تتحول نكهة المهرجانات بفضل التجارب اللبنانية الجديدة، والإنتاجات الفنية المحلية، بعد أن صارت سمة في السنوات الأخيرة. «أوبرا هشك بشك» التي قدمت مساء الأحد على مسرح «مهرجانات بيبلوس» هي واحدة من هذه المحاولات التي تشق طريقها، وسط جمهور يبحث عن المرح والترفية في أجواء لها طعم فني جدي.
بعد ثلاث سنوات ونصف من العروض المتواصلة في «مترو المدينة» انتقل فريق العمل بشخصياته وروحه الفكاهية إلى بيبلوس، بنسخة مختلفة، تم فيها تعديل الديكور وبعض الأدوار، وتوزيع الموسيقى لتتلاءم مع الإضافة الأوركسترالية الفلهارمونية، حيث إن 40 عازفًا هذه المرة رافقوا الأغنيات الشعبية المصرية التي ما هي أحيانًا إلا طقاطيق صغيرة جميلة، تعبر عن أحوال الناس ومزاجهم العام.
المعلمة والدرويش والباشا وعازفو الموسيقى الأربعة الذين ينعشون أجواء الكباريه والنادل كما الراقصة والمغنية كلها شخصيات، تتفاعل وتتعايش في المكان غناء ورقصا وحوارًات، لتبقي الأجواء مشتعلة، أمام جمهور جاء طالبًا أمسية خفيفة وظريفة، وها هو يجد نفسه في غمار أجواء كباريهات مصر بين عشرينات وستينات القرن الماضي.
احتلت الأوركسترا الكبيرة المساحة الأمامية للخشبة وظهر الكباريه الذي سنعيش مع شخصياته أكثر من ساعة ونصف وراء الأوركسترا على مستوى مرتفع عنها، وبدا أنه يتكون من حجرتين، متجاورتين ومفتوحتين على بعضهما البعض. الأعمدة والثريات ذات الإضاءة الخفيفة والمؤثرات البصرية الخلفية الذكية، لعبت دورها لتجعل المكان أكثر دفئًا وضبابية أيضا.
وإذ بقي الفصل الأول رتيبًا، بسبب استمرار الشخصيات ذاتها على المسرح دون كبير تغيير كما الديكورات، ولأن الأغنيات هي من أرشيف نادرًا ما يعرفه المتفرج العادي، ولها إيقاعات نغمية متقاربة، رغم كلماتها الساخرة والمضحكة. فالحقبة قديمة، وصورة الملك فاروق التي تظهر على الخلفية ويتم اللعب على تفاصيلها بطرافة، تعيدنا إلى تلك الفترة الذهبية وأجوائها وموسيقاها، في نوع من الأرشفة والاستعادة. الراقصة راندا مخول بثوبها الأحمر الناري، وأدائها المحترف، كانت محرك هذا الجزء الذي كاد يقع في الرتابة تكرارًا.
جاء الجزء الثاني حيويًا وسريعًا، الفرقة الموسيقية الشرقية، بعودها وطبلتها وكمانها والأكورديون، لن تغير مكانها على شمال الخشبة لكن الحجرة الأخرى ستتحول إلى ما يشبه حيزًا لأداء أغنيات متتالية هي من بين الأشهر التي عرفها جمهور السينما أو التلفزيونات العربية في بداية بثها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. أغنية «سونا يا سونسون» التي اشتهرت بعد أن غنتها شادية في فيلم «التلميذة» تؤديها المغنية ياسمينا الفايد ووراءها ملصق شهير لفيلم برلنتي عبد الحميد «حياة فاتنة» وتتابع وسط تشجيع الجمهور تأدية أغنيات أعطيت في هذا العرض، طعمًا جديدًا، بعد أن تم توزيعها موسيقيًا من قبل زياد الأحمدية ونضال أبو سمرا للتناسب مع العزف الأوركسترالي من قبل الفرقة التي يقودها لبنان بعلبكي. تتوالى أغنيات شهيرة يعرفها الجمهور هذه المرة: «يا مصطفى يا مصطفى، قولّي ولا تخبيش يا عين، ما اشربش الشاي، سلامتها أم حسن، الطشت قلي الطشت قلي». هذه كلها بعض ذلك الأرشيف الفني المصري الذي تربى على أنغامه وكلماته الطريفة جيل عربي كامل، يوم كان الملحنون قلة والمغنون الشهيرون أقل منهم. تفننت المغنية ياسمينا في أداء «خليه يتجوز يا صبية» أدت بطرافة شديدة، وزعت نكاتها وتعليقاتها. حاول المؤدون مداعبة الجمهور وممازحته وجعله يشارك في الأغنيات. بقي هذا العرض الذي صمم في الأصل ليقدم في مكان صغير ومغلق، محتفظًا بحاجته إلى حميمية المكان، رغم كل التعديلات الكبيرة والمهمة التي أضيفت عليه. كان يمكن للجمهور أن يتفاعل بشكل أفضل لو كان المؤدون في مقدمة المسرح، وللفرقة الموسيقية الأوركسترالية مكانها الخفي في مكان منخفض عن الخشبة. ومع ذلك استطاعت المغنية ياسمينا الفايد، خاصة وهي تؤدي «خليه يتجوز يا بهية» أن تنتزع الضحكات المتتالية من جمهور، جاء مشدودا إلى كلمة «أوبرا» في عنوان العرض، فإذا بياسمينا تقول للحضور، إنها كانت خدعة ولعلكم لم تصدقوا أنكم آتون لتستمعوا إلى بافاروتي في هذه الأمسية. وجاء الختام مع أغنية «العتبة قزاز» التي تحول أداؤها السريع إلى ما يشبه لحن صوفي يصلح إيقاعه لفتلة الدراويش، وليبدأ درويش العرض فتلته مع درويشين آخرين ظهرت صورتهم في خلفية المسرح لم يتوقفا عن الدوران.
هذه المرة الثانية التي يصل فيها مخرج العمل ومديره الفني هشام جابر إلى المهرجانات. العام الماضي كان عرضه «بار فاروق» الذي يعيد المتفرج إلى أجواء الكباريهات اللبنانية في القرن الماضي، على خشبة «بيت الدين». بدأ العرض أكثر حيوية، بسبب صغر المكان وقرب المتفرجين من الخشبة. لكن في كل الأحوال، هي تجربة جميلة، فما بين الفرقة الشرقية الصغيرة التي كانت تعزف في بيبلوس، والأوركسترا، استمع الحضور إلى أغنيات مصرية شعبية شكلت جزءًا من الثقافة الفنية العربية لسنوات طويلة، ولعل الشباب كانوا بحاجة إلى اكتشافها، عدا الاجتهاد الموسيقي الحثيث الذي يتم العمل عليه وتطويره، وهذا وحده يستحق الإشادة والمتابعة والتشجيع.
أوبرا «هشك بشك».. عودة أوركسترالية إلى الأغنيات الشعبية المصرية
بين الطرفة والسخرية.. هشام جابر يمتع جمهوره
أوبرا «هشك بشك».. عودة أوركسترالية إلى الأغنيات الشعبية المصرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة