رحيل شاعر الحرية والشعب السوداني محجوب شريف

أسهم في تشكيل الوجدان الوطني وصناعة الثورة وترسيخ القيم

الشاعر محجوب شريف
الشاعر محجوب شريف
TT

رحيل شاعر الحرية والشعب السوداني محجوب شريف

الشاعر محجوب شريف
الشاعر محجوب شريف

انتحبت الخرطوم ليلة الخميس بدمع ثخين وهي تودع «شاعر الشعب»، محجوب شريف.. الآلاف والأدمع تسيل على مآقيهم بكوا دفعة واحدة فتحولت المدينة إلى مدينة من نحيب..! وفور ذيوع النبأ الأليم كادت الخرطوم تذهب عن بكرة أبيها إلى مقابر «أحمد شرفي» بمدينة أم درمان، وتقاطر الآلاف إلى هناك لوداع شاعرهم الذي انتزع اسم «شاعر الشعب» محبة وكرامة.
تبادل الكل التعازي، كل يعزي الآخر ودموعه على خديه ثخينة، فالميت ميتهم وأبوهم جميعا، لذا ودعته أم درمان مدينته، في جنازة لم تشهد لها مثيل من قبل.
رحل الشاعر الإنسان الذي أسهم في تشكيل الوجدان السوداني وصناعة الثورة وترسيخ قيمة الإنسان والحرية.
محجوب شريف منذ أتاه «إنسان الشعر» اختار الشعب معلما وملهما، غنى له ومعه، غنى للسودان في أقصى لحظات حلمه، وفي أقسى لحظات يأسه، وفي أشد أيام ظلمته.
ليس للشعر «شيطان» عند محجوب، بل «إنسان» يلهمه القصائد والمعاني والكلمات، وينفخ فيه من روح الشعب فتأتي القصيدة أغنية شعبية تحرك الوجدان.
بمفردة منتزعة من كلام الناس وليس من القواميس صاغ محجوب أعذب القصائد، وأصدق الكلمات، وما أن تخرج القصيدة تتلقفها القلوب لأنها منها وإليها، وتأتيها الموسيقى والألحان، فتصبح ملحمة في ضمير الشعب.
تحول السجن في شعر وفي حياته شريف إلى مشفى والطلقة إلى نافورة والمنفى إلى كلية:
حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي
وطن حر وطن خير ديمقراطي
محل السجن مستشفى
محل المنفى كلية
محل الطلقة نافورة
وغنى وهو سجين:
«مساجينك نغرد في زنازينك»..!
ووقع في هوى الشعب:
الشعب حبيبي وشرياني
وشكل ثنائية شعر وغناء مع رفيقه الراحل فنان أفريقيا «محمد وردي» فأبدعا أجمل الألحان والكلمات والموسيقى التي هزت وتهز الوجدان، وأثارت وتثير مشاعر الثورة والحب والإنسانية.
ليس الشاعر الثائر وحده هو محجوب شريف، بل كان إنسانا سما حسه الإنساني على أناه، وأصبح «جوغة إنسانية»، ففي «مبادرة رد الجميل» ذهب الكتاب والحلوى والخبز إلى الأطفال الفقراء في محلاتهم، عرفانا منهم بجميل الشعب الذي وقف معه في وعكته..!
بل ومحجوب أحبه الناس لأنه يحبهم، يغني لهم ويواسيهم ويعيش حياتهم اليومية في أقسى حالاتها، لم تبطره شهرة أو شهوة مال، ولم يترفع عن «حبيبه الشعب».
بساطته وبساطة عيشه ومبدأيته العالية حالت بينه والانزلاق في المغريات الكثيرة التي كانت متاحة له، رفض بإباء حتى الدواء الملوث بـ«بكتيريا الديكتاتورية»، وحتى الرمق الأخير سجل شريف موقفا لامعا، وتناقل ناشطون قبل أيام من رحيله ورقدته الأخيرة، أن الرجل رفض زيارة وزير الصحة المثير للجدل له، رفض بإباء وشمم أن يستغل وهنه دعاية «آيديولوجية»، مثلما رفض التداوي بالمال المغموس بدماء «المهمشين» الذي بذلته له السلطة حين أعياه الداء، بل وأوصى أن تكون جنازته شعبية، لا تخالطها رائحة ديكتاتورية، ملهم هو حي وميت. محجوب شريف، أكثر من شاعر، وأكثر من إنسان، وأكثر من مناضل في سبيل الحرية، فقد كان أمة بحالها وكان شاعرا فذا و«الشاعر الفذ بين الناس رحمان»..!
رحل محجوب شريف، وترك حزنا شفيفا انضاف لأحزان السودان الكثيرة، وشيعه السودانيون كما لم يمت بينهم من قبل شاعر، كان رحيله فاجعة إنسانية وثقافية.
عاش شاعر الشعب زهاء 66 عاما، عانى خلالها محنة المرض سنوات طويلة، لكن مرضه لم يبعده عن الناس، ولم يضطره لتقديم تنازل واحد، كان الشهود ينقلون عنه بسمته التي لم تخنه رغم الألم والإعياء. شعريا، يعد من أميز من كتبوا الأغنية الوطنية، وبسبب من أشعاره السياسية وتغنيه بأحلام الناس، سجن مرارا.
أما إنسانيا، فكان يمد يده لكل من يطرق بابه، وأنشأ منظمة «رد الجميل» لمساعدة المحتاجين، عرفانا بوقفة محبيه معه أثناء مرضه. له ديوان مطبوع واحد «الأطفال والعساكر»، وأغنيات وطنية وعاطفية مع محمد وردي، وأشهر أغنياتهما العاطفية هي «جميلة ومستحيلة»، وتعد «أيقونة» في تاريخ الغناء السوداني، ودربا إلى العشق في دنيا المحبين.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».