قاعدة القيارة.. معركة ورسائل

من عهد صدام حسين إلى «هدية» هيلاري كلينتون

قاعدة القيارة.. معركة ورسائل
TT

قاعدة القيارة.. معركة ورسائل

قاعدة القيارة.. معركة ورسائل

على الرغم من تخلي إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما عن الشأن العراقي بالقياس إلى سلفه جورج بوش، وبالقياس أيضا إلى فترة إدارته الأولى حيث كانت المرشحة الديمقراطية الرئاسية الحالية هيلاري كلينتون وزيرة للخارجية، فإن الاهتمام الأميركي المتأخر بالشأن العراقي لجهة الحرب على الإرهاب – على وجه الخصوص - بات يرتبط في أذهان الكثيرين بمعركة الموصل. وعلى الرغم من الرمزية الهائلة التي تحتلها هذه المعركة، سواء بالنسبة إلى تنظيم داعش الإرهابي المتطرف كون الموصل عاصمة «الخلافة الإسلامية» المزعومة التي شهد أحد مساجدها الخطبة الأولى لـ«أبو بكر البغدادي» في أول جمعة بعد احتلال الموصل، أو بالنسبة للعراقيين الذين يعدونها آخر معاركهم الكبرى، أو الولايات المتحدة الأميركية التي تريد إدارتها الحالية تقديم رأس «البغدادي» على طبق من ذهب لكلينتون. ويرى مراقبون مطلعون أنه من المؤكد أن يغدو القضاء على زعيم «داعش» هو «الجائزة الأهم» المؤهلة لهيلاري كلينتون للعودة إلى البيت الأبيض بعدما فارقته لمدة عقد ونصف العقد من الزمن حين كانت «سيدة أولى» على امتداد ثماني سنوات في عهد زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
إن مدينة الموصل، التي ظهر في أحد مساجدها «أبو بكر البغدادي» في أول خطبة له بعد احتلالها بيومين وهو يحمل سيفًا في اليد اليسرى وعلى معصمه ساعة غالية الثمن من نوع «رولكس» في اليد اليمنى على طريقة «كبار المتدينين»، باتت المكان المتوقع أن يدفع فيه الثمن.. ولكن من خلال كلمة سر اسمها «القيارة». ثم إنه، على الرغم من وجود قواعد عسكرية أميركية أخرى في العراق (في كل من محافظات الأنبار وصلاح الدين وكركوك) فإن قاعدة القيارة، في ضوء عملية إعادة ترتيب – أو قل رسم – الخرائط في منطقة الشرق الأوسط وسط حالة تقاسم النفوذ بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، تبدو هذه القاعدة بالذات هي الأهم على صعيد هذه الترتيبات الجديدة في العراق والمنطقة. والجدير بالذكر هنا أن المنطقة المجاورة لهذه القاعدة تمثل اليوم مركزًا حيويًا لتنظيم داعش ذلك أنها تقع بين مدينتي تكريت والموصل وفيها آبار نفط ومصفاة متقادمة ومخازن سلاح ومعسكرات وأحياء مأهولة بالسكان.
طبقا لما كشفه سياسي عراقي لـ«الشرق الأوسط» في وقت سابق من هذا العام، فإن الولايات المتحدة الأميركية بدأت بإعادة تأهيل قاعدة القيارة الجوية بشمال غربي العراق من خلال إحالة عدد من المقاولات الخاصة ببناء وتجهيز القاعدة إلى عدد من الشركات الأجنبية، علما بأن الاتفاقات الخاصة بذلك أجريت في مقر السفارة الأميركية في الكويت.
يومذاك أضاف السياسي العراقي المطلع أن «الفرقة الأميركية المجوقلة 101 سوف تستقر في هذه القاعدة الاستراتيجية، وأن الجانب الأميركي أدخل إلى هذه القاعدة معدات تستخدم لأول مرة في الجيش الأميركي».

اهتمام وإعادة تأهيل
وأوضح المسؤول العراقي الرفيع المستوى أن «الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر في اليوم التالي لتحرير القاعدة من سيطرة تنظيم داعش تأتي في سياق الاهتمام الأميركي». وكانت قاعدة القيارة قد بنيت أواخر سبعينات القرن الماضي على أيدي شركات يوغسلافية ضمن مشروع القواعد العملاقة للاستفادة من دروس الحروب العربية مع إسرائيل بين عامي 1967 و1973. وكانت هذه القاعدة لعبت دورًا مهما خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980ـ1988)، إذ كانت تؤوي أسراب طائرات «الميغ» الروسية و«الميراج» الفرنسية.
وتضم القاعدة مدرجين بطول 3505 و3596 مترا، ونحو 33 حظيرة طيران ويحيط بها سياج بقطر 20 كيلومترا مربعا، ومع السياج حزام أخضر من الأشجار يطوّق القاعدة لغرض حجب الرؤية وضمان السرية. وفي حين استخدمت القوات الأميركية قاعدة القيارة عند احتلالها العراق بعد عام 2003 فإنها سلمتها فيما بعد إلى الحكومة العراقية عام 2010 حين بدأ الأميركان يعدون العدة للانسحاب من العراق (أواخر عام 2011). ثم، في يونيو (حزيران) عام 2014 سقطت القيارة بيد تنظيم داعش المتطرف إبان هجومه الواسع في شمال غربي العراق الذي أسفر عن احتلاله الموصل.

أولويات أميركية
واستنادا لهذه الأهمية الاستراتيجية من حيث الموقع والتحصينات الدفاعية التي بنيت القاعدة وفقًا لاعتباراتها منذ نحو أربعة عقود فإن أولويات الاهتمام الاستراتيجي الأميركي بهذه القاعدة، التي تقع في منطقة ذات غالبية سنية مطلقة تقريبا، تسبق أولويات الجانب الحكومي العراقي.
فأولويات الحكومة العراقية برئاسة الدكتور حيدر العبادي تتركز الآن في تحرير الموصل فقط كمحافظة عراقية، في حين يبدو الأمر مختلفا سواء للجانب الأميركي أو الجانب السنّي المتمثل بأهالي تلك المناطق وما باتت تفرزه من زعامات سنّيّة وعشائرية لديها هي الأخرى أولويات. ذلك أن الحكومة العراقية – وفيها ثقل كبير للمكوّن الشعبي – ليست متحمسة لبناء قواعد أميركية في العراق لكنها تغض النظر حاليًا لأسباب يرى المراقبون السياسيون أنها تتمثل في الحاجة إلى الدعم الأميركي لإخراج «داعش».
ثم إن وجود مثل هذه القاعدة يأتي في سياق تقاسم النفوذ بين موسكو وواشنطن، غير أنه بغض نظر إيراني بعدما ضمنت واشنطن لطهران مناطق نفوذ أخرى في العراق، وهذا بالإضافة إلى تراجع الموقف الأميركي (السلبي سابقًا) من مشاركات «الحشد الشعبي» ذي الغالبية الشيعية في المعارك الدائرة حاليًا ضد تنظيم داعش، بما في ذلك معركة الموصل. إذ باتت مشاركة «الحشد الشعبي» اليوم شبه محسومة، والمتوقع أن يكون دوره مشابهًا لدوره في كل من معركتي الرمادي والفلوجة. وهذا يعني أنه سيكون جزءًا من المعركة لكنه قد لا يشارك مباشرة في عملية اقتحام مدينة الموصل التي بدأ أهاليها يشعرون بالخوف والهلع منذ الآن تخوفًا من الحرب القادمة، خصوصًا أن تنظيم داعش بدأ بدوره يحشد أعدادًا كبيرة من مقاتليه فيها.
أما أولوية أهالي الموصل ومحيطها، التي لخصها الزعيم السنّي البارز أسامة النجيفي في حديث أدلى به لـ«الشرق الأوسط» فهي أن يصار إلى إقامة «الأقاليم الفيدرالية لكن على أسس إدارية وليست طائفية». ولقد بيّن النجيفي أنه «يمكن تقسيم محافظة نينوى إلى عدة محافظات ينتظمها إقليم واحد وهو ما ينطبق على محافظات صلاح الدين والأنبار وديالى».

تناقضات في الرؤية
بيد أن أولوية النجيفي تتناقض مع أولويات أخرى لبعض القيادات السنّيّة هناك تعارض هذا التوجه، وهذا ما يلخصه موقف مشعان الجبوري، النائب في البرلمان العراقي عن محافظة صلاح الدين. وللعلم، فإن الجبوري وهو قيادي في «تحالف القوى العراقية» الذي ينتمي إليه أسامة النجيفي نفسه إلا أنه يخالفه في الرؤية والمنهج، وفي تصريحه لـ«الشرق الأوسط» اعتبر أن «الأقاليم الفيدرالية هي وصفة لتقسيم العراق ولن نسمح بها على الإطلاق». وردا على سؤال بأن الدستور العراقي ثبّت الفيدرالية في الكثير من مواده، قال الجبوري إن «الوقت غير مناسب لذلك، حتى لو بدأ الأمر بغطاء دستوري. يضاف إلى ذلك أن هناك مشاريع تقسيم في المنطقة لن نقبل بها، وتركيا التي يؤيدها السيد النجيفي جزء من هذه الترتيبات».
من جانبها، فإن الولايات المتحدة الأميركية التي قررت إرسال 560 جنديًا إلى قاعدة القيارة التي هي الآن قيد الإعداد وصل منهم الأسبوع الماضي 400 جندي، تعد العدة الآن لمعركة الموصل لأن الترتيبات المستقبلية في قاعدة القيارة و«الجائزة الكبرى» لهيلاري كلينتون تتوقف على خطة تحرير الموصل. ومن أجل تطبيق الرؤية الأميركية على أرض الواقع أرسلت واشنطن الكثير من الوفود الرفيعة المستوى إلى بغداد، مثل وزراء الخارجية والدفاع وقائد القيادة المركزية الأميركية والناطق باسم التحالف الدولي ورئيس هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأميركية وذلك بهدف تهيئة كافة الاستعدادات للمعركة الفاصلة.
وهنا تبدو بغداد، على لسان المتحدث الإعلامي بمكتب رئيس الوزراء سعد الحديثي، مهتمة بهذه الرؤية. إذ يقول الحديثي لـ«الشرق الأوسط» إن «الاهتمام الأميركي في تحرير الموصل يتمثل في مستوى الدعم المتواصل الذي بدأت تقدمه واشنطن للعراق، وهو ما يتضح من خلال ما تجريه الإدارة الأميركية من اتصالات مع رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي تعده واشنطن شريكا رئيسيا لها في مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى أنها تدرك أن العراق بات يمثل الخط الأمامي في المواجهة ضد تنظيم داعش. وبالتالي، فإن هناك طمانة أميركية مستمرة للعراق بالوقوف إلى جانبه في مختلف الجوانب، وهو ما ترك أثره على طبيعة ومستوى الإعداد للمعركة من مختلف جوانبها».

دور القاعدة الاستراتيجي
ومما يستحق الإشارة، أن وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر كان قد أعلن أن الرئيس أوباما سينشر 560 عسكريًا أميركيًا إضافيًا في العراق للمساعدة في تحرير الموصل من تنظيم داعش على أن تكون وجهة هؤلاء الجنود نحو قاعدة القيارة. وطبقا لما نقلته صحيفة «نيويورك تايمز» الحسنة الاطلاع فإنه «بهذا العدد الإضافي سيصل مجموع القوات الأميركية في العراق إلى 4647 عسكريًا، ومن ثم سيتم نشر الكثير من هذه القوات في مطار قاعدة القيارة». وأضافت الصحيفة نقلا عن كارتر أن «القادة العسكريين الأميركيين يعتزمون استخدام قاعدة القيارة الجوية كمطار ومنطقة انطلاق لتقديم الدعم اللوجستي للقوات العراقية المتقدمة نحو الموصل، فيما يوجد متخصصون في دعم البنية التحتية، مثل الجسور، التي سيحتاجها العراقيون في الهجوم على الموصل بسبب تدمير (داعش) الكثير منها في المدينة».
أيضًا، في سياق هذه الترتيبات فإن معركة الموصل المتوقع انطلاق صفحتها الرئيسية مطلع سبتمبر (أيلول) المقبل صرح مصدر مطلع رفيع المستوى لـ«الشرق الأوسط» بأن واشنطن سوف تبدأ باستخدام طائرات الأباتشي المتطورة في معركة الموصل بدءا من شهر سبتمبر المقبل بالإضافة إلى النصيحة التي قدمها الأميركان للقيادة العراقية بالإبقاء «على قضاء الشرقاط محاصرا دون قتال الأمر الذي سوف يجبر عناصر تنظيم داعش الموجودين فيه حاليًا على الهرب، كما أن من شأن ذلك تجنب عمليات النزوح الهائلة التي يمكن أن ترافق العمليات القتالية ما قد يؤخر عملية التقدم نحو الموصل».

مطامح الأكراد والشيعة
أما بالنسبة لمفهومي الاختلاط والتمدد في الموصل شيعيًا وكرديًا، فإنه في الوقت الذي تبدو خطة إيران غير واضحة المعالم، وهي تعتمد على التمدد والتوغل تحت أغطية مختلفة منها حماية أبناء المذهب الشيعي في تلك المناطق ذات الغالبية السنّيّة، فإن الوضع الكردي مختلف حيث يقوم على أساس ما يعتبره «عائدية جغرافية». فالقوميون الأكراد المتشددون يتعاملون مع هذه المناطق على أنها تتبع «إقليمهم» بصرف النظر عن التنوع السكاني فيها، مع العلم أنه يعيش في هذه المناطق الأكراد والعرب والمسلمون والمسيحيون، وبالتالي، فإن الجغرافيا هي التي تحكم العلاقة المستقبلية مع إقليم كردستان في تلك المناطق.
وعلى صعيد آخر، يجمع الخبراء العسكريون والاستراتيجيون على أن قاعدة القيارة ذات أهمية استراتيجية سواء اليوم على صعيد الحرب على «داعش» - وسط التحضيرات الجارية الآن لخوض معركة الموصل الفاصلة والتي لا يمكن كسبها ما لم يتم انطلاق الطائرات منها - أو على صعيد الترتيبات المستقبلية. فبالنسبة لعمليات الطيران فإن الطائرات الحربية التي ستنطلق من القاعدة سوف لن تحتاج إلى إعادة التزود بالوقود نظرا لقرب المسافة. كما أنها يمكن أن تؤدي هدفها بسهولة ويسر على صعيد تكثيف الضربات الجوية التي أثبتت الحرب ضد «داعش» في العراق خلال السنتين الماضيتين أن الطيران كان ولا يزال العامل الحاسم في ترجيح كفة المعركة لدى الجانب العراقي على الرغم من الأهمية القصوى التي ينطوي عليها موضوع السيطرة على الأرض في الحروب.
ولكن في المعارك التي جرت ضد «داعش»، بما في ذلك المعارك التي أمكن فيها استعادة مدن مهمة مثل تكريت والرمادي والفلوجة، فإنه لولا الجهد الجوي خصوصًا جهد طيران التحالف الدولي المتمثل في ضرب أهداف التنظيم من حيث التجمعات والمخازن والأعتدة وقوافل السيارات والدبابات في الصحراء، لما تم تحقيق النصر في معارك لا تستند إلى قواعد الحرب التقليدية التي هي عبارة عن مواجهة بين جيشين.
كذلك، فإن الموقع الذي تحتله القاعدة بين محافظتي صلاح الدين والموصل، خصوصًا في مناطق شمال محافظة صلاح الدين وصولا لمدينة الموصل، سيكون له الدور الأبرز في المعارك المقبلة ضد التنظيم، لا سيما أن القوات الحكومية العراقية تمكنت أخيرا من استعادة ناحية القيارة (16 كم شمال القاعدة) التي تتبع لها القاعدة من الناحية الإدارية.
لهذه الأسباب والعوامل السابقة الذكر كلها جاء السعي الأميركي للسيطرة على هذه القاعدة، ومن ثم إعادة تأهيلها، لكي تضاف إلى قواعدها الأخرى في العراق مثل عين الأسد في الأنبار وبلد في صلاح الدين. وطبعًا يضاف إلى ما تقدم أن السيطرة على هذه القاعدة سيساعد في تمترس القوات البرية وتحصنها داخلها. وبذلك تشكل عقدة عسكرية مهمة ضد التنظيم. وهنا نشير إلى طريقين يربطان القيارة بالموصل: الأول هو طريق بغداد - الموصل وهو طريق سريع باتجاهين، والثاني طريق قديم ذو ممر واحد محاذ لنهر دجلة، وهذا، فضلا عن قربه من بلدة مخمور حيث مقر قيادة عمليات تحرير نينوى.
وبعد استعادة السيطرة على ناحية القيارة بعد نحو شهرين من استعادة قاعدتها الجوية فإنه لم يعد يفصلها عن الموصل سوى ناحيتي الشورة وحمام العليل وما يتبعهما من قرى. والمرتقب أنه لن يقف الأمر عند هذا الحد، إذ إن البعد النفسي سيكون في غاية الأهمية لدى سكان تلك المناطق الذين كانوا قبل سيطرة «داعش» يرتدون «الجينز» ويدخنون السجائر وينصبون «الستلايت» ويستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، وكل هذه أمور حرّمها التنظيم المتطرف بعد فرضه سيطرته على تلك المناطق.
هذا يعني أن عملية التحرير ما عادت ترتبط بالبعد السياسي الملتصق بالسيادة الوطنية بل ترتبط أيضًا بالحريات الشخصية التي كانت متاحة للسكان بلا حدود، والتي سلبها «داعش» أيضًا بلا حدود.. وبمجموعة إجراءات تعسفية ولدت حالة من الاحتقان والاختناق. ما جعل أبناء تلك المناطق يرحبون بأقوى جهاز أمني عراقي كانوا على خلاف عميق معه قبل عام 2014 وهو جهاز مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى ترحيبهم بالأميركان الذين طالما قاوموهم بعد عام 2003 وحتى انسحابهم من العراق عام 2011.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.