أبو سهمين.. الرهان على إنقاذ ليبيا

ملفات الثوار والأمن على مكتب رئيس البرلمان الليبي

أبو سهمين.. الرهان  على إنقاذ ليبيا
TT

أبو سهمين.. الرهان على إنقاذ ليبيا

أبو سهمين.. الرهان  على إنقاذ ليبيا

تقول النكتة الشائعة الآن في ليبيا إن وجود «زيدان»، (ليس زيدا واحدا)، يتطلب بالضرورة وجود «أبو سهمين» (ليس سهما واحدا) في إشارة إلى الدكتور علي زيدان رئيس الحكومة الانتقالية، ونوري على أبو سهمين، وهو الرجل الذي بات نحو ستة ملايين مواطن ليبي يحفظون اسمه ويتابعون أداءه وتصريحاته ليس فقط بحكم كونه رئيس المؤتمر الوطني العام (البرلمان) ولكن أيضا باعتباره الرئيس الفعلي للبلاد والقائد الأعلى لقواتها المسلحة. وينظر البعض إلى «أبو سهمين» باعتباره الرهان على إنقاذ ليبيا قائلين، إن مكتبه مزدحم بملفات عن الثوار ومشكلة الأمن.
لكن مقر المؤتمر الذي يعتبر أعلى سلطة دستورية في البلاد، تعرض للاقتحام نحو خمس مرات آخرها يوم أمس، الثلاثاء (الماضي)، ما عرض هيبة المؤتمر والدولة في ليبيا ككل إلى خطر كبير يوشك أن يداهم الجميع.
تخلو السيرة الذاتية الرسمية لأبو سهمين من أي إشارة إلى خلفية أو خبرة سياسية على الرغم من أنها تتضمن نقلات تشير إلى قدرة إدارية معتبرة، وهو أمر مثير للدهشة والجدل في آن واحد في ليبيا التي تمر بمرحلة انتقالية واستثنائية، وتشهد عمليات من الاغتيال والخطف كان آخرها خطف زيدان نفسه. والذي قال إنه منذ سماع نبأ اختطاف رئيس الوزراء وكل ما يشغله توفير الأمن والحماية له. ومع أن أبو سهمين لم يكن من الوجوه البارزة في المعارضة الليبية ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي، كما لم يكن اسمه متداولا خلال الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في شهر فبراير (شباط) من عام 2011 وانتهت لاحقا في شهر أكتوبر (تشرين أول) من نفس العام بالإطاحة بنظام القذافي ومقتله، إلا أن أبو سهمين يمتلك خبرات تؤهله لإدارة المؤتمر الوطني الذي يعتبر أعلى هيئة دستورية في البلاد.
وقال بعد اختطاف زيدان: «طالما وصل الأمر إلى اختطاف رئيس الوزراء فاعتقدت جازما من البداية أن الفعل صدر عن جهة أو أفراد لا يقدرون حجم مثل هذا الفعل الذي يعتبر خارج نطاق الشرعية وسيادة القانون». ويقول البعض، إن أبو سهمين لديه خبرات قد تمكنه من وضع حلول للمشكلات المعقدة التي تمر بها ليبيا. تلك الخبرات اكتسبها أبو سهمين بحكم منصبه السابق كمقرر عام للمؤتمر وهو منصب يضعه داخل المطبخ السياسي والإداري في أرفع درجاته، كما أنه عمل عن قرب مع محمد المقريف المخضرم الذي آثر السلامة والعزلة وقرر طواعية الانسحاب من المشهد السياسي واستقال من منصبه كرئيس للمؤتمر استباقا لبدء تنفيذ قانون العزل السياسي الذي أقره المؤتمر ويقضي بمنع كل من تعامل مع نظام القذافي من تولي أي مناصب رسمية أو حكومية في الدولة الليبية.
بعد قيام الثورة الليبية فاز أبو سهمين في أول انتخابات تشريعية أجريت في البلاد في شهر يوليو (تموز) من العام الماضي، حيث أصبح عضوا عن مدينة زوارة التي تعتبر مسقط رأسه. يستيقظ أبو سهمين من نومه في الصباح الباكر كعادته، حيث أبلغ «الشرق الأوسط» في حوار سابق معه أنه لا يحصل سوى على أربع أو خمس ساعات فقط للراحة حتى من قبل منصبه الحالي. ولا يبدو الرجل مهووسا بالبروتوكولات الرئاسية المعتادة، فهو كما بدا بسيطا دمث الخلق يتحدث بعفوية وتلقائية قد تجلب له في بعض الأحيان المشكلات.
وفي تعليق له على الجهة التي اختطفت زيدان، قال، إنه «مهما كانت وجهة نظر هؤلاء الأفراد أو المجموعات فإن رئيس الوزراء أو الوزراء أو أي مسؤول يعين أو ينتخب لا بد من اتباع الإجراءات القانونية وليس لأحد أن يكون فوق القانون عندما يطلب بموجب القانون». ويعتقد البعض أن حصول أبو سهمين على المنصب سيضمن انتقالا سلسلا للسلطة في البلاد بالإضافة إلى أن آخرين يراهنون على حسن أدائه كرئيس للمؤتمر خلال الفترة الانتقالية التي قد تضطر البلاد إلى تمديدها في وقت لاحق من العام الحالي.
وقال جمعة عتيقة الذي تولى بصفة مؤقتة، في السابق، منصب رئيس المؤتمر الوطني بعد استقالة المقريف، إن «ما حدث يبين أن ليبيا تستطيع أن تبرهن للعالم أنها تتسم بالديمقراطية في خياراتها ولا تأخذ في الاعتبار أي عوامل إقليمية عند اتخاذ القرارات».
وقال إبراهيم الغرياني عضو المؤتمر الوطني لوكالة «رويترز»، إن «أبو سهمين له علاقات طيبة بكل الأطراف وقد يكون الشخص المناسب لقيادة المؤتمر الوطني في الوقت الحالي». وأصبح أبو سهمين وهو من بلدة زوارة الساحلية في غرب البلاد أول شخص من الأقلية الأمازيغية يتولى منصبا حكوميا رفيعا بعد عقود قمع خلالها القذافي الثقافة الأمازيغية بما في ذلك لغتها. أبو سهمين الذي سيشرف على الاستعدادات لتشكيل لجنة لوضع دستور ديمقراطي لليبيا التي تعاني من العنف المسلح منذ الإطاحة بالقذافي، من أبناء الأقلية الأمازيغية التي همشها نظام القذافي طيلة سنوات حكمه الـ42 تقريبا، علما بأنه حصل على 96 صوتا مقابل 80 صوتا لمنافسه الشريف الوافي في جولة إعادة بعد أن جرى التصويت في الجولة الأولى على تسعة مرشحين.
وعلى الرغم من أنه معروف في أوساط أعضاء المؤتمر الوطني فإنه حظي بدعم حزب العدالة والبناء الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، لكنه نفى لـ«الشرق الأوسط» أن يكون محسوبا على هذه الجماعة أو منتميا لها. تخرج أبو سهمين المولود في مدينة زوارة أقصى الغرب الليبي، في كلية الحقوق بجامعة بنغازي في شرق ليبيا، علما بأنه درس مطلع الثمانينات العلاقات الدولية ببريطانيا، ومن ثم اشتغل بمصنع «بوكماش للبتروكيماويات» بالعاصمة الليبية طرابلس، قبل أن يتفرغ منذ عام 2000 للعمل الخاص.
ينظر الأمازيغ إلى حصول أبو سهمين على منصبه الحالي الرفيع المستوى على أنه حدث تاريخي، فهو أول رئيس من أصول أمازيغية يصل إلى هذا المنصب في تحول لافت للانتباه في تاريخ أمازيغ ليبيا ومنطقة شمال أفريقيا ونقلة تاريخية لثورة 17 فبراير.
وتعليقا على فوز أبو سهمين قال موقع «تيفسا بريس» الأمازيغي الناطق باللغة العربية إنه بعد عقود من التهميش الذي عانى منه أمازيغ ليبيا وحرمانهم من ممارسة أبسط حقوقهم الثقافية واللغوية في عهد الديكتاتور الراحل معمر القذافي، ها هو نوري أبو سهمين يخرج بسهميه منتصرا مظفرا كالمارد العملاق ضاربا بعرض الحائط كل التوقعات.
لكن نفس الموقع لفت في المقابل إلى أن الكثير من الحقوقيين والنشطاء الأمازيغ لا يعقدون كثيرا آمالهم على رئيسهم الجديد المحسوب على تيار الإخوان السلفي، مشيرا إلى أن الكثير منهم يذهب إلى أنه مجرد دمية تحركها أيادي جماعة الإخوان ولن يستطيع تغيير المعادلة السياسية الأمازيغية المتشابكة بل ربما سيزيدها تعقيدا.
لكن تهمة الانتماء لجماعة الإخوان تزعج أبو سهمين الذي نفى لـ«الشرق الأوسط» انتماءه إلى هذه الجماعة أو كونه محسوبا عليها، لافتا إلى أنه لا يجد أي غضاضة في الاتفاق مع أي فصيل أو حزب سياسي على الثوابت التي تستهدف إعادة بناء الوطن وحفظ مستقبله وأمنه.
كما نفى هيمنة «الإخوان المسلمين» على الحياة السياسية الجديدة في البلاد، مؤكدا في المقابل أنه لا يستطيع أي حزب أن يدعي هيمنته منفردا على الوضع السياسي الراهن.
واستبعد أن يؤدي وجوده كشخص ينتمي للأقلية الأمازيغية في ليبيا إلى أمزغة الدولة الليبية، لكنه شدد على ضرورة التعامل مع اللغة الأمازيغية كمكون ثقافي للوطن.
ومع ذلك يقول موقع «وسان» الأمازيغي على شبكة الإنترنت القصة ليست قبلية أو جهوية أو عرقية أو فرحة زوارة أو الأمازيغ بتولي منصب.. القصة وما فيها هي الفرحة بدق أول المسامير في نعش العنصرية والتهميش الثقافي والسياسي تجاه الأمازيغ (التي قادها وكرسها الحكام على مر التاريخ وليس الشعب) وهي ليست فرحة بإنجاز حققه أمازيغي بقدر ما هي فرحة بإنجاز حققه الشعب الليبي.
ويمثل الأمازيغ نحو خمسة في المائة من سكان ليبيا الذين يقاربون ستة ملايين. وهكذا أصبح أبو سهمين رئيسا لنفس الدولة التي حرص فيها النظام السابق على عدم تعيين أي أمازيغي في منصب وزير في أي من حكوماته المتعاقبة.
بيد أن تصريحات الرجل الأخيرة لـ«الشرق الأوسط» قال فيها: إنني «مسلم.. إنني ليبي إنني أمازيغي.. إنني عربي.. ليبيا يجمعها الإسلام والوطن، وتجمعها الأصالة الأمازيغية والعربية». وخلفت هذه التصريحات ردود أفعال غاضبة في بعض أوساط الأمازيغ على اعتبار أنها تخلط بين العرقين في آن واحد. ومع ذلك فقد حاول أبو سهمين عبر تلك التصريحات أن يقدم رسالة للمجتمع الليبي بأنه لن ينظر إلى انتمائه لأقلية معينة بقدر حرصه على أن يكون رئيسا للجميع.
وفى كل الأحوال ليس الملف الأمازيغي هو الهم الوحيد لرئيس المؤتمر الوطني الليبي، بل ثمة تحديات كبيرة تواجه شاغل هذا المنصب لعل أهمها توفير الأمن والاستقرار في الدولة التي ما زالت تعانى وبعد عامين على سقوط القذافي من اضطرابات سياسية وعسكرية مستمرة.
ويؤكد أبو سهمين أنه ومنذ توليه رئاسة المؤتمر الوطني العام يهتم بإنشاء الهيئة التأسيسية للدستور كأولوية مطلقة، يتبعها مباشرة ملف العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية والعمل على تحقيق الأمن والأمان للمواطن في ذات الوقت.
واعتبر أن الحوار والاتصال مع جميع الكتل السياسية والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني الليبي والنخب الثقافية والثوار قائم منذ فترة بين المؤتمر وبين الجميع، وأنه شخصيا وبمجرد توليه مهام الرئاسة يقوم هو وأعضاء المؤتمر بالاتصال المكثف بهم للوصول إلى نتائج مرضية.
هذه التصريحات التي لا تخلو من لغة دبلوماسية اشتهر بها أبو سهمين تصطدم بواقع سياسي يراه البعض مريرا للغاية في دولة لم ينعكس بعد غناها بالنفط على الحياة الاقتصادية لغالبية سكانها، وهى معادلة غريبة أخرى.
ورث أبو سهمين من دون شك ملفات صعبة وربما قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، لكن الرجل يراهن على وعي الشعب الليبي بخطورة المرحلة «الاستثنائية» الراهنة. وقال عضو المؤتمر الوطني صلاح ميتو لوكالة أنباء «شينخوا» الصينية، عن التحديات التي ستواجه الرئيس الجديد للمؤتمر الوطني، إن «أبرزها هو الإسراع في الانتهاء من انتخاب لجنة صياغة الدستور الليبي الجديد، بجانب الضغط على الحكومة لدمج تشكيلات الثوار وجمع السلاح في المؤسسات الشرعية».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.