يحيى الحوثي يدير تمرده من برلين.. وحكومة ميركل في ورطة قانونية

أعلن عن وجوده في بون عبر التلفزيون الألماني والتقى سياسيين وبرلمانيين * شقيق زعيم «أنصار الله» عاد إلى برلين بجواز ألماني «باطل»

أنصار يحيى الحوثي خلال استقباله بعد عودته إلى صنعاء يوليو عام 2013
أنصار يحيى الحوثي خلال استقباله بعد عودته إلى صنعاء يوليو عام 2013
TT

يحيى الحوثي يدير تمرده من برلين.. وحكومة ميركل في ورطة قانونية

أنصار يحيى الحوثي خلال استقباله بعد عودته إلى صنعاء يوليو عام 2013
أنصار يحيى الحوثي خلال استقباله بعد عودته إلى صنعاء يوليو عام 2013

ظهر يحيى بدر الدين الحوثي من جديد، في مدينة بون الألمانية، مطلع شهر يونيو (حزيران) الماضي، بعد أن كان قد غادرها عام 2013 إلى اليمن.. عاد يحيى الحوثي - والذي يوصف بأنه القيادي في حركة الحوثيين و«أنصار الله» - إلى بون «سرا»، قبل أن يعلن عن وجوده من خلال قناة «دوتش فيللة» الألمانية (القناة الرسمية للبلاد)، وذلك بعد ساعات من مقابلته السفير الإيراني في برلين علي ماجدي الذي منحه الضوء الأخضر للظهور، وفقا لمصدر دبلوماسي مطلع.
عاد الانقلابي الحوثي، المتهم بعدة قضايا إرهابية، إلى ألمانيا مرة ثانية، بعد مغادرتها إلى اليمن وظهر على شاشة التلفزيون الألماني، في انتهاك صارخ لقانون الحماية واللجوء الألماني، خاصة أنه دخل ألمانيا بجواز سفر ألماني مؤقت.
كيف سمحت السلطات الألمانية للإرهابي الانقلابي يحيى الحوثي بالدخول إلى أراضيها رغم مخالفاته الواضحة لقوانين اللجوء لديها؟ كيف التقى مسؤولين رفيعي المستوى بالبرلمان والخارجية الألمانية؟
كيف عقد لقاءات سرية مع دبلوماسيين ومسؤولين إيرانيين في بون وبرلين؟
كيف ظهر على شاشة التلفزيون متحدثًا عن سياسة جماعته الإرهابية، وهو ما يعد تناقضًا وانتهاكًا صارخًا أيضا للمتمتع بحق اللجوء؟
هل لنا أن نأمل في الحصول على إجابات مقنعة – قانونيا وسياسيا – لكل هذه التساؤلات المثيرة للشكوك بل والغرابة؟!
وفق تحقيق ينشر بالتزامن مع الشقيقة مجلة (المجلة) حاول يحيى الحوثي أن يحيط رحلة عودته إلى ألمانيا، بداية الشهر المنصرم، بالسرية التامة، وكان يرفض الظهور على وسائل الإعلام بشكل علني، إلى أن وصل إلى برلين يوم 22 يونيو الماضي. ووفقا لمصادر موثوقة قالت إن القيادي (الميداني) الحوثي عقد لقاء ثنائيا في بيت السفير الإيراني علي ماجدي ثم التقى بأعضاء لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الألماني، والتقى كذلك بمسؤولين في وزارة الخارجية الألمانية في برلين.
وخلال مشاركة يحيى الحوثي في أحد برامج قناة «دوتش فيللة» الألمانية، طرح وجهة نظر التمرد وهاجم بضراوة التحالف العربي بقيادة السعودية. أما ما يتعلق بالمفاوضات الحالية في الكويت، فلا يتوقع يحيى الحوثي وفقا لحديثه للقناة الألمانية 29 يونيو الماضي الوصول إلى نتائج، بالإضافة لذلك أكد الحوثي رفضه تسليم أسلحة المتمردين ما قبل الوصول إلى نتائج في المفاوضات الحالية في الكويت.
انتهاك حق الحماية واللجوء
الشيء المثير في ظهور يحيى الحوثي، في ألمانيا أنه ما زال يحتفظ بحق اللجوء في ألمانيا، وهو يحمل صفة نائب في البرلمان اليمني، ومغادرته أكثر من مرة إلى اليمن، وهذا ما يعد مخالفا لقانون حق اللجوء إلى ألمانيا، وهذا ما أكده أحد المحامين الألمان المعني بمثل هذه القضايا.
لقد عاد يحيى الحوثي إلى اليمن في يوليو (تموز) عام 2013 وهو يحمل جواز سفر ألمانيا مؤقتا (يجدد كل عامين بشرط الإقامة على الأراضي الألمانية)، وفي سرية تامة عاد الحوثي إلى برلين أغسطس (آب) 2014 لتجديد جوازه للمرة الثانية، وهو حاليا يستعد لتجديد جوازه للمرة الثالثة والتقدم للحصول على حق الإقامة الدائمة، وهو ما يعد مخالفة صريحة للقانون الألماني.
هذا ما ذكره لنا محامٍ متخصص في شؤون الأجانب وقضايا الهجرة، ويعمل بشكل متطوع في مكتب تابع لكنيسة «كرتاس» يقدم المشورة القانونية وبعض الخدمات الإدارية للأجانب في قضايا اللجوء والهجرة في مدينة بون. وأضاف مكتب «الكرتاس» أن «القانون الألماني الخاص بحق اللجوء يسمح بحرية السفر داخل أوروبا، خاصة دول (الشنغن)، لكنه يحرم طالب اللجوء من السفر إلى موطنه الأصلي، وإن سافر طالب اللجوء إلى موطنه، فيسحب منه حق اللجوء حال عودته».
والشيء الآخر الذي يتنافى مع حق اللجوء السياسي الذي يتمتع به يحيى الحوثي، هو ممارسته النشاط السياسي والدعائي لحركة التمرد الحوثي، وهو ما يعتبر تناقضًا وانتهاكًا صارخًا إلى حق اللجوء. وكانت وسائل الإعلام الألمانية تتواصل وباستمرار مع يحيى الحوثي خلال الفترات التي تنشب فيها الحروب في الفترة من 2004 إلى 2010. وتعرفه بأنه قيادي في حركة الحوثيين، وكان يقدم نفسه كممثل ومنسق للحوثيين في الخارج. إن عودة يحيى بدر الدين الحوثي شقيق زعيم التمرد عبد الملك الحوثي إلى ألمانيا في هذا التوقيت بالذات ونشاطه من داخل أوروبا يثير الكثير من التساؤلات حول علاقاته ووضعه الاستثنائي على الأراضي الألمانية.
يذكر أن الإنتربول الدولي وافق على إدراج يحيى الحوثي ضمن قائمة الإرهابيين عام 2007 والمطلوبين دوليًا، بناءً على طلب تقدم به المخلوع علي عبد الله صالح، بتهمة تشكيل جماعة مسلحة مع آخرين بهدف القيام بأعمال إرهابية، ورغم ذلك فإن هذا القرار لم يفعّل إلا بعد عام 2010.
نقل رهينة ألماني
من اليمن إلى عمان
أكدت مصادر ألمانية مطلعة أنه بعد لقاء يحيى الحوثي بمسؤولين ألمان في برلين أطلقت حركة الحوثي سراح رهينة ألماني كان محتجزا لديها في صنعاء. وفي غضون ذلك كشفت الخارجية العمانية يوم الثلاثاء الموافق 21 يونيو الماضي أن مواطنا ألمانيا كان محتجزا في اليمن نقل جوا إلى مسقط، في الوقت الذي لم تؤكد فيه الحكومة الألمانية ما ذكرته الخارجية العمانية، ولم تنفه.
وقالت الخارجية في بيان لها إن المواطن الألماني نقل جوا من العاصمة اليمنية صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون على رحلة تابعة لسلاح الجو العماني.
ولم تكشف السلطات العمانية عن اسم الرهينة الألماني. وأضافت الوزارة أن عمان كانت قد تلقت طلب مساعدة من الحكومة الألمانية. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) نقل أيضا ثلاثة من الأميركيين جوا من اليمن إلى عمان.

دور سياسي لشقيق زعيم التمرد
اشترك يحيى الحوثي في مفاوضات مخرجات الحوار الوطني اليمني، وظهر في مناسبات اجتماعية وسياسية خلال عمليات التمرد الحوثي وحزب المؤتمر بزعامة علي صالح. المشكلة أن يحيى الحوثي يرغب في إدارة الصراع وعمليات التمرد من الخلف، مستفيدا من علاقاته العامة والسياسية في ألمانيا ودول العالم بشكل عام. وشهدت اليمن منذ أغسطس 2014 توسعا للتمرد الحوثي بالسيطرة على السلطة وعدم الالتزام بمخرجات الحوار اليمني الذي رعاه جمال بن عمر، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، فمنذ ذلك الحين والتمرد الحوثي في سباق لفرض سيطرته وسيطرة الإمامة من جديد في اليمن، حسبما يطرح المراقبون. ووفقا لتقارير معلوماتية من داخل اليمن، فقد أسندت حركة التمرد الحوثي مهمة العلاقات العامة مع القبائل اليمنية إلى يحيى الحوثي، فقام بعمل بعض الجولات خلال التمرد الحوثي. وظهر في صور داخل مجالس شعبية «مقيمًا» في مدن يمنية لحشد التأييد والدعم للحركة وجناحها العسكري (أنصار الله).
وفي أعقاب عمليات «عاصفة الحزم» باسم التعاون العربي العسكري المشترك في 26 مارس (آذار) 2015. لم تظهر قيادات الحوثي في وسائل الإعلام والأماكن العامة لأسباب أمنية، لكن المصادر السياسية المقربة من الحركة، أكدت أن هناك دورًا سياسيا ليحيى الحوثي رسمته له الحركة من خلال زيارته الأخيرة إلى ألمانيا.
شقيق زعيم المتمردين متورط بأعمال إرهابية
يُعد يحيى بدر الدين الحوثي ثاني أكبر أبناء بدر الدين الحوثي، درس في المعاهد العلمية وأخذ عن والده بدر الدين الحوثي العقيدة الزيدية الجارودية القريبة من العقيدة الشيعية الاثني عشرية، ولد في عام 1961م في محافظة صعدة، شمال غربي العاصمة صنعاء، وانتمى إلى حزب المؤتمر الشعبي العام، وأصبح نائبا في البرلمان اليمني عن المؤتمر الشعبي العام في عام 2003.
في عام 2004م، قاد أخوه حسين بدر الدين الحوثي تمردا مسلحا ضد الحكومة اليمنية، مما جعل يحيى بدر الدين الحوثي يتبنى التقية ليحمي نفسه، التي هي أساس من أساسيات العقيدة الشيعية الجارودية، فعبر عن سخطه على التمرد، وأعلن عن تأييده للحكومة اليمنية في حينها، ولعب دور الوسيط في تلك الحرب محاولا إيقافها ظاهريا، بينما كان في حقيقة الأمر يدعم ويساند التمرد بشكل سري غير محدد، بل كان يعتبر المعركة معركتهم ضد الحكومة اليمنية، فهو أحد أبناء العائلة الحوثية التي تقود التمرد في صعدة بدعم وتشجيع خارجي.
وبعد مقتل أخيه حسين في الحرب الأولى مع الحكومة في عام 2004، أدرك يحيى بدر الدين الحوثي أن بقاءه في اليمن لم يعد مجديا، فغادر اليمن إلى الخارج، وبالتحديد إلى السويد، ثم انتقل إلى ألمانيا. وهناك، طلب حق اللجوء السياسي في مدينة بون، ومما لا شك فيه أن تلك الخطوة التي قام بها يحيى بدر الدين الحوثي قد تمت بإيعاز من المخابرات الإيرانية، وبالتنسيق مع أجهزة مخابراتية دولية.
في 25 يوليو عام 2013. عاد الشقيق الأكبر لزعيم الانقلابيين الحوثيين يحيى بدر الدين الحوثي، عضو مجلس النواب اليمني (البرلمان) عن الدورة البرلمانية 2003 - 2009 والكتلة البرلمانية لنواب حزب المؤتمر الشعبي العام، حزب المخلوع علي عبد الله صالح الحليف القوي لميليشيات الحوثي، الذي تمت الإطاحة به في ثورة الربيع العربي عام 2011. بعد 33 سنة قضاها في الحكم، عاد إلى اليمن بعد قضائه لعدة سنوات في ألمانيا الاتحادية كلاجئ سياسي بسبب تمرد الحوثيين، وذلك بموجب ضمانات من الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وذلك للمشاركة في مؤتمر الحوار في حينه بعد تعيينه عضوا في مؤتمر الحوار الوطني الشامل عن جماعة الحوثي.
ورفع البرلمان اليمني عن يحيى الحوثي الحصانة البرلمانية مرتين بطلب حكومي في أثناء الحروب التي وقعت بين القوات الحكومية وجماعة الحوثي المسلحة، كان آخرها عام 2010.
وكان يحيى الحوثي قد وصل إلى ألمانيا قادما من إحدى الدول الإسكندنافية عام 2006. وطلب حق اللجوء السياسي وحصل عليه بالفعل.
الدعم المباشر من معمر القذافي
وخلال فترة حروب صعدة على الحوثيين، التي شنها عليهم حليفهم الحالي علي عبد الله صالح (2004­2010) بسبب تمردهم، حصل يحيى الحوثي على الدعم الكبير من عدة دول، بينها إيران والعراق، وكانت له فرصة تاريخية يحصل فيها على الدعم السخي على طبق من ذهب، حيث وجهت له دعوات لزيارة عدد من العواصم، أكثر من مرة، حتى مطلع عام 2012. وكانت جميع زياراته يلتقي فيها بعض المسؤولين والشخصيات الشيعية الإيرانية والسياسيين الفاعلين والمؤثرين، وكل ذلك لغرض الدعم غير المحدود، خصوصا في ظل خوض الحوثيين حروبا مع الحكومة بسبب تمردهم آنذاك. لم يكتفِ يحيى الحوثي، شقيق زعيم الانقلابيين في اليمن، بحصوله على الدعم من إيران، أو من الشخصيات الشيعية في العراق، بل إنه حصل على الدعم المباشر من الرئيس الليبي معمر القذافي، ماليا وسياسيا، وذلك نكاية بالمملكة العربية السعودية وقتها، في حين قالت مصادر إن القذافي «قدم أكثر من عشرين مليون دولار ليحيى بدر الدين الحوثي». وفي الوقت الراهن، يُعد يحيى الحوثي مهندس الانقلاب، بحسب ما يقول عنه بعض المحللين السياسيين والمقربين منهم، وهو أيضًا من الرعيل الأول المؤسس للحركة الحوثية، وهو أالذراع السياسية للحركة الحوثية ولأخيه زعيم الانقلابيين عبد الملك بدر الدين الحوثي في الوقت الراهن، وخلال الحروب الست التي خاضوها مع الحكومة. غير أن هناك من يقول عكس ذلك. عمل يحيى الحوثي وبكل دهاء على تسويق الحركة الحوثية في الدول الأوروبية قبل عودته إلى اليمن، خصوصا في ألمانيا الاتحادية، ولم يقدمها كجماعة متمردة، بل قدمها كجماعة دينية أو أقلية عرقية تعاني من الاضطهاد من نظام الرئيس علي عبد الله صالح. وقال أحد القيادات المقرب من الميليشيات الحوثية، رفض الكشف عن هويته خوفا من انتقام الميليشيات، إن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية والنظام الإيراني كان يُعد يحيى بدر الدين الحوثي لأن يكون بديلا لشقيقه عبد الملك في المرحلة السياسية القادمة، وإنهم لم يجعلوه يتولى أي مهام سياسية أو قيادية في الوقت الراهن، ويعمل من وراء الستار، وذلك ترتيبا لمنصب كبير تريده له».
من جانبه، يقول الصحافي والمحلل السياسي عبد الله حزام، في تصريح خاص إن «يحيى الحوثي من الرعيل المؤسس للحركة الحوثية، وهو أحد أهم الأذرع، بل يُعد الذراع السياسية للحركة ولأخيه حسين بدر الدين الحوثي خلال الحروب الست التي خاضوها مع الحكومة، ولكن كثيرا من المنظرين السياسيين للحركة الحوثية، إن لم نقل الصف السياسي الأول للحركة، فضل الاختباء والتخفي هروبا من تحمل الثأر، خصوصا بعد أسلوب العنف المفرط، والوحشية العسكرية التي استخدمتها الحركة مع خصومها السياسيين أو القبليين من تدمير منازل وتشريد أسر خصومهم وعمليات قتل واختطافات».
وتابع القول إن هذا «جعل الحركة الحوثية تدفع بمجموعة من الصف الثاني أو الثالث إلى واجهة المشهد، سواء السياسي أو العسكري، وستجد هذا الأمر واضحا من النظر إلى ما أطلقوا عليه اللجنة الثورية العليا، أو حتى وفد الحركة إلى مشاورات السلام الحالية في الكويت، حيث ستجد أنهم لم يدفعوا بأي شخصية من الشخصيات السياسية البارزة لديهم».

منهج القوة والوحشية
وتوضيحا للوحشية التي ينتهجها الحوثيون، أضاف المحلل السياسي عبد الله حزام : «لقد ذهب يحيى الحوثي وشقيقه عبد الملك الحوثي والجناح العسكري لحركتهم إلى القوة المتوحشة خلال التحرك من صعدة إلى صنعاء مرورا بمحافظة عمران، وقمعوا معارضيهم من القبائل في محافظة صعدة نفسها، ووصل بهم الأمر إلى مصادرة أراضي وممتلكات مجموعة كبيرة من أبرز مشايخ القبائل، الأمر نفسه الذي تكرر في العاصمة صنعاء في محافظة ذمار، وهي في العمق الجغرافي والاجتماعي الزيدي الذي يعد الحاضنة المحتملة للحركة الحوثية التي أصبح داخلها كثير من الثارات الشخصية والقبلية والسياسية كذلك». وتُعد الحركة الحوثية، (حركة أنصار الله، والتي كانت تسمى أيضا حركة الشباب المؤمن)، حركة سياسية دينية مسلحة تتخذ من صعدة شمال اليمن مركزا رئيسيا لها، وعرفت باسم الحوثيين نسبة إلى مؤسسها حسين الحوثي الذي قتل على يد القوات اليمنية عام 2004. حيث كان يعد الأب الروحي للجماعة، وتُقاد من قبل شخصيات هاشمية زيدية كاريزماتية، غير أن شقيق زعيم المتمردين، يحيى الحوثي، يُعتبر في نظر الكثيرين مجرما وإرهابيا بسبب تورطه في عمليات قتل واغتيال من خلال إعطاء الأوامر لميليشياتهم.
ومنذ الانقلاب على الشرعية، أعطى يحيى الحوثي الأوامر لميليشياتهم، بعد الاستيلاء على المؤسسات الحكومية بما فيها السجون، بالإفراج عن معتقلين، منهم من حكم عليه بالمؤبد والإعدام، وإلغاء أحكام قضائية، الأمر الذي يوضح جليا تدخله في أمور عدة، منها اختصاصات النيابات. وفي فبراير (شباط) 2010، أصدرت المحكمة الابتدائية الجزائية المتخصصة في قضايا أمن الدولة والإرهاب بصنعاء، حكما غيابيا بالسجن 15 عامًا ضد يحيى الحوثي تبدأ من تاريخ القبض عليه، وذلك بتهمة المشاركة في مجموعة مسلحة إرهابية، والتورط بأعمال إرهابية وهجمات على سلطات دستورية والتخطيط لاغتيال شخصيات، منها السفير الأميركي في صنعاء، وهو الأمر الذي يؤكده محللون سياسيون ومقربون من الحركة الحوثية، من تورط يحيى الحوثي بالأعمال الإرهابية والقتل والتخطيط لقتل شخصيات بعد عودته من منفاه في ألمانيا. ويؤكد عبد الله حزام أن الأمر يزداد صعوبة وتعقيدا مع هذه الحركة، وأنه «كلما اتجهنا جنوبا باتجاه محافظة البيضاء أو تعز أو عدن، وكذلك إذا اتجهنا شرقا في محافظة الحديدة، وهي المناطق ذات المذهب السني والبعد الثقافي المعادي للمنهج الفكري للحركة (الإمامة)، كان فيها أكثر وحشية، بل نستطيع القول إن الحركة الحوثية في استخدامها لمنهج التوحش في هذه المناطق كانت وجها آخر للتنظيمات الإرهابية أمثال (القاعدة) في أفغانستان أو (داعش) في العراق»، مشيرا إلى أن «كل ذلك دفع النخبة السياسية للفكر الإمامي الذي تعتبر الحركة الحوثية ذراعه العسكرية إلى الاختفاء من واجهة المشهد، واللعب من خلف الستار».
بعد مغادرة يحيى الحوثي اليمن، وطلب اللجوء السياسي في ألمانيا، اعتمدت تصريحاته في الفضائيات والوسائل الإعلامية الدولية، على أن يجعل الدول الأوروبية تنظر إليهم وكأنهم يعانون من مظلومية مع نظام صالح. وتعليقا على ذلك، يقول الكاتب والباحث عبده البحش، في تصريح إن «يحيى بدر الدين الحوثي أراد من خلال مغادرته اليمن، وطلب اللجوء السياسي في ألمانيا، أن يدوّل قضية التمرد، وأن يجعل منها قضية عادلة تعني الشيعة الزيدية في اليمن، فكان يظهر على الفضائيات متحدثا عن مظلومية الشريحة الزيدية الشيعية في اليمن، ويتحدث عن طغيان الحكومة اليمنية ومحاربة الزيدية في صعدة وحرمانهم من التعبير عن أنفسهم وممارسة حقوقهم الدينية المشروعة، وجعل من التمرد الذي تقوده عائلته قضية طائفية ومظلومية لا تقل عن مظلومية الشيعة عبر التاريخ كما زعم». وأضاف: «اتخذت الحكومة اليمنية ضده إجراءات عقابية نتيجة موقفه المفاجئ وتحوله إلى خصم، فقرر البرلمان اليمني إلغاء عضويته وتجريده من الحصانة، وعممت الحكومة اليمنية اسم يحيى بدر الدين الحوثي على شبكة الإنتربول الدولي، بتهمة الخيانة العظمى ضد الوطن آنذاك، عندما أعلن صراحة تأييده للتمرد واتهام الحكومة اليمنية بممارسة جرائم إبادة جماعية لأبناء الطائفة الزيدية في محافظة صعدة، وكان يكرر دائما في لقاءاته مع الفضائيات العربية والدولية أن المشكلة لن تحل عسكريا، وأنه لا بد من الحوار والتسليم بمطالب الجماعة الحوثية».
جاء قرار عودة يحيى الحوثي إلى اليمن في شهر يوليو عام 2013م، بعد التنسيق مع الرئيس عبد ربه منصور هادي، وكان ذلك الوقت يصادف شهر رمضان المبارك عند اليمنيين والمسلمين في أنحاء العالم، الأمر الذي جعل الحوثيين يستغلون هذه المناسبة لإظهار قوتهم، حيث تحرك موكب كبير من السيارات المليئة بالمسلحين إلى مطار صنعاء الدولي، وكان في استقباله عدد من قادة الحركة الحوثية، أهمهم صالح هبرة رئيس المجلس السياسي للحوثيين، والدكتور أحمد شرف الدين، وحسن زيد أمين عام حزب الحق، وحسن أحمد شرف الدين وزير الدولة، وغيرهم من قيادات الحركة الحوثية، وقاموا باستعراض قوتهم أثناء سير الموكب من المطار إلى مقر إقامة يحيى الحوثي، وهي رسالة واضحة لخصوم الحركة الحوثية، وخصوصا الإخوان المسلمين والسلفيين. وساهمت عودة يحيى الحوثي إلى اليمن في الوقوف إلى جانب أخيه زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي، والعمل على قيادة الجناح السياسي للحركة، مما جعل بعض المراقبين السياسيين يرون أن له دورا كبيرا فيما يجري في البلاد من انقلاب واقتحام مؤسسات الدولة ومنازل المناوئين لهم.



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري