كونفشيوس ورقي الفرد وسعادة المجتمع

غاية الفعل الأخلاقي تحقيق هدف عظيم جدًا

* أستاذ فلسفة
* أستاذ فلسفة
TT

كونفشيوس ورقي الفرد وسعادة المجتمع

* أستاذ فلسفة
* أستاذ فلسفة

لا بد أن تمر الحضارة، أية حضارة، في مرحلة معينة من تاريخها، بوضع تتهدم فيه الأخلاق وينحل فيه المجتمع. ويبدأ الناس حينئذ في طرح السؤال حول الأسباب والبواعث والحلول، من أجل النهوض من جديد. في هذه المرحلة، لا بد أن تكون قيم الحضارة قد انهارت، وتهاوت المبادئ التي حملتها لمدة طويلة وأقامت لها أسسا وأركانا. مما يجعل إعادة طرح السؤال حول الأخلاق، والعمل على إعادة تقويمها، أمرا ملحا بهدف بناء مجتمع سليم، والبحث عن حياة سعيدة.
عاشت الحضارة الصينية القديمة هذا الوضع، في الفترة المعروفة بالربيع والخريف، التي بدأت نحو القرن العاشر قبل الميلاد، حين كان البلد في حالة اضطراب دائم، والسلطة في تغير مستمر، والاقتصاد في أزمة كبيرة، حيث لم تستطع الدعاوى تغيير الوضع الراهن. وإذا كان كل تراجع يبعث من رحمه منقذا، فقد مثل كونفشيوس الرجل الذي حمل على عاتقه إعادة تقويم البناء الصيني المتهاوي.
عاش كونفشيوس (551 – 479 ق.م) في مقاطعة لو. وهي مقاطعة إقطاعية حمتها الجبال بممراتها المنيعة من هجوم الجيران، وحمل اسمها اسم الجبل الذي كانت أمه تصعد عليه للصلاة قبل أن تحمل به. كان أبوه طاعنا في السن، وتوفي تاركا إياه في المهد من دون حماية، أو وضع اجتماعي محترم. إلا أنه ثقف نفسه بسبب عمله وقربه من القصور، حيث كان النبلاء يحتكرون المعرفة. وساعده قربه من معاناة الناس، على رؤية العالم مفككا يبعث على الحزن، يستدعي إدخال تعديلات فعالة. وعرف أنه لا يمكن الخروج من هذا الوضع، إلا عن طريق العلم، والأخلاق، والتوازن، والنبل، حيث يحيا الفرد والمجتمع حياة هادئة سعيدة.
أقام كونفشيوس بناء أخلاقيا متينا، يقوم على جوهر المجتمع وهو الفرد. حيث اعتبر تحقيق خلاص الدولة والمجتمع غير ممكن إلا من خلال الرقي بالفرد، والبحث عن «الرجل النبيل في داخله»، مؤكدا أنه كائن أخلاقي في المقام الأول. ومؤمنا بضرورة إرجاع الفرد إلى فطرته الإنسانية الحقة، وتهذيب ذاته بهدف إصلاح المجتمع، وبناء علاقات إيجابية مع الآخرين. فالنبل الأخلاقي ليس حكرا على طبقة معينة أو أفراد بعينهم، كما كان معروفا في زمنه، حيث كان صفة لا تتمتع بها إلا الأرستقراطية. بل اعتبر على العكس تماما، أن أصحاب الامتيازات، غالبا ما يسلكون سلوك الحمقى أو الحيوانات. وبالتالي فالنبل، بالنسبة له، من حق الجميع، وبإمكان كل فرد تحصيله، لو كان سلوكه بعيدا عن الأنانية فقط، وما دام الفرد ليس خيرا بطبعه وليس شريرا بطبعه، وإنما إمكانية للتخلق، كبذرة لها إمكانية الإزهار في حال وجدت الظروف الجيدة.
ويفرض هذا بالضرورة، العمل على التربية والوعي والتركيز على القلب، والقدرة على التمييز بين الخير والشر، وخلق داخلنا الرجل النبيل المتحرر من كل الشرور، التي تعيقنا عن الهدوء والتناغم، وبالتالي السعادة. إلا أن هذا لا يتم إلا عندما يتحمل الفرد مسؤوليته، ويصبح قادرا على أن يصبح أفضل مما هو عليه الآن. فطرح كونفشيوس، تبعا لذلك، ولأول في تاريخ الصين القديمة، فكرة الإرادة الإنسانية، حيث يتوجب على الفرد البحث عن الخطأ في ذاته لا خارجها، ملغيا بذلك سلطة السماء وتحملها أخطاء البشر، والإرادة الإنسانية، هي البداية من أجل الوصول إلى الكمال. من هنا سينبثق كذلك، مفهوم الحرية في أداء القانون، لتصبح شرطا من شروط الفضيلة. يقول كنفوشيوس: «دع مبدأك يقُدْك لأن تفعل أفضل ما في وسعك للآخرين. كن فاضلا في كل ما تقوله وقد نفسك تجاه الصواب». ويرى كونفشيوس كذلك، أن أداء القانون يجب ألا يرتبط بمنفعة أو لذة، وإلا فقد عموميته. وهو هنا، يتفق مع كانط، في اعتبار القانون الأخلاقي ثابتا في كل فرد. لذلك فإن الفرد يشعر بسعادة عند الالتزام به، لأنه يتفق وطبيعتنا الإنسانية، وهو يؤدي إلى الانسجام مع العالم، عن طريق إدراك القانون الأخلاقي الكامن فينا، والكامن في أجزاء العالم. فعندما ينسجم الفرد، فكل شيء يتجه نحو الانسجام العالمي، وينعكس على الفرد فيجعله سعيدا. والأفراد السعداء، يجعلون المجتمع سعيدا. أما الأفراد المضطربون، فيجعلونه كذلك مضطربا. ولا يقتصر هذا الاضطراب على المجتمع وحسب، بل يتعداه إلى العالم المحيط، والعالم الذي نعيش فيه. في إشارة إلى فلسفة بيئية أصيلة. يقول كونفشيوس: «دع حالات الانسجام والاتساق تسُدْ، عندئذ فإن النظام سوف يسود داخل السماء والأرض، وسوف تتجه كل الأشياء نحو الازدهار والكمال».
لم يكتف كونفشيوس بالحديث عن نسقه الأخلاقي وحسب، وإنما عمل على تأسيس قواعد للقيام به، فتحدث عن «الحد الوسط»، وهو الطريق الذي يخلق التوازن داخل الفرد، بعيدا عن أي إفراط أو تفريط في الحياة، «الوسط نبيل حقا كالفضيلة الأخلاقية، إلا أنه نادرا ما تدركه العامة لمدة طويلة». من دون الوسط، يصبح القانون الأخلاقي فاقدا للفاعلية. فأهميته تكمن في تحقيق التوازن بين الجانب العقلي والجانب الوجداني، فلا سعادة من دون هذا التوازن الذي يمكن الحصول عليه بواسطة التهذيب والتربية. وهو لا يعني مجرد وسط بين الجانبين وحسب، وإنما يتضمن البعد عن أي شكل من أشكال الانحراف الخلقي، ويعطينا الفعل الفاضل المعتدل، فلا نحتاج إلا إلى اتباع الطريق «الطاو» من أجل تحصيل السعادة.
غاية الفعل الأخلاقي هي تحقيق هدف عظيم جدا، أي تحقيق أكبر قدر من السعادة والخير للآخرين. «عندما تتعامل مع الآخرين، فقدم أفضل ما عندك»، أي إن المنفعة التي يراد الحصول عليها هنا، هي منفعة ذات طابع اجتماعي وشمولي. الرجل الفاضل هو من يرغب في تثبيت أقدام الناس، كما يرغب في تثبيت قدميه. وهو تصور كنفشيوسي، يؤمن بأن الإنسان هو، في جوهره، كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش حياته إلا وسط المجموع. فالأفراد متساوون، ولا تناقض في أن يتخذوا مقاييس لبعضهم. وهكذا حرص كونفشيوس منذ البداية، على ألا تكون تلك القيم مفرطة في مثاليتها وتجردها، وإنما أن تكون قيما علمية تعمل في صياغة سلوك الفرد تجاه ذاته وتجاه الآخرين، أكثر من مجرد كونها قيما يحملها الفرد من دون وعي، أو من دون أن تمارس تأثيرا في سلوكه. بل هي قواعد عملية تأخذ على عاتقها، مهمة العمل على إيقاظ الحساسية بالقيم لدى الناس، والمشاركة في تربية الإنسانية وفقا لمبادئ كونفشيوس.
إيجازا وتوضيحا، يمكن القول إن فلسفة كونفشيوس العملية تتمحور حول أربع فضائل رئيسة تتشعب عنها كل القيم الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها الفرد حتى يصل إلى الكمال الإنساني:
- فضيلة جين: الخيرية، الإنسانية، الصدق، الإخلاص البشري. وهي سمة خاصة بالطبيعة البشرية، تجعل الفرد يولد، منذ البداية، ولديه شعور بأنه كائن اجتماعي، وخلق ليعيش مع الجماعة. وهي تلك الحاسة التي تتولد كمنبه، من أجل توجيه نظر الإنسان إلى ذاته، بوصفه إنسانا اجتماعيا، يحمل مشاعر تؤهله للعيش مع الآخرين والشعور بالإنسانية ككل.
- فضيلة الاستقامة: وتدفع الفرد إلى الالتزام بكل ما هو مستقيم فقط. وهي من الصفات التي يجب أن يتصف بها الرجل النبيل، مهما كانت الظروف. وهي ضد الخداع وضد أن يتظاهر الفرد بما ليس فيه.
- فضيلة طاعة الأبناء: ترتبط طاعة الأبناء كثيرا بمفهوم الجين. فهي في نظر كونفوشيوس، تشكل جذور الإنسانية. ولما كانت الإنسانية هي أسمى قيمة للسلوك الأخلاقي، فإن طاعة الأبناء وما يرتبط بها من فضيلة الحب الأخوي، تمثل الأساس لكل الفضائل الأخرى، حيث يشير إلى حالة المشاركة الحسية والروحية داخل الأسرة. وهي قيمة يمكن أن تمتد إلى كل العلاقات الاجتماعية لترتبط بالحاكم، وتمتد إلى قلب الإنسانية، وتربط بين الأجيال مهما اتسعت السنين.
- فضيلة «لي» الطقوس: مبدأ نظام اجتماعي يمنع ظهور الفوضى الاجتماعية والأخلاقية، كما تمنع السدود الفيضان. السلوك الإنساني يعتمد على قواعد للسلوك، وضعت في أحداث سابقة، فأثبتت جدارتها على مر الأجيال، أهميتها تكمن في شعور الفرد بأن سلوكه الخارجي في حاجة إلى ضبط، حتى لا يتخطى ما هو صحيح، حيث يتسق ويتوازن الفرد مع الموقف الذي هو فيه، فيقول: «إن الحديث البارع المنمق وأسلوب التظاهر والادعاء، نادرا ما ينسجمان مع المطبوع على عمل الخير».
لا يمكن أن نوفي كونفوشيوس حقه في هذا المقال القصير، لأن فهم مذهبه يتألف بشكل مترابط من عناصر متعددة، لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، هي الفرد الفاضل الذي لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق التربية الفاضلة. وهذه تحتاج إلى أسرة صالحة. إلا أن هذه الأسرة لا يمكن لها أن تؤدي وظيفتها، إلا في حال وجود حاكم فاضل يوفر شروط الهدوء والسعادة لشعبه. والدولة السعيدة تحافظ على بيئتها ومحيطها جميلين أنيقين. والحاكم هو الآخر، لا يمكن أن يؤدي مهمته إلا في حال وجود أفراد متزنين. هنا نعود إلى الفرد وإلى بداية الحلقة. فكل عنصر عند كونفشيوس إلا ويؤدي مهمة معينة، غايتها الأساسية، هي سمو الفرد وسعادة الجماعة.



«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز
TT

«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز

«موعدنا في شهر آب» الهدية التي أرسل بها ماركيز من العالم الآخر إلى قرائه بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، تثير كثيرا من الأسئلة، بداية من النص ذاته وكاتبه وطبيعة تعاقده مع القارئ، وانتهاء بأسئلة عامة أخرى حول صناعة النشر والتحرير وحدود حرية التصرف في نص بعد رحيل كاتبه، خصوصاً أن نشر النوفيلا القصيرة قد أُتبع بإعلان نجلي ماركيز عن مسلسل تنتجه منصة «نتفليكس» عن «مائة عام من العزلة» أشهر روايات ماركيز التي رفض رفضاً قاطعاً نقلها إلى السينما في حياته. السؤال حول أخلاقية التصرف في أعمال الكاتب الراحل سبق تناوله ولا يمكن الوصول إلى كلمة فصل بشأنه؛ فتراث المبدع الراحل ملك لورثته بحكم القانون، يحلون محله لمدة خمسين عاماً في التصرف به قبل أن يصبح مشاعاً إنسانيّاً. وقد أجاد ابنا ماركيز الدفاع عن قراريهما بخصوص الروايتين.

تبدو مقدمة الرواية الجديدة التي وقعها رودريغو وغونثالو ماركيز بارتشا، عذبة ومراوغة، إلى حد يجعلنا نتوهم أن كاتبها هو ماركيز ذاته؛ حيث تتجلى فيها سمات أسلوبه، الذي يستند إلى حكمة اللايقين (المبدأ الذي نظَّر له كونديرا، دون أن يتجلى في كتاباته بقدر ما يتجلى في أسلوب الساحر الكولومبي).

بداية هناك الأسف على ذاكرة الأب، وأنقل هنا وكل الاقتباسات التالية عن نص الترجمة العربية التي أنجزها وضاح محمود، «كان فقدان الذاكرة الذي عاناه والدنا في السنوات الأخيرة من حياته أمراً غاية في الصعوبة علينا جميعاً، مثلما يمكن لأي امرئ أن يتصور ذلك بسهولة». وينقلان عنه: «إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء».

ويقرر الولدان أن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له، ويشيران إلى طبيعة العمل الصعب للمحرر على النسخ الكثيرة من الرواية، ويتركان الحديث عن ذلك للمحرر كريستوبال بيرا في ملاحظاته المنشورة تذييلاً للطبعة ذاتها، لاعتقادهما بأنه سيفعل ذلك «بطريقة أفضل بكثير مما يمكن أن نفعل نحن الاثنين معاً، ففي تلك الأثناء لم نكن نعلم شيئاً عن الكتاب باستثناء حكم غابو عليه: هذا الكتاب لا نفع منه ولا بد من تمزيقه». بهذه الملاحظة يهيئان القارئ للمفارقة، فهما لم يمزقا النص، بل قررا نشره بعد أن نظرا في أمر العمل فوجدا أنه يزخر بمزايا كثيرة يمكن الاستمتاع بها، ثم يقرران تحوطاً «في حقيقة الأمر لا يبدو النص مصقولاً كما هو حال أعماله العظيمة الأخرى؛ ففيه بعض العثرات والتناقضات الصغيرة، إنما ليس فيه شيء يمنع القارئ من التمتع بأبرز ما في أعمال غابو من سمات مميزة». هو التلاعب الماركيزي ذاته والقدرة على تقديم مرافعة مقنعة، وبعد ذلك يستبقان القارئ العدو، فيقولان عن نفسيهما ما يمكن أن يقوله، ويؤكدان أنهما «قررا، بفعل يقارب أفعال الخيانة، أن ينشرا النص، مراهنين على مسرة القراء قبل أي اعتبار آخر، فإن هم احتفوا بالكتاب وسروا به، فعسى أن يغفر لنا غابو فعلتنا، ويعفو عنا».

لكن تذييل المحرر كريستوبال بيرا لا يوحي أبداً بأن ثمة معضلات كبرى واجهته في اعتماد نسخة الرواية. يحكي المحرر بداية عن تعارفه مع ماركيز مصادفة بسبب غياب محرره الأصلي كلاوديو لوبيث لامدريد، إذ هاتفته الوكيلة كارمن بالثلس في أغسطس (آب) من عام 2001 تطلب منه العمل مع ماركيز على نشر مذكراته «عشت لأروي». وقد عمل بيرا مع ماركيز على أجزاء من المذكرات عن بعد 200. ثم تأخر استئناف العلاقة بينهما إلى عام 2008. وفي بناء ماركيزي من الاستباقات والإرجاءات التشويقية، يطلعنا المحرر على سيرة طويلة وعلنية لـ«موعدنا في شهر آب» مع كاتبها لا تجعل منها لقية أو مفاجأة أدبية بالمعنى الذي يكون عند اكتشاف نص مجهول تماماً بعد رحيل صاحبه.

يغطي المحرر وقت غيابه عن ماركيز بشهادة سكرتيرة ماركيز مونيكا ألونسو، التي تقرر أنه انتهى من تسليم الملازم النهائية من المذكرات في يونيو (حزيران) من عام 2002، وبدا خاوياً بلا مشروع، لكنها عثرت أثناء تفقدها الأدراج على مخطوطتين، أولاهما تحمل عنوان «هي» والثانية «موعدنا في شهر آب» ومنذ أغسطس 2002 وحتى يوليو (تموز) 2003 انكب ماركيز على العمل في «هي» التي تغير عنوانها عند نشرها في 2004 إلى «ذكريات غانياتي الحزينات». أما «موعدنا في شهر آب» فقد نشر منها فصلاً عام 2003، مما يعد إعلاناً بأنه بدأ المضي قدماً في مشروعه الثاني. لكن الخبر الأول عن هذه الرواية كان أقدم من ذلك، وتحديداً يعود إلى عام 1999 حيث فاجأ ماركيز الحضور في مؤتمر أدبي عن الخيال في الرواية اللاتينية بقراءة فصل من هذه الرواية بدلاً من أن يلقي كلمة، وبعد ذلك نشرت الصحافة خبراً مفاده أن العمل الجديد عبارة عن خمس قصص بطلتها واحدة هي آنا مجدلينا باخ.

يثني المحرر على انضباط مونيكا ألونسو التي لازمت ماركيز فترة كتابته الرواية، من بدايتها عام 1999 إلى عام 2004 حين أنجز النسخة الخامسة من التعديلات وكتب على مخطوطتها: «موافقة نهائية مؤكدة. تفاصيل حولها في الفصل الثاني. انتباه، قد يكون الفصل الأخير هو فصل الختام، هل هو الأفضل؟». حسم ماركيز واضح في بداية العبارة. وأما ما جاء بعد ذلك؛ فيمكن فهمه في إطار الوساوس التي تلاحق الكاتب حتى أمام بروفات الطباعة.

يقرر كريستوبال بيرا أن ماركيز كف عن العمل على الرواية بعد تلك النسخة الخامسة، وأرسل نموذجاً عنها إلى وكيلته كارمن بالثلس في برشلونة. عند هذا الحد كان من الممكن للرواية أن تنشر في حياته دون الدخول في معضلات نشر ما بعد الوفاة، لكن كريستوبال لا يحكي شيئاً عما حدث بين ماركيز والوكيلة. هل عاد وطلب منها التريث أم نصحته هي بذلك؟ لكنه يورد عبارة على لسان ماركيز قالها لسكرتيرته: «أحياناً يجب ترك الكتب كي ترتاح»، وإذا لم تكن العبارة تبريراً لقرار بتعليق النص، فهي مقولة عادية جداً، يعرفها جميع المبدعين ويعملون بها.

يخبرنا المحرر أن الكاتب دخل بعد ذلك في الاستعداد لمناسبة عزيزة، وهي الاحتفال بالذكرى الأربعين لصدور «مائة عام من العزلة» عام 2007 ثم العمل على جمع مقالات كتاب «لم آت لألقي خطبة»، فهل كان الانشغال بالحدثين سبب التأجيل؟ يصل بنا المحرر إلى أن الوكيلة طلبت منه صيف 2010 أن يحث ماركيز على إنهاء «موعدنا في شهر آب» ولم يكن قد عثر على ختام لها حتى ذلك التاريخ، لكنه عثر على إلهام النهاية بعد ذلك، «قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختم بها القصة ختاماً مدهشاً».

رغم كل هذا التأهيل للقارئ بأن العمل انتهى على النحو الأمثل على يد صاحبه، يعود المحرر ليقول إن ذاكرة ماركيز بدأت تخونه، فلا تتيح له أن يوفق بين عناصر نسخته النهائية كلها، ولا أن يثبت التصحيحات التي أجراها عليها. لدينا في حكاية المحرر الكثير من الفجوات مثل فجوات الخفاء التي يتركها الروائيون عمداً. هل تشبث ماركيز بروايته ورفض نشرها بعد كتابة الخاتمة لمجرد أن يملأ أيامه ويقنع نفسه بأنه لم يزل في حالة كتابة، أم أن ظروفاً حالت دون النشر؟

لا يجيب المحرر عن هذا السؤال أيضاً، ويعود فيقرر أن السكرتيرة كانت قد أبقت على الكومبيوتر نسخة رقمية «لا تزال تتعايش بين ثناياها مقاطع من خيارات أو مشاهد أخرى كان الكاتب قد أولاها عنايته سابقاً»، وأنه عمل على تحرير الرواية اعتماداً على الوثيقتين معاً، أي النسخة الورقية الخامسة والنسخة الإلكترونية، مقرراً بأن عمله كان مثل عمل مرمم اللوحات، «إن عمل المحرر ليس تغيير نص الكتاب إنما على جعله أكثر تماسكاً، انطلاقاً مما هو مكتوب على الورق».

إذا كان الكاتب قد اعتمد نسخته الخامسة، فلماذا العودة إلى نسخة إلكترونية سابقة؟

تبقى كل الأسئلة معلقة، والمهم أن الرواية صدرت في النهاية بكيفية تجعلنا نفترض أن تضخيم عمل المحرر في المقدمة والتذييل عمل من أعمال الدعاية المصاحبة للنشر، لأننا بصدد نص يتمتع بالمهارة الماركيزية المعتادة.

البطلة امرأة في منتصف العمر تذهب في السادس عشر من «آب» كل سنة لتضع باقة زنبق على قبر أمها في جزيرة فقيرة، وتمضي ليلتها في فندق، حيث تعثر على عشيق العام في لقاء المرة الواحدة. وفي نهاية الرواية تجد آنا مجدلينا ضائعة بين تجارب حب عابرة لا تجلب سعادة وعدم الاستقرار في الزواج؛ فتقرر في الرحلة الأخيرة استخراج عظام أمها لتأخذها معها وتكف عن الذهاب للجزيرة، الأمر الذي يذكرنا بكيس عظام والدي ريبيكا (ابنة المؤسس بالتبني في «مائة عام من العزلة») وقد أخبرتها عرافة بأنها لن تعرف السعادة ما دامت عظام أبويها لم تدفن، وبدورها تنقل الخبر إلى جوزيه أركاديو بيونديا فيتذكر كيس العظام الذي حُمل مع الصغيرة، ويبحث عنه فيدله البنَّاء بأنه وضعه في جدار البيت، فيستخرجه ويتدبر له قبراً بلا شاهد. وكأن الاستقرار على سطح أرض يستلزم توطين عظام الأسلاف في باطنها.

الرواية الجديدة أكثر شبهاً بتوأمتها «ذكرى غانياتي الحزينات» بداية من رفقة مخطوطيهما، ما يؤكد أنهما كانتا آخر ما كتب ماركيز، وكلتاهما من أقل أعماله ألقاً، وتثبتان معاً أنه رحل وفي نفسه شيء من «الجميلات النائمات» لياسوناري كاواباتا. لكن تتبعه لخطى كاواباتا في «موعدنا في شهر آب» يبدو أكثر رهافة من نموذج الغانيات، فقد جعل البطولة للمرأة هنا وليس للرجل، واستغنى عن حبة المنوم، وإن ظل النوم حاجزاً يحول دون التعارف.

وتبدو في هذه النوفيلا القصيرة مهارات ماركيز كلها، التي جعلته واحداً من السحرة الذين يجبرون القارئ على التخلي عن الممانعة ومنحهم تواطؤه غير المشروط إكراماً لمهارتهم.

البناء محكم؛ فالشخصية الرئيسية آنا مجدلينا مرسومة جيداً، وكذلك بناء شخصيات زوجها وابنتها وابنها ورجالها المجهولين، الجميع يتمتعون بالجودة ذاتها في حدود مساحاتهم بالنص. والمكان محدود بالبيت والعبَّارة والمقبرة وفنادق الجزيرة، ومع ذلك تدبر ماركيز في كل مرة بداية ونهاية مختلفة لكل فصل أو قصة من قصص الكتاب.

يقول ولدا ماركيز إن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له

بناء اللغة هو ذاته المعتاد لدى ماركيز، من حيث الإغراق في البهارات، والميل إلى الحماسة كاستخدام المطلقات في وصف لوثات الحب التي تغير حياة المحب إلى الأبد، «لن تعود أبداً مثلما كانت من قبل» أو تجعل العاشق يشعر بأنه يعرف الآخر «منذ الأزل». وهناك دائماً الرغبات الجامحة، والالتهام المتبادل في نزال الحب. وتمتد حماسة الأسلوب الماركيزي حتى تشمل حفاري القبور، «استخرج الحارس التابوت بمعونة حفار قبور استُقدم للمناسبة مقابل أجر، ثم رفعا عنه الغطاء بلا رأفة». كما تنتقل المشاعر من الشخصية إلى الأشياء حولها، وكأنها تردد ما بداخلها، «ولما دخلت المنزل، توجهت إلى فيلومينا وسألتها مذعورة عن الكارثة التي حلت فيه بغيابها، إذ لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الزهور الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي».

لدينا كذلك سمة المفارقة الماركيزية ترصع الأسلوب كما في هذه العبارة: «وفي السنوات الأخيرة غرقت حتى القاع في روايات الخوارق. لكنها في ذلك اليوم تمددت في الشمس على سطح العبَّارة ولم تستطع أن تقرأ حرفاً واحداً».

يبقى في النهاية أن تأمل الروايتين الأخيرتين يجعلنا نكتشف أن الحسية وعرامة الحياة ظاهرة ملازمة لماركيز على نغمة واحدة منذ بدايته إلى نهايته، وكأنه آلة مضبوطة على هذه الدرجة من الفحولة، بلا أي أثر لمرور العمر أو تداعي الجسد الملازم للشيخوخة، ولا حتى أثر الخوف من الذاكرة الذي نجده في المقدمة والتذييل!