا حول شكل ومحتوى المواد التي يُتوقع أن تحظى بقبول أوسع جمهور ممكن وفق مقاييس شعبوية تجارية محضة في حين تبدو الضحية دائمًا واحدة: الكاتب. لكن جانب الناشرين يقول إن المسألة ليست في إجحاف عقود النشر، بقدر ما هي في تراجع هوامش الربح عمومًا من الصناعة ككل.
بالتأكيد فإن عوامل متداخلة تدفع باتجاه تقليص هوامش عيش المبدعين بغض النظر عن الركن الذي تنظر منه للأمر. لكن مهما كانت الأسباب، فإن انقراض صناعة الكتابة كنتيجة لن يكون من مصلحة المجتمعات المعاصرة ولا بأي شكل - بما فيها مصلحة النظام الرأسمالي نفسه - ولا بدّ لوقف الاتجاه المتراجع من توفير الحماية للكتاب والمبدعين في فضاءات آمنة تبعدهم عن تغول الرأسمال وحسابات ربحه المباشر. هذه مهمة الجميع، لكنها أولاً مهمة نضالية تقع على عاتق الكتاب أنفسهم.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.