مصر تودع صاحب نوبل في الكيمياء بجنازة عسكرية

دعوات للتبرع لـ«جامعة زويل» لتحقيق حلم العالم الكبير بعد وفاته

جثمان زويل ملفوفًا بعلم مصر فوق عربة تجرها الخيول - السيسي معزيًا أسرة الفقيد  - جثمان الفقيد يشيع إلى مثواه الأخير - قلادة النيل.. أرفع وسام مصري حصل عليه زويل - الرئيس السيسي وكبار رجال الدولة يتقدمون جنازة زويل  (تصوير: أحمد حشاد)
جثمان زويل ملفوفًا بعلم مصر فوق عربة تجرها الخيول - السيسي معزيًا أسرة الفقيد - جثمان الفقيد يشيع إلى مثواه الأخير - قلادة النيل.. أرفع وسام مصري حصل عليه زويل - الرئيس السيسي وكبار رجال الدولة يتقدمون جنازة زويل (تصوير: أحمد حشاد)
TT

مصر تودع صاحب نوبل في الكيمياء بجنازة عسكرية

جثمان زويل ملفوفًا بعلم مصر فوق عربة تجرها الخيول - السيسي معزيًا أسرة الفقيد  - جثمان الفقيد يشيع إلى مثواه الأخير - قلادة النيل.. أرفع وسام مصري حصل عليه زويل - الرئيس السيسي وكبار رجال الدولة يتقدمون جنازة زويل  (تصوير: أحمد حشاد)
جثمان زويل ملفوفًا بعلم مصر فوق عربة تجرها الخيول - السيسي معزيًا أسرة الفقيد - جثمان الفقيد يشيع إلى مثواه الأخير - قلادة النيل.. أرفع وسام مصري حصل عليه زويل - الرئيس السيسي وكبار رجال الدولة يتقدمون جنازة زويل (تصوير: أحمد حشاد)

ودعت مصر، أمس، العالم أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء، في جنازة عسكرية مهيبة، تقدمها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكبار قادة الدولة. وسط دعوات ومبادرات لاستكمال مشروعه العلمي الكبير بالتبرع لـ«جامعة زويل»، التي بدأ في إنشائها بالقاهرة قبيل سنوات من وفاته.
وتوفى زويل في الولايات المتحدة عن 70 عاما، يوم الثلاثاء الماضي، بعد صراع مرير مع مرض السرطان، ووصل جثمانه إلى القاهرة صباح يوم السبت، حيث أوصى العالم المصري بدفنه في مصر.
وسُجي جثمان الفقيد ملفوفا بعلم مصر فوق عربة تجرها الخيول يتقدمها عسكريون بأطواق من زهور، وعرض للموسيقى العسكرية، وتم تشييعه من مسجد «المشير طنطاوي» بالقاهرة الجديدة، بحضور الرئيس السيسي والمهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء، والدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، والفريق أول صدقي صبحي القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي، والرئيس السابق المستشار عدلي منصور، والدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار علماء المسلمين مفتى الجمهورية السابق، وعدد من كبار رجال الدولة، فضلاً عن أسرة زويل.
وعقب انتهاء الجنازة العسكرية، انتقل جثمان الفقيد إلى مقر مدينة «زويل للعلوم والتكنولوجيا»، حيث شيعه حشد من الأساتذة والعلماء الذين زاملوا الفقيد الراحل، إلى جانب مجموعة كبيرة من المواطنين والطلاب، وحضور إعلامي مكثف من جانب القنوات الفضائية ومراسلي وكالات الأنباء العالمية والصحف. قبل أن يتم دفنه في مقابر الأسرة بمنطقة الواحات بمدينة «6 أكتوبر».
وخلال الجنازة ارتدى الطلاب قمصان (تي شيرتات) حملت اسم العالم الراحل، إلى جانب باقات من الورود تقدمت السيارة التي حملت جثمان الدكتور زويل.
والعالم الراحل أحمد زويل، فاز بجائزة نوبل عام 1999، لأبحاثه الرائدة في علوم «الفيمتو»، والتي أتاحت مراقبة حركات الذرات أثناء التحولات الجزيئية في زمن الفيمتو ثانية، وهو جزء من مليون مليار جزء من الثانية.
وولد زويل في مدينة دمنهور عام 1946، وحصل على شهادته الجامعية في مصر قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة ويحصل على درجة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا، وبعد ذلك حصل على زمالة مرحلة ما بعد الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في مدينة بيركلي، قبل أن يلتحق بهيئة التدريس في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
وعام 2009 عينه الرئيس الأميركي باراك أوباما في المجلس الاستشاري الرئاسي في البيت الأبيض، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من نفس العام عُين كأول مبعوث علمي للولايات المتحدة إلى دول الشرق الأوسط.
ونال زويل عدة أوسمة وجوائز من دول كثيرة، ونال 50 درجة فخرية في مجالات العلوم والفنون والفلسفة والقانون والطب والآداب الإنسانية، ومُنح أكثر من 100 جائزة عالمية من بينها جائزة ألبرت أينشتاين العالمية، ووسام بنجامين فرانكلين، وجائزة ليوناردو دافنشي، وجائزة الملك فيصل، وميدالية بريستلي.
ومنحته فرنسا وسام جوقة الشرف الوطني برتبة فارس، وأنشئت أيضا جوائز عالمية تحمل اسمه، وأنشئت مؤسسة تحمل اسمه وتعمل على دعم نشر المعرفة، وكان عضوا منتخبا في عدد من الجمعيات والأكاديميات العلمية، ومن بينها جمعية الفلسفة الأميركية والأكاديمية الوطنية للعلوم، والجمعية الملكية في لندن، والأكاديمية الفرنسية، والأكاديمية الروسية، والأكاديمية الصينية، والأكاديمية السويدية.
ورشح بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، زويل، لعضوية المجلس الاستشاري العلمي للأمم المتحدة، والذي يقدم المشورة في مجال العلم والتكنولوجيا والابتكار، من أجل تحقيق التنمية المستدامة. وفي مصر حصل زويل على وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، وعلى قلادة النيل العظمى وهي أرفع وسام مصري.
وكان الرئيس السيسي قد كلف القوات المسلحة، باستكمال مشروع «جامعة زويل» العلمية، تقديرا لجهود العالم الراحل الدكتور أحمد زويل. ودعا السيسي الشعب المصري لدعم الجامعة التي تحتاج ما لا يقل عن 4 مليار جنيه لاستكمالها، والتبرع لصالحها عن طريق حساب خاص تابع لصندوق «تحيا مصر».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)