يبدأ المخرج الدنماركي نيكولاس ويندينغ رفن فيلمه الجديد «شيطان النيون» The Neon Demon (باشرت صالات لندن من بين عواصم أخرى عروضه التجارية قبل أسبوعين) بمشهد لبطلته إيلي فانينغ مستلقية على كنبة طويلة والدم ينزف من رقبتها إلى الأرض حيث كوّن بركة صغيرة. لا تتحرك. يدعك المخرج تعتقد بأننا وصلنا متأخرين. لقد ماتت وانتهى الأمر.
المشهد مصمم بعناية ومصوّر بعناية أكبر (مديرة التصوير ناتاشا براير). يبدو كما لو أنه لوحة فنية أقرب إلى الرسم في أصولها. إضاءة أساسية على الطرف الأيسر حيث رأس الممثلة وداكنة فيما بعد. إيلي ترتدي سترة وسروالاً قصيرا من الجلد الأسود اللامع. ربما هذه هي نهاية الفيلم الذي سنتابعه اختارها المخرج لتكون لقطة البداية لأجل مزيد من التشويق.
فجأة تنهض إيلي من مكانها. تمسح المادة السائلة التي لعبت دور الدم. ندخل وراءها الحمام حيث تكمل مسح الدم وضبط الماكياج. لكن ماذا عن المشهد الأول؟ لماذا هو؟ كيف ينتمي؟. يقول لي المخرج في اللقاء السابق الذي تم خلال مهرجان «كان»: «بالنسبة لي هو أكثر من مناسبة لجذب الاهتمام. إنه نقطة عالية في سياق الفيلم وأنا قررت البداية بها، لكن الهدف الآخر الذي ليس أقل أهمية هو أنني أردت التعليق على وضع براق لا يمثل في الواقع ما يعد به. الفيلم، كما شاهدته، يدور في عالم عارضات الأزياء الذي يبهر بأنواره والمستوى العالي من جمال نسائه وبتألقه الاجتماعي الكثيرين لكنه يخفي في ضمنه عالمًا مختلفًا تمامًا. البداية هي أيضًا من هذا النوع. تعد بشيء لكنها تكشف عن شيء آخر».
نهايات مفتوحة
إيلي فانينغ هي جيسي: فتاة جميلة بلا عيوب في الملامح أو الشكل. وشقراء جدًا. هي في السادسة عشرة من عمرها، لكن المرأة التي تدير وكالة لتوريد عارضات الأزياء (كرستينا هندركس) ستطلب منها الادعاء بأنها في السادسة عشرة من عمرها. لاحقًا ستدّعي بأنها لا تعرف شيئًا عن الحب وأنها بريئة تمامًا من الضغوط النفسية والعاطفية التي تشاهدها على محيا وفي تصرّفات ثلاث عارضات غيورات حسودات يردن التخلص منها.
هناك علاقة، في هذا الفيلم، بين الشر والألوان، اللون الأسود للخطر، الأصفر للشر، الأحمر للعنف، والألوان الثلاثة تتكرر: تمشي جيسي صوب غرفتها في ذلك «الموتيل» المتواضع الذي تعيش فيه ليلاً. الأنوار ليست كافية لإضاءته جيدًا. تصل إلى باب شقتها. تفتحه. تحاول إشعال النور لا يشتعل. الخطر صاحبها من الشارع إلى الشقة. فجأة ترى شيئًا. وبعد أن تطلب النجدة من مدير الفندق (كيانو ريفز) يتبين أن هناك قطًا جبليًا وحشيًا أصفر اللون في داخل الشقة. لا نعرف كيف دخل وكيف عطّل الإضاءة ولا كيف قفل الباب بعدما فتحته جيسي أول مرّة.
المشهد الأخير من الفيلم هو سوداوي وأحمر مع بعض الأصفر. ذلك أنه مشهد دموي، مما يجعل من السهولة وصف الفيلم بأنه فيلم رعب.
> هل يزعجك أن البعض حسب أن الفيلم في النهاية هو فيلم رعب؟
- يعتمد ذلك على الذين يعتقدون أنه فيلم رعب وتوقفوا عند هذا الحد. أفضل أن أقول إنه فيلم فني حول عالم لا يخلو من سمات مرعبة. الشيطان هنا في عالم النيون البرّاق كما يقترح العنوان، لكني أؤمن بأن الفيلم هو فيلم فني. كل فيلم بالنسبة لي يجب أن يكون فنيًا ولا يهم كيف يتجه بعد ذلك. قد يكون فنيًا وبوليسيًا أو فنيًا وكوميديا أو فنيًا ومرعبًا.
> من لم يعجبهم الفيلم قالوا إن المخرج وصم عالم الموضة على نحو عنيف وخرج من الواقع إلى الخيال وأن النهاية مفتوحة.
- لا أمانع في أن تكون النهايات مفتوحة. عادة لا أتدخل في تسويق رأي محدد في أي شيء أصوّره وأقدمه. باعثي هو ترك رد الفعل على المشاهد لأنني مهتم برد فعله. لكن حتى يتسنّى لي حصاد رد فعل عاطفي أو فكري جيد يجب أن أحسن تقديم العوامل والعناصر المهيئة لذلك.
> على الرغم من الاختلاف البين، إلا أن جيسي ذكّرتني بكاري في فيلم «برايان دي بالما». إنه موضوع مختلف، أعرف ذلك لكن جيسي وكاري لديهما لعنة تصاحبهما حتى النهاية المدمّرة.
- في الحقيقة هي نهاية مختلفة أيضًا. جيسي هي فتاة عذراء خائفة من وحدتها. لا تمنح صديقها فرصة لكي يوطد علاقته معها. تدّعي أنها على خبرة لكن ذلك ما هو إلا لحماية نفسها. وفي النهاية هي من تدفع الثمن كما رأيت. هي نموذج للفتاة البسيطة القادمة إلى هوليوود لكي تعمل ومحاطة بالطامعين فيها.
> بمن فيهم النساء والرجال.
- بالتأكيد. مدير الفندق مثلاً من خارج المجتمع الذي تختلط به جيسي في عملها. لا علاقة له بالفن أو بالتصاميم الفنية أو التصويرية ولا بالسينما مثلاً. إنه مجرد رجل يعيش في هوليوود، لكنه يقتات على ضحاياه إذا ما توسم فيهن ضعفًا.
لقائه مع فانينغ
«شيطان النيون» يقدّم نظرة سلبية لعالم عارضات الأزياء. ليس هو الأول في عرض ذلك، إذ سبق للراحل روبرت ألتمن أن أخرج فيلما بالنظرة ذاتها عنوانه «جاهز للبس» (Ready to Wear) سنة 1994. الفارق هو أن ألتمن عالج نظرته بالسخرية عوض التكوين النفسي. أما هنا فإن ما يبدو هدفًا محددًا للمخرج رفن هو تصوير عالم مخيف مقفل إذا ما دخلته البراءة قضت عليه. لكن البراءة بدورها تتغيّر. جيسي تجد نفسها منجذبة نفسيًا للحالات القصوى. صحيح أنها ترفض المثلية لكنها تقبل على التهام ضحيتها.
في مجمله هو فيلم عنيف التأليف والنتائج، وكما في المشهد الأول، هو فيلم مصنوع بعناصر فنية متّصلة بعضها يصيب النجاح (التصوير وتصميم المناظر) وبعضها يضج بالتكلف (الموسيقى المؤلّفة من قطع نشاز تؤدي غرضًا لحظويًا). التمثيل، بدوره، من مراتب بعضها أعلى من بعض، فبينما تعكس إيلي فنينغ (18 سنة حاليًا) الشخصية التي تؤديها جيدًا، تتحول باقي الشخصيات النسائية إلى ديكور مع أداءات جامدة. الكلام يبقى فعلاً صوتيًا والمعالجة لا تختلف بين ممثلة وأخرى طالما هن في الأدوار المساندة. فقط كيانو ريفز يبدو طبيعيًا حتى بمقارنته مع جيسي ذاتها.
> كيف تصف البراءة التي تجسدها الممثلة إيلي فنينغ ثم هل تعتقد أنه في النصف الثاني من الفيلم بات لديها مبررات كافية لكي تخسر تلك البراءة وتتحول إلى مفترسة؟
- البراءة في اعتقادي متوفرة في كثير من الشبان والفتيات الذين في مثل عمرها. ليس كل شاب أو فتاة بريء، لكن هناك أبرياء أيضًا وهي واحدة منهم. هي بريئة لكنها ليست ساذجة ولا غبية، وعليها أن تستخدم سلاحًا لتدافع به عن نفسها ضد ما يحيط بها من شرور.
> متى أدركت أن إيلي فانينغ هي الممثلة المناسبة للدور؟
- كانت في البال مع أخريات، لكن عندما التقينا أدركت أنني توقفت عن البحث. زوجتي كانت شاهدتها في بعض الأفلام ونصحتني بها لذلك عندما جاءت إلى منزلي في لوس أنجليس للحديث عن الدور كانت مستعدة لإقناعي ولو أن إقناعي لم يكن صعبًا. في النهاية قلت لها: هل تريدين الدور؟ إنه لك.
عمى الألوان
عندما عرض الفيلم في مهرجان «كان» صاحبه في المسابقة فيلم آخر اعتمد على أسلوب عمل بصري هو فيلم «برسونال شوبينغ» لأوليفييه أوساياس. كلاهما فيلم مختلف لكن محركهما واحد وهو سرد الحكاية بالاعتماد على عنصر الصورة (في «شيطان النيون») وعنصر التصوير في «برسونال شوبر». في الأول يُدار الفيلم بهدوء مشاهده المعنية جدًا بالصورة الفنية كألوان وأحجام وإضاءة. الثاني معني بتصوير المواقع والأحداث على نحو يمنح الحركة نسيجًا مناسبًا. لكن المفاجأة التي لم يتحدّث عنها ريفن في اللقاء الأول، ولم أكن أعلم بها آنذاك هو أنه مصاب بعمى الألوان. هذه المرّة لا يجب أن يمر الموضوع من دون تمحيص:
> هل صحيح أنك مصاب بعمى الألوان؟
- صحيح.
> هل لي أن أسألك كيف يمكن أن يخرج هذا الفيلم، أو أي من أفلامك السابقة، بهذا الثراء في اللون إذن؟
- عمى الألوان لا يعني أن كل الألوان تصبح ملغاة، لكنها جميعًا تتضرر بنسب متفاوتة. المسألة بالنسبة لي هي كيف يمكن لي قلب هذا العجز إلى قوّة. حين كنت فتى صغيرًا كنت أسعى جهدي لكي أبدو طبيعيًا كباقي الأولاد، لكني لاحقًا قررت أن ذلك لن يكون هدفي في الحياة، بل تحويل هذه الإعاقة لصالحي. إلى قوّة تعمل لي وليس ضدي.
> ماذا يحدث خلال التصوير إذن؟
- يحدث أنك ستعتمد على حسّك الداخلي. جلست مع مديرة التصوير وطرقنا كل التفاصيل. الألوان داكنة لأنها أيضًا سهلة علي أكثر لكن حالما وضعنا خطة العمل فإن الحدس الداخلي يتولّى العمل بالمشاركة. ليس سهلاً الحديث عن الخصائص الطبية لهذه الحالة وما تتيحه وما تمنعه لكنها في الغالب معيقة. ما لا يمكن أن يقف في طريق المعاق هو توفير فنه وتحقيق ما يريد إذا ما كان قادرًا على الانتصار على معوقاته.
> هذا نراه ماثلاً عند بعض الرياضيين.
- صحيح. العزيمة لا يمكن قهرها إذا ما كانت وليدة قلب شجاع وإيمان شديد بالنفس. الفن هو فعل المستحيل. والمخرج أو الفنان، السليم أو المعاق، هو من يحارب قصور الحياة بقدراته. الحروب كما نعلم تدمر، لكن الفن يوحي وينير
.> أرى أن هذه الإعاقة لم تمنعك من تحقيق أفلامك كلها والاتكال هنا، ربما أكثر من السابق، على الألوان.
- نعم هناك سبب لذلك يخص هذا الموضوع بالذات، لكني أحب الألوان. لا أراها متساوية والألوان المتوسطة والناعمة لا أراها مطلقًا.
> شيء آخر أريد معرفته منك هو أنك تصوّر الفيلم حسب تتابع كتابته. هل لهذا علاقة بما نتحدث فيه؟
- ربما. الأساس عندي هو ذلك المشهد الأول إذا ما نجحت في تأمينه كما أرغب أسلوبيًا وبصريًا سهل عندي استلهام الفيلم بأسره لكي يأتي على السياق ذاته.
> لكن ذلك ليس سهلاً. الممثل قد يكون مرتبطًا أو ربما ليست هناك حاجة ملحة دائمة له ما يعني أنه سيكون حاضرًا ومرتبطًا بفيلمك طوال الوقت استخدمته لبضعة أيام أو لم تستخدمه.
- صحيح، لكن هذا هو قلق المنتجين. المنتج يقول تمامًا ما تقوله أنت. في الأساس التصوير حسب المواقع وبترتيب غير ذلك الذي قام السيناريو به أو غير النتيجة التي ستشاهد الفيلم عليها، تم اعتماده لدوافع مادية بحتة تخفف عن الإنتاج بعض التبعات الاقتصادية. لكني أحتاج كما ذكرت لتصوير الفيلم على النحو الذي أراه به لاحقًا. هذا يتحقق الآن على نحو غالب ولكنه ليس كاملاً.
شيء مقدس
اختيار السينما كمجال تعبير جاء طبيعيًا في حياة المخرج نيكولاس ويندينغ رفن. ولد سنة 1970 (بعدما كانت السينما إتجهت جديًا صوب استخدام الألوان وليس الأبيض والأسود كما من قبل) وعاش حياة عائلية مستقرة تميّزت بأن والده أندرز رفن مخرج ومدير تصوير. في تلك الفترة كان والداه من المعجبين جدًا بالموجات البريطانية والفرنسية الجديدة في السينما. نيكولاس نفسه أم السينما لكنه لم يتوقف كثيرًا عند تلك الموجات. استيحائه الأول كان فيلم رعب أخرجه توبي هوبر بعنوان «مذبحة منشار تكساس» The Texas Chain Saw Massacre كما ذكر المخرج للناقد سكوت فونداس سنة 2012.
في عام 1974 عندما أخرج هوبر ذلك الفيلم، قبل عامين من قيام رفن بمشاهدته، التزم أيضًا بالكتابة والتصوير ووضع الموسيقى. ليس منفردًا بل مع فنانين آخرين. وحسب المقابلة مع فونداس أيضًا، أصيب رفن بنوبة تفاعل شديدة جعلته يقرر أنه يريد أن يقوم بكل شيء عندما يخرج الأفلام. لم يستطع رفن القيام بتصوير أفلامه، لكنه كتبها وقام بإنتاج بعضها وشارك بصمت في مونتاج معظمها. وهو بدأ بتحقيق أفلامه في الدنمارك ثم انتقل للعيش والعمل في هوليوود.
> كيف يختلف تحقيق الأفلام في الدنمارك عن تحقيقها في هوليوود.
- في كثير من الجوانب. هوليوود ليست المكان المفضل لممارسة حريتك إلا إذا استطعت الحصول عليها بقوّة ومنذ البداية. قد تكون مخرجًا مستقلاً بنى شهرته بجهده الخاص وعبر المواضيع التي اختارها وألّف الجمهور الذي يتابعه. هذه أفضل طريقة. في الدنمارك كما في هوليوود وفي أي مكان في العالم.. الميزانية شيء مقدس على صانعي الأفلام الالتزام بها ومعظمهم يفعل ذلك، لكن الضغوط في هوليوود أعلى لأن التكلفة أعلى.
> هل يعني ذلك أنك مخرج مستقل يعمل بنجاح ضمن المؤسسة الهوليوودية؟
- لن أذهب صوب هذا التعميم. أحب أن أبقى مستقلاً قدر ما أستطيع.