كنوج.. عاصمة صناعة العطور في الهند منذ 5 آلاف سنة

250 معملاً تعمل منذ العصور الوسطى بالطريقة والمعدات نفسها

تعبأ العطور بعد تقطيرها في أوعية من جلد الجاموس - تستخدم أفخر أنواع القوارير - عطر ميتي - عطور خالية من الكحول
تعبأ العطور بعد تقطيرها في أوعية من جلد الجاموس - تستخدم أفخر أنواع القوارير - عطر ميتي - عطور خالية من الكحول
TT

كنوج.. عاصمة صناعة العطور في الهند منذ 5 آلاف سنة

تعبأ العطور بعد تقطيرها في أوعية من جلد الجاموس - تستخدم أفخر أنواع القوارير - عطر ميتي - عطور خالية من الكحول
تعبأ العطور بعد تقطيرها في أوعية من جلد الجاموس - تستخدم أفخر أنواع القوارير - عطر ميتي - عطور خالية من الكحول

تعد مدينة كنوج بولاية أوتار براديش الهندية مركزًا تاريخيًا لصناعة العطور من شتى أنواع الأزهار والأعشاب منذ ما يزيد على 5 آلاف سنة؛ تحديدًا عصر حضارة وادي السند.
وتتميز كنوج داخل الهند بمكانة تكافئ تلك الخاصة بمدينة غراس بفرنسا، بمعنى أنها عاصمة العطور على مستوى البلاد.
اليوم، إذا ما سرت عبر شوارع المدينة، سيكون بمقدورك رؤية واجهات دور إنتاج العطور المتداعية التي يعود تاريخها إلى قرون مضت التي تضفي على المدينة بأسرها صبغة مميزة تحمل عبق العصور الوسطى. بصورة إجمالية، تضم كنوج أكثر من 250 معملا لإنتاج العطور، ويبدو أن المدينة بأكملها تشترك بصورة أو بأخرى في عملية صناعة العطر.
وداخل سوق فيجاي، التي تغلب عليها حالة فوضوية، تنهمك الأيدي والأنوف في مزج عناصر نادرة وفريدة لصناعة عطور مميزة، في الوقت الذي ينشغل فيه آخرون في ترتيب أكوام من الزهور والأعشاب بهدف استخدامها في إنتاج مثل هذه الروائح المتميزة التي ربما لا يوجد لها مثيل على سطح الكوكب بأكمله.
ومع تنقلك عبر جنبات السوق، يحرص أصحاب المتاجر على الخروج للترحيب بك عبر إلقاء قطرات خفيفة عليك من مختلف أنواع الروائح والعطور: الياسمين والورد وتشامباك وكيوره وثلاثة أنواع مختلفة من اللوتس والخولنجان وغاردينيا وبلوميريا واللافندر وروزماري والغرنوقي، وكثير من النباتات الأخرى التي ربما لم تسمع بها قط. واللافت أن كثيرا من العطور التي تنتجها المدينة لم يطرأ عليها أدنى تغيير عما كانت عليه في الحقبة المغولية.

تاريخ العطور
من المعتقد أن كنوج كانت تقع مباشرة على الطرق التي جرت العادة على استخدامها في نقل العطور والتوابل والمعادن والحرير والأحجار الكريمة من الهند إلى الصين والشرق الأوسط. كانت المدينة قد بلغت ذروة مجدها وتألقها خلال القرن السابع الميلادي عندما أصبحت عاصمة للإمبراطورية التي قادها هارشا فاردهان. وفي تلك الفترة، بدأت في الاضطلاع بدور مهم في عالم صناعة العطور. ولاحقًا، شجع المغول على صناعة العطور، لدرجة دفعت الإمبراطور «أكبر» لاستحداث وزارة مخصصة لهذه الصناعة.
من جهتها، أوضحت قمر علام علي، التي تتولى إدارة مؤسسة «أزام علي علام علي للعطور»: «تملك العطور القدرة على التأثير على الذهن وتجديد نشاطه. وقد ورد ذكر العطور الطبيعية (الخالية من الكحول) في القرآن الكريم. كما أن عبقها الساحر يساعد في جعل المكان مناسبًا لإقامة الصلاة».
يذكر أن قمر متزوجة منذ أربعة عقود من شخص ينتمي لعائلة تعمل بمجال صناعة العطور، وتعد بمثابة موسوعة بشرية بمجال العطور وأسرار صناعتها، وقد أشارت إلى أن وصفات إعداد العطور العتيقة لا تزال من الأسرار التي يحرص جميع أفراد العائلة على التكتم عليها. وقد توارثت الأجيال واحدًا بعد الآخر مهارة صناعة العطور ومزجها.
من ناحية أخرى، فإن الغالبية العظمى من المقيمين في كنوج يرتبطون بصورة أو بأخرى بصناعة العطور؛ بدءًا من الحرفيين الذين يتولون تسخين الأوراق التويجية للزهور والورود على البخار فوق نيران متصاعدة من خشب محترق، داخل أوان نحاسية ضخمة، وصولاً إلى الأمهات اللائي يقمن بلف عصي البخور في الظل، بينما يستلقي أطفالهن بالجوار.
وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، قال شاكي فيناي شوكلا، مدير المركز الهندي لتنمية العطور والنكهات: «لا يزال يجري إنتاج عطور كنوج بنفس الأسلوب تمامًا الذي كان متبعًا منذ قرون، بل وبالمعدات ذاتها».
والملاحظ بالفعل أنه لم يطرأ أدنى تغيير على صناعة العطور منذ قرون ماضية، خصوصا أن جميع المحاولات للاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة في صناعة العطور داخل المدينة باءت بالفشل. كما أن «ديغ بهبكاس» (الأواني المستخدمة في صنع العطور) داخل كنوج تتميز بالتصميم نفسه الذي جرى استخدامه في حضارة وادي السند.
يذكر أنه جرى التنقيب والكشف عن كثير من أجهزة التقطير المستخدمة في صناعة العطور والمنتمية لحقبة حضارة وادي السند بمواقع تقع داخل الأراضي الباكستانية الآن، ومحفوظة حاليًا في متحف تاكسيلا بمدينة لاهور الباكستانية.

العملية
عندما تصل كمية جديدة من الزهور، يضع العاملون كميات ضخمة من الورود أو الياسمين أو الأوراق التويجية الأخرى في أوعية ضخمة، ويغمرونها بالماء، ثم يضعون غطاءً على رأس الإناء، ويحكمون إغلاقه بالطين. بعد ذلك، يشعلون مجموعة من الأخشاب أسفل القدر، ويضيفون إلى الوعاء زيت خشب الصندل الذي يعمل أساسا للعطور. ينقسم الوعاء إلى جزأين عبر أنبوب مجوف من خشب الخيزران، ويعمل الأنبوب على نقل البخار المتصاعد من الجزء الكبير من الوعاء الذي يضم الأزهار أو الورود لينقلها إلى جزء آخر يضم زيت خشب الصندل. وبوجه عام، تتطلب عملية صناعة العطور قدرا كبيرا من الصبر والمهارة، خصوصا أن النباتات عادة ما يجري تقطيرها في آنية نحاسية ضخمة يجري تسخينها فوق نار تتصاعد من أخشاب محترقة.
ويسهم مزيج الخشب والمعدن في إضافة رائحة مميزة إلى العطر، تصعب محاكاتها عبر استخدام الآلات الحديثة.

عطر الورد الشهير
ورد ذكر صناعة العطور في السيرة الذاتية للإمبراطور المغولي «أكبر»، التي وضعها أبو الفضل، وجرى اكتشافها حديثًا بمحض الصدفة. كان أحد الخدم في قصر الإمبراطور المغولي قد لاحظ وجود بعض قطرات من زيت الورد تطفو فوق السطح داخل حوض استحمام الملكة. وخلص الرجل، وكان من كنوج، إلى أن الزيت ينشأ عن اتصال الأوراق التويجية للوردة مع الماء الدافئ، ونجح في صياغة تصور لعملية التبخير والتكثيف لاستخراج هذا الزيت.
وحتى اليوم، فإنه من أجل استخراج رائحة «روح القلوب» الشهيرة، يجري التقاط براعم الورود يدويًا قبل الفجر ووضعها في إناء ضخم مفتوح. وتستغرق عملية استخراج الزيت من طن واحد من الورود ما يزيد على الشهر ولا توفر سوى بضعة ملليغرامات قليلة من الزيت.
وعن هذا، قالت قمر: «يقال إن كل نقطة من هذا الزيت تعادل وزنها ذهبًا»، مشيرة إلى أن بعض الشخصيات من منطقة الشرق الأوسط تطلب من شركة «باكارا كريستال» الفرنسية المعنية بإنتاج الأواني الكريستالية الفاخرة، توفير زجاجات جميلة لتخزين العطر.
من جانبه، ينتج فيجاي فيرغيا، الذي يعمل بمجال العطور ويمثل الجيل الخامس من عائلته يعمل بالمجال ذاته، أكثر من 700 زجاجة من الزيوت الأساسية ومشتقاتها. كان فيرغيا قد درس صناعة العطور بمدينة غراس في فرنسا، ونجح في مزج روائح تقليدية بأخرى حديثة، وتوصل إلى سبل فريدة لجعل الحياة العادية اليومية أكثر عطرًا.
وأوضح فيرغيا أن «مثل هذه النوعية من العطور تحظى بإقبال كبير من جانب صفوة أثرياء الشرق الأوسط الذين يبدون استعدادهم لدفع مبالغ كبيرة مقابل الحصول على عطور تبقى ملاصقة للجسد وكأنها طبقة ثانية من الجلد».
تقليديًا، يجري تخزين العطور في جيوب مصنوعة من جلود الجمال بعد تقطيرها. أما الآن، فأصبح يجري تخزينها في قوارير مصنوعة من جلود الجاموس.
أما العكر المستخرج من عملية التقطير الأخيرة، فيوضع تحت أشعة الشمس، بحيث تتبخر منه المياه الزائدة ويتحول العطر إلى مركب دافئ وعضوي وغني بالمعادن.

رائحة المطر
بجانب العطور القديمة التي لطالما اشتهروا بها، ورث أبناء كنوج عن أجدادهم مهارة متميزة: بإمكانهم الاحتفاظ برائحة الأمطار الهندية - تحديدًا رائحة الأرض بعد سقوط المطر عليها - في صورة عطر يعرف باسم «ميتي».

كيف يصنع عطر «ميتي»؟
عملت أسرة سيارام في بيع رائحة الأرض بعد امتزاج الأمطار بها من قطعة أرض تقع خلف منزلهم، إلى جهات محلية تعمل بمجال صناعة العطور. خلال فترة الأمطار الموسمية، تغطي هذه القطعة من الأرض الأمطار، بعد أن تكون قد جفت خلال فترة الصيف. ويعمد أفراد أسرة سيارام - الأب والأم والأطفال - إلى استخدام عصي خشبية في كسر قطع من الأرض الجافة وصب الماء عليها من بحيرة بالجوار بالاعتماد على مضخة تعمل بالديزل، مع العمل على تقسيم شكل قطع الأرض إلى أقراص، التي يقومون بتسخينها لاحقًا داخل موقد بدائي، ثم يغمرونها بالماء داخل قدور نحاسية، والتي تغلق بالطمي بعد ذلك. وبعد هذا، توقد نار أسفل القدور تعتمد على روث الأبقار كوقود لها، وينتقل البخار عبر أنابيب الخيزران ليجري تكثيفه في إناء آخر يضم زيت خشب الصندل ليتكون العطر. ولا ينتهي العمل من إعداد عطر «ميتي» إلا بعد أن يجري صبه داخل قارورة خاصة مصنوعة من جلد الجمال أو الجاموس تدعى «كوبي»، ويغلق عليه بالداخل.
من ناحيته، أوضح أشفق، الذي يشكل الجيل الـ16 من عائلته الذي يعمل بهذا المجال، أن عطر «ميتي» الذي لا يجري تخزينه في «كوبي» يفسد. وأبدى أشفق الذي تخرج في مدرسة عامة، قلقه إزاء تقنيات التصنيع الحديثة، خصوصا أي شيء يتعلق بالبلاستيك. وأضاف مؤكدًا أن «اللحظة التي تضع فيها العطر داخل قارورة جلدية بالغة الأهمية، بل لا تقل أهمية عن اللحظة التي تضع العطر على جسدك، حيث تسمح القارورة الجلدية للعطر بالتخلص من أي رطوبة متبقية به وامتلاك الرائحة الحقيقية المرغوبة؛ وهي في هذه الحالة رائحة المطر الممزوج بالأرض».
من ناحية أخرى، أعرب بعض مالكي محلات العطور عن اعتقادهم بوجود فوائد علاجية لعطر «ميتي»، مشيرين إلى أنه يسهم في علاج من يعانون من اضطرابات ذهنية.
وعن هذا، قال أشفق: «هناك أمر ما بخصوص هذا العطر يساعد في تهدئة الأعصاب وبث روح من النشاط بها. وقد ورثنا هذه المعلومة عن أجدادنا القدامى».

العطور المعتمدة على خشب الصندل
كما سبق أن أشرنا، يعتمد مصنعو العطور في كنوج على زيت خشب الصندل بوصفه مادة تشكل القاعدة للعطور التي ينتجونها، لما يتمتع به من خاصية ثبات قوية وقدرته على الإبقاء على العطر الخاص بالورود أو الأزهار المستخدمة لفترة طويلة.
وعليه، عندما تسير عبر شوارع كنوج يخالجك شعور بوجود معمل لتقطير زيت خشب الصندل عند كل ناصية، ذلك أن عبق خشب الصندل يملأ الأجواء. وكل صباح، تحرص مجموعة من الرجال على الاستحمام في المياه التي تخلص منها أحد معامل التقطير ولا تزال تحمل جزيئات خشب الصندل.
من بين هؤلاء، بوشبراج الذي أعرب عن اعتقاده بأن بقايا خشب الصندل الممتزجة بالمياه تساعد في الوقاية من الأمراض.

الطريقة المثلى لوضع العطر
احرص على تجنب استنشاق العطر مباشرة من القارورة، فنظرًا لأن العطر مكثف للغاية، فإن نقطة واحدة منه كافية للغاية لتعطير الجسد بأكمله. أما الطريقة المثلى لوضع العطر، فهي حك أطراف الأصابع في نقطة منه ومسحها برفق على الملابس.
جدير بالذكر أن مصنعي العطور في كنوج ينتجون ما بين 8 آلاف و10 آلاف برميل من العطور يوميًا، حسب موسم الأزهار. ويضم كل برميل قرابة مائتي لتر من العطر.
أما الوجهات الرئيسة للتصدير، فهي دول الشرق الأوسط وأوروبا واليابان والصين والولايات المتحدة، علاوة على قرابة 50 دولة أخرى بشتى أرجاء العالم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)