ميليغان.. المعلم المستعد دائما للبكاء

حول الجامعة إلى تجربة عقلية وعاطفية عميقة

جيفري ميليغان
جيفري ميليغان
TT

ميليغان.. المعلم المستعد دائما للبكاء

جيفري ميليغان
جيفري ميليغان

كان أبي يجيد إلقاء القصص والحكايات المدعومة بأبيات الشعر في مجلسه الخاصة والمجالس التي كان يرتادها. كانت حكاياته محلية ومن إطاره الثقافي الخاص، وكثير منها من تجربته الشخصية. في بعض الأحيان، كان أبي يتفاعل بشدة مع أحداث قصته لدرجة أن يبكي وتتساقط دموعه وتحمر عيناه. كان هذا المشهد يقلقني كثيرا وأنا صغير. من جهة لم أكن أحب أن يبكي أبي أمام الناس؛ فالبكاء كان علامة ضعف لا تليق بالرجال، فقد تربينا ونحن صغار على أن البكاء للنساء وليس للرجال. من جهة أخرى، كنت لا أفهم بكاء أبي على قصة لم يكن طرفا فيها وكانت قد حدثت قبل زمن طويل. كنت أقول في نفسي: لماذا تبكي والموضوع قد انقضى ولم يعد مهما اليوم! من المهم هنا القول إن تلك الحكايات التي أبكت أبي لم تكن عن أمه التي رحلت وهو رضيع، ولا عن أبيه الذي رحل وهو في طفل في السابعة من ، ولا عن ابنه الأول الذي مات صغيرا. لم تكن القضايا التي تبكيه شخصية، بل كان يبكي مع آخرين لا نعرفهم ولم نلتقهم يوما من الأيام.
أثناء دراستي الحالية في أميركا، عشت مشهدا مشابها لمشهد مجلس أبي، تكرر لأكثر من مرة في قاعة المحاضرات. في أكثر من مناسبة، شهدنا حالة بكاء في القاعة. هذا البكاء مختلف تماما عن بكائنا من تعذيب المعلمين الذي تعرضنا له ونحن أطفال في المدارس، هذا البكاء إنساني ورقيق ومريح للنفس. أحد هؤلاء الذين أفعموا المحاضرات بعاطفة البكاء هو الدكتور جيفري ميليغان أستاذ فلسفة التربية في جامعة ولاية فلوريدا. سافر ميليغان لجنوب الفلبين في منتصف الثمانينات لتعليم الإنجليزية ليعثر هناك على السؤال الذي سيقضي فيه باقي اهتمامه الأكاديمي: مسلمو جنوب الفلبين ودور التعليم الديني في الحفاظ على الهوية الإسلامية. ألف في هذا السياق كتابه المهم «الهوية الإسلامية.. ما بعد الاستعمار وسياسات التعليم في جنوب الفلبين». كان ميليغان قد حصل قبل ذلك على الماجستير في الأدب الإنجليزي ليعود بعد ذلك ويحصل على الدكتوراه في فلسفة التربية تحديدا في علاقة التعليم العام بالدين في أميركا. نعلم أن التعليم الحكومي الأميركي يمنع تدريس الدين حفاظا على حياد الدولة تجاه التنوع الديني في المجتمع الأميركي. ميليغان له رأي مخالف لهذه السياسة، ويعتقد أن المدرسة يجب أن تهتم بالدين، لأن الدين في النهاية عامل مهم في حياة كثير من الطلاب والطالبات. لا يرغب ميليغان هنا في أن تتبنى المدرسة توجها دينيا معينا وتربي الأطفال عليه بقدر ما يسعى أن يكون الدين موضوعا للجدل والنقاش والقراءة النقدية داخل النشاط المدرسي. على المستوى الفلسفي، تأثر ميليغان بتوجهين فلسفيين رئيسين: الأول الفلسفة البراغماتية التي عبر عنها جون ديوي. في هذه الفلسفة، تأتي خبرة الطلبة كأساس تنطلق منه كل فلسفة التربية. التعليم هنا هو تعليم يخططه الأطفال ويبقى وفيا لتجربتهم الحياتية. في هذه الفلسفة، لا يتحول تعليم الأطفال إلى أداة تحقق أهداف غيرهم. العامل المؤثر الثاني هو فلسفة الفيلسوف الأميركي كورنيل ويست، وهو فيلسوف ورجل دين أميركي معاصر يسعى لإعادة التجربة الدينية للب الجدل العمومي الأميركي والعالمي.
ما يهمني هنا أكثر من غيره هو ميليغان المعلم. نادرا ما يحظى المعلمون بالاهتمام كشخصيات عمومية، ولكن تجربة التعليم جوهرية في حياة كل إنسان ومن اللامنطقي إبقاؤها في الهامش. ميليغان كمعلم شخصية حوارية بامتياز. بمعنى أن المحاضرة تتأسس على شبكة مذهلة من التواصل الجماعي. لا يعني هذا أنه فقط يتيح حرية الحديث للجميع، بل أهم من ذلك أن ما يقوله الطلاب هو ما يحرك المحاضرة. بمعنى أن ميليغان يؤسس حركة المحاضرة على النقاط التي يطرحها الطلاب والتعابير التي يستخدمونها. التعبير الذي يطرحه الطالب يبدو هنا في يد أمينة تحتفي به وتعود إليه في فترات متعددة من المحاضرة. مع ميليغان، نحن مع سقراط طيب، أي مع سقراط الحواري دون تلك الرغبة في الحجاج المركز الذي يقوم على كشف عيوب الأفكار. محاضرته أهدأ من هذا الجو الحجاجي المباشر، فكثير من طالبات وطلاب هذا التخصص ممن ليست لديهم خلفية أكاديمية في القضايا الفلسفية.
ميليغان يتفاعل بعمق مع كثير من القضايا التي يناقشها في المحاضرة، لدرجة أنه يبكي تحت تأثير بعض التعابير والقصص. مع ميليغان، يبدو أنني أفهم بشكل أوسع ما لم أفهمه في مجلس أبي. تحديدا أن الإحساس بمعنى وقيمة الأفكار والأحداث يجعلها قريبة منا جدا، يجعلها جزءا من تجربتنا العاطفية، يجعلها جزءا من تجربتنا الخاصة، يجعلها لنا تحديدا، وإن بدت عن آخرين، بعيدا عنا هناك. من عادات ميليغان المحببة أن يقرأ نصوصا لطلابه، نصوصا شعرية وفكرية يختارها من قراءاته الخاصة. حين يقرأ تلك النصوص تشعر بتفاعله واختلاف نبرات صوته وتغير ملامح وجهه وقدوم دموعه للمشاركة في الحوار. في تلك الأجواء، ترتفع معدلات مشاركتي الوجدانية لما أدرس بشكل مذهل، في هذه اللحظات يلتقي الفكر بالواقع وتتحول الجامعة إلى تجربة عقلية وعاطفية عميقة. في مثل هذه اللحظات، يتلاشى الفاصل الممل والمحزن والمؤسف بين الفكر والواقع، بين النظرية والتطبيق، بين الدراسة والحياة. يبدو أن الحد من تلك الفجوة وذلك الفاصل يتحقق في استحضار الناس وتجاربهم كموضوعات وهدف لدراستنا. أي أن ترتبط الدراسة بما يشعر به الناس، ما يفكرون به، مما يعني لهم الكثير. تجارب الناس المكتوبة والمنقولة هي وسيلتنا للوصول لتلك المعاني. هنا تأتي قيمة الأدب والشعر وفلسفة الخبرة للوصل بين المعرفة والحياة. محاضرة ميليغان كما مجلس أبي كانت مجالا مفعما لتلك التجارب. لكن محاضرة ميليغان على خلاف مجلس أبي كانت مساحة حرة للحوار والاختلاف والتنوع والتعدد.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)
جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم مساء السبت، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

وبعد اختتام مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي أُقيم بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر «بيت الفلسفة» بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة؛ اجتمع أعضاء «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» في مقرّها بـ«بيت الفلسفة»، وأصدروا بياناً دعوا إلى تأسيس نواة «اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية»، ومقرّه الفجيرة، وتشجيع الجمعيات على الانضمام إلى «الفيدرالية الدولية للفلسفة».

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وأكد البيان أهمية مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج العربي، مثل مشكلة الهوية وتعزيز الدراسات حولها.

ودعا للسعي إلى «الإضاءة على الفلسفة في العالم العربي وتمييزها من الفلسفة الغربية؛ لأنّ هدف بيت الفلسفة المركزي تعزيز الاعتراف بالآخر وقبوله».

كما دعا البيان إلى تعزيز دائرة عمل «حلقة الفجيرة الفلسفيّة»، بما يضمن تنوّع نشاطها وتوسّع تأثيرها؛ بدءاً بعقد جلسات وندوات شهريّة ودوريّة من بُعد وحضورياً، ومروراً بتعزيز المنشورات من موسوعات ومجلّات وكتب وغيرها، وانتهاء باختيار عاصمة عربيّة في كلّ سنة تكون مركزاً لعقد اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفيّة» بإشراف «بيت الفلسفة».

وأكد توسيع دائرة المشاركين خصوصاً من العالم الغربي؛ بحيث يُفعّل «بيت الفلسفة» دوره بوصفه جسراً للتواصل الحضاري بين العالمين العربي والغربي.

كما بيّن أهمية إصدار كتاب يجمع أعمال المؤتمرات السابقة. وبدءاً من العام المقبل سيعمد «بيت الفلسفة» إلى تعزيز الأبحاث المطوّلة في المؤتمر ونشرها في كتاب خاصّ.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة هو الأول من نوعه في العالم العربي، وتشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان: «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام التي بدأت يوم الخميس الماضي واختُتمت السبت، إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً بتعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة؛ مثل: الفلسفة، والأدب، والعلوم.

وتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطوّر الفكر المعاصر.

وخلال مؤتمر هذا العام سعى المتحدثون إلى تقديم رؤى نقدية بنّاءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث، ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي، ومفاهيم مثل «نقد النقد»، وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة خلال رعايته مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة (بيت الفلسفة)

وعملت دورة المؤتمر لهذا العام على أن تصبح منصة غنيّة للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

وشملت دورة هذا العام من مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتُتح اليوم الأول بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد «بيت الفلسفة»، وكلمة للأمين العام للاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتضمّنت أجندة اليوم الأول أربع جلسات: ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أما الجلسة الثالثة فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما ضمت الجلسة الرابعة محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، وترأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما ضمّت أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش، وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

جانب من الحضور (الشرق الأوسط)

وتكوّن برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) من ثلاث جلسات، ضمت الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، وترأست الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وضمت الجلسة الثانية محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وضمت الجلسة الثالثة محاضرة للدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم أي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

وتكوّن برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تناولت الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي في طلاب الصف الخامس»، شارك فيها الدكتور عماد الزهراني، وشيخة الشرقي، وداليا التونسي.

وشهدت الجلسة الثانية اجتماع «حلقة الفجيرة الفلسفية» ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.