أبو سهمين.. الرهان على إنقاذ ليبيا

ملفات الثوار والأمن على مكتب رئيس البرلمان الليبي

أبو سهمين.. الرهان  على إنقاذ ليبيا
TT

أبو سهمين.. الرهان على إنقاذ ليبيا

أبو سهمين.. الرهان  على إنقاذ ليبيا

تقول النكتة الشائعة الآن في ليبيا إن وجود «زيدان»، (ليس زيدا واحدا)، يتطلب بالضرورة وجود «أبو سهمين» (ليس سهما واحدا) في إشارة إلى الدكتور علي زيدان رئيس الحكومة الانتقالية، ونوري على أبو سهمين، وهو الرجل الذي بات نحو ستة ملايين مواطن ليبي يحفظون اسمه ويتابعون أداءه وتصريحاته ليس فقط بحكم كونه رئيس المؤتمر الوطني العام (البرلمان) ولكن أيضا باعتباره الرئيس الفعلي للبلاد والقائد الأعلى لقواتها المسلحة. وينظر البعض إلى «أبو سهمين» باعتباره الرهان على إنقاذ ليبيا قائلين، إن مكتبه مزدحم بملفات عن الثوار ومشكلة الأمن.
لكن مقر المؤتمر الذي يعتبر أعلى سلطة دستورية في البلاد، تعرض للاقتحام نحو خمس مرات آخرها يوم أمس، الثلاثاء (الماضي)، ما عرض هيبة المؤتمر والدولة في ليبيا ككل إلى خطر كبير يوشك أن يداهم الجميع.
تخلو السيرة الذاتية الرسمية لأبو سهمين من أي إشارة إلى خلفية أو خبرة سياسية على الرغم من أنها تتضمن نقلات تشير إلى قدرة إدارية معتبرة، وهو أمر مثير للدهشة والجدل في آن واحد في ليبيا التي تمر بمرحلة انتقالية واستثنائية، وتشهد عمليات من الاغتيال والخطف كان آخرها خطف زيدان نفسه. والذي قال إنه منذ سماع نبأ اختطاف رئيس الوزراء وكل ما يشغله توفير الأمن والحماية له. ومع أن أبو سهمين لم يكن من الوجوه البارزة في المعارضة الليبية ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي، كما لم يكن اسمه متداولا خلال الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في شهر فبراير (شباط) من عام 2011 وانتهت لاحقا في شهر أكتوبر (تشرين أول) من نفس العام بالإطاحة بنظام القذافي ومقتله، إلا أن أبو سهمين يمتلك خبرات تؤهله لإدارة المؤتمر الوطني الذي يعتبر أعلى هيئة دستورية في البلاد.
وقال بعد اختطاف زيدان: «طالما وصل الأمر إلى اختطاف رئيس الوزراء فاعتقدت جازما من البداية أن الفعل صدر عن جهة أو أفراد لا يقدرون حجم مثل هذا الفعل الذي يعتبر خارج نطاق الشرعية وسيادة القانون». ويقول البعض، إن أبو سهمين لديه خبرات قد تمكنه من وضع حلول للمشكلات المعقدة التي تمر بها ليبيا. تلك الخبرات اكتسبها أبو سهمين بحكم منصبه السابق كمقرر عام للمؤتمر وهو منصب يضعه داخل المطبخ السياسي والإداري في أرفع درجاته، كما أنه عمل عن قرب مع محمد المقريف المخضرم الذي آثر السلامة والعزلة وقرر طواعية الانسحاب من المشهد السياسي واستقال من منصبه كرئيس للمؤتمر استباقا لبدء تنفيذ قانون العزل السياسي الذي أقره المؤتمر ويقضي بمنع كل من تعامل مع نظام القذافي من تولي أي مناصب رسمية أو حكومية في الدولة الليبية.
بعد قيام الثورة الليبية فاز أبو سهمين في أول انتخابات تشريعية أجريت في البلاد في شهر يوليو (تموز) من العام الماضي، حيث أصبح عضوا عن مدينة زوارة التي تعتبر مسقط رأسه. يستيقظ أبو سهمين من نومه في الصباح الباكر كعادته، حيث أبلغ «الشرق الأوسط» في حوار سابق معه أنه لا يحصل سوى على أربع أو خمس ساعات فقط للراحة حتى من قبل منصبه الحالي. ولا يبدو الرجل مهووسا بالبروتوكولات الرئاسية المعتادة، فهو كما بدا بسيطا دمث الخلق يتحدث بعفوية وتلقائية قد تجلب له في بعض الأحيان المشكلات.
وفي تعليق له على الجهة التي اختطفت زيدان، قال، إنه «مهما كانت وجهة نظر هؤلاء الأفراد أو المجموعات فإن رئيس الوزراء أو الوزراء أو أي مسؤول يعين أو ينتخب لا بد من اتباع الإجراءات القانونية وليس لأحد أن يكون فوق القانون عندما يطلب بموجب القانون». ويعتقد البعض أن حصول أبو سهمين على المنصب سيضمن انتقالا سلسلا للسلطة في البلاد بالإضافة إلى أن آخرين يراهنون على حسن أدائه كرئيس للمؤتمر خلال الفترة الانتقالية التي قد تضطر البلاد إلى تمديدها في وقت لاحق من العام الحالي.
وقال جمعة عتيقة الذي تولى بصفة مؤقتة، في السابق، منصب رئيس المؤتمر الوطني بعد استقالة المقريف، إن «ما حدث يبين أن ليبيا تستطيع أن تبرهن للعالم أنها تتسم بالديمقراطية في خياراتها ولا تأخذ في الاعتبار أي عوامل إقليمية عند اتخاذ القرارات».
وقال إبراهيم الغرياني عضو المؤتمر الوطني لوكالة «رويترز»، إن «أبو سهمين له علاقات طيبة بكل الأطراف وقد يكون الشخص المناسب لقيادة المؤتمر الوطني في الوقت الحالي». وأصبح أبو سهمين وهو من بلدة زوارة الساحلية في غرب البلاد أول شخص من الأقلية الأمازيغية يتولى منصبا حكوميا رفيعا بعد عقود قمع خلالها القذافي الثقافة الأمازيغية بما في ذلك لغتها. أبو سهمين الذي سيشرف على الاستعدادات لتشكيل لجنة لوضع دستور ديمقراطي لليبيا التي تعاني من العنف المسلح منذ الإطاحة بالقذافي، من أبناء الأقلية الأمازيغية التي همشها نظام القذافي طيلة سنوات حكمه الـ42 تقريبا، علما بأنه حصل على 96 صوتا مقابل 80 صوتا لمنافسه الشريف الوافي في جولة إعادة بعد أن جرى التصويت في الجولة الأولى على تسعة مرشحين.
وعلى الرغم من أنه معروف في أوساط أعضاء المؤتمر الوطني فإنه حظي بدعم حزب العدالة والبناء الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، لكنه نفى لـ«الشرق الأوسط» أن يكون محسوبا على هذه الجماعة أو منتميا لها. تخرج أبو سهمين المولود في مدينة زوارة أقصى الغرب الليبي، في كلية الحقوق بجامعة بنغازي في شرق ليبيا، علما بأنه درس مطلع الثمانينات العلاقات الدولية ببريطانيا، ومن ثم اشتغل بمصنع «بوكماش للبتروكيماويات» بالعاصمة الليبية طرابلس، قبل أن يتفرغ منذ عام 2000 للعمل الخاص.
ينظر الأمازيغ إلى حصول أبو سهمين على منصبه الحالي الرفيع المستوى على أنه حدث تاريخي، فهو أول رئيس من أصول أمازيغية يصل إلى هذا المنصب في تحول لافت للانتباه في تاريخ أمازيغ ليبيا ومنطقة شمال أفريقيا ونقلة تاريخية لثورة 17 فبراير.
وتعليقا على فوز أبو سهمين قال موقع «تيفسا بريس» الأمازيغي الناطق باللغة العربية إنه بعد عقود من التهميش الذي عانى منه أمازيغ ليبيا وحرمانهم من ممارسة أبسط حقوقهم الثقافية واللغوية في عهد الديكتاتور الراحل معمر القذافي، ها هو نوري أبو سهمين يخرج بسهميه منتصرا مظفرا كالمارد العملاق ضاربا بعرض الحائط كل التوقعات.
لكن نفس الموقع لفت في المقابل إلى أن الكثير من الحقوقيين والنشطاء الأمازيغ لا يعقدون كثيرا آمالهم على رئيسهم الجديد المحسوب على تيار الإخوان السلفي، مشيرا إلى أن الكثير منهم يذهب إلى أنه مجرد دمية تحركها أيادي جماعة الإخوان ولن يستطيع تغيير المعادلة السياسية الأمازيغية المتشابكة بل ربما سيزيدها تعقيدا.
لكن تهمة الانتماء لجماعة الإخوان تزعج أبو سهمين الذي نفى لـ«الشرق الأوسط» انتماءه إلى هذه الجماعة أو كونه محسوبا عليها، لافتا إلى أنه لا يجد أي غضاضة في الاتفاق مع أي فصيل أو حزب سياسي على الثوابت التي تستهدف إعادة بناء الوطن وحفظ مستقبله وأمنه.
كما نفى هيمنة «الإخوان المسلمين» على الحياة السياسية الجديدة في البلاد، مؤكدا في المقابل أنه لا يستطيع أي حزب أن يدعي هيمنته منفردا على الوضع السياسي الراهن.
واستبعد أن يؤدي وجوده كشخص ينتمي للأقلية الأمازيغية في ليبيا إلى أمزغة الدولة الليبية، لكنه شدد على ضرورة التعامل مع اللغة الأمازيغية كمكون ثقافي للوطن.
ومع ذلك يقول موقع «وسان» الأمازيغي على شبكة الإنترنت القصة ليست قبلية أو جهوية أو عرقية أو فرحة زوارة أو الأمازيغ بتولي منصب.. القصة وما فيها هي الفرحة بدق أول المسامير في نعش العنصرية والتهميش الثقافي والسياسي تجاه الأمازيغ (التي قادها وكرسها الحكام على مر التاريخ وليس الشعب) وهي ليست فرحة بإنجاز حققه أمازيغي بقدر ما هي فرحة بإنجاز حققه الشعب الليبي.
ويمثل الأمازيغ نحو خمسة في المائة من سكان ليبيا الذين يقاربون ستة ملايين. وهكذا أصبح أبو سهمين رئيسا لنفس الدولة التي حرص فيها النظام السابق على عدم تعيين أي أمازيغي في منصب وزير في أي من حكوماته المتعاقبة.
بيد أن تصريحات الرجل الأخيرة لـ«الشرق الأوسط» قال فيها: إنني «مسلم.. إنني ليبي إنني أمازيغي.. إنني عربي.. ليبيا يجمعها الإسلام والوطن، وتجمعها الأصالة الأمازيغية والعربية». وخلفت هذه التصريحات ردود أفعال غاضبة في بعض أوساط الأمازيغ على اعتبار أنها تخلط بين العرقين في آن واحد. ومع ذلك فقد حاول أبو سهمين عبر تلك التصريحات أن يقدم رسالة للمجتمع الليبي بأنه لن ينظر إلى انتمائه لأقلية معينة بقدر حرصه على أن يكون رئيسا للجميع.
وفى كل الأحوال ليس الملف الأمازيغي هو الهم الوحيد لرئيس المؤتمر الوطني الليبي، بل ثمة تحديات كبيرة تواجه شاغل هذا المنصب لعل أهمها توفير الأمن والاستقرار في الدولة التي ما زالت تعانى وبعد عامين على سقوط القذافي من اضطرابات سياسية وعسكرية مستمرة.
ويؤكد أبو سهمين أنه ومنذ توليه رئاسة المؤتمر الوطني العام يهتم بإنشاء الهيئة التأسيسية للدستور كأولوية مطلقة، يتبعها مباشرة ملف العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية والعمل على تحقيق الأمن والأمان للمواطن في ذات الوقت.
واعتبر أن الحوار والاتصال مع جميع الكتل السياسية والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني الليبي والنخب الثقافية والثوار قائم منذ فترة بين المؤتمر وبين الجميع، وأنه شخصيا وبمجرد توليه مهام الرئاسة يقوم هو وأعضاء المؤتمر بالاتصال المكثف بهم للوصول إلى نتائج مرضية.
هذه التصريحات التي لا تخلو من لغة دبلوماسية اشتهر بها أبو سهمين تصطدم بواقع سياسي يراه البعض مريرا للغاية في دولة لم ينعكس بعد غناها بالنفط على الحياة الاقتصادية لغالبية سكانها، وهى معادلة غريبة أخرى.
ورث أبو سهمين من دون شك ملفات صعبة وربما قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، لكن الرجل يراهن على وعي الشعب الليبي بخطورة المرحلة «الاستثنائية» الراهنة. وقال عضو المؤتمر الوطني صلاح ميتو لوكالة أنباء «شينخوا» الصينية، عن التحديات التي ستواجه الرئيس الجديد للمؤتمر الوطني، إن «أبرزها هو الإسراع في الانتهاء من انتخاب لجنة صياغة الدستور الليبي الجديد، بجانب الضغط على الحكومة لدمج تشكيلات الثوار وجمع السلاح في المؤسسات الشرعية».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.