«متروبوليس للسينما» تحتفل بعيدها العاشر ضمن لحظات إبداعية من الشاشة الذهبية

قدّمت 140 مهرجانًا و180 فيلمًا عربيًا وعالميًا منذ تأسيسها

عضو لجنة التحكيم المخرج الفرنسي جاك أوديار ({الشرق الأوسط})
عضو لجنة التحكيم المخرج الفرنسي جاك أوديار ({الشرق الأوسط})
TT

«متروبوليس للسينما» تحتفل بعيدها العاشر ضمن لحظات إبداعية من الشاشة الذهبية

عضو لجنة التحكيم المخرج الفرنسي جاك أوديار ({الشرق الأوسط})
عضو لجنة التحكيم المخرج الفرنسي جاك أوديار ({الشرق الأوسط})

احتفلت جمعية «متروبوليس للسينما» في الذكرى العاشرة لتأسيسها، بحضور لفيف من المخرجين السينمائيين اللبنانيين والأجانب. واستهل الاحتفال الذي تمّ خلاله توزيع جوائز «لحظة في صالة السينما»، بإلقاء كلمة لمديرة الجمعية رانيا مروّة أشارت فيها إلى الإنجازات التي حقّقها القيّمون على هذا الحدث (مهرجان متروبوليس للسينما) منذ تأسيس الجمعية في عام 2006 حتى اليوم. وقالت: «لقد أسسنا هالة فنيّة خاصة ببيروت نابعة من تجربة إنتاج ومفهوم للإبداع اللبناني المنسجم مع خصوصية مدينتنا». وأضافت: «نحن اليوم موجودون في واحدة من صالات سينما متروبوليس التي تشبه تلك التي يجري فيها (أسبوع النقاد) في مهرجان كان السينمائي، ولكن طبعا في غياب السجادة الحمراء. إلا أنها في المقابل شهدت كغيرها من الصالات في هذا المجمّع لحظات استثنائية أرضت فيها جمهورا صعب المراس متطلّبا وجاهزا لكلّ جديد ومتطوّر، ألا وهو الجمهور اللبناني». ومن ناحيتها، فقد أشادت المسؤولة الإعلامية للمهرجان زينة صفير بعدد من المخرجين اللبنانيين والعالميين، أمثال غسان سلهب وجوانا حجي توما ونادين لبكي وربيكا لوتوفسكي وطوبيا باوسنجر وغيرهم من الذين دعموا «مهرجانات متروبوليس» وشاركوا في لجنة التحكيم التي أشرفت على مسابقة (لحظة في صالة السينما)، فشاركوا بنشاطات الجمعية وأطلّوا فيها ضيوفا أكثر من مرة.
وكان قد افتتح المهرجان بعرض لمقتطفات من عروض سينمائية استضافتها «متروبوليس للسينما» تلاه عرض مشابه ضمّ مشاهد من أعمال مخرجين سينمائيين لبنانيين وعرب وأجانب شاركوا في برامج المهرجان منذ عام 2006.
وبعدها أعلنت مديرة المهرجان عن توزيع جوائز مسابقة «لحظة في صالة السينما»، التي شارك فيها عدد من طلاب وهواة تصوير الأفلام السينمائية في لبنان. فعرضت عددا من تلك الأفلام القصيرة التي لا تتعدّى مدّتها الدقائق الخمس كما تشترط المسابقة، وليتم الإعلان بعدها عن أسماء الفائزين الثلاثة فيها:فالنتينا خوند وفرنسوا يزبك وجايمس شهاب.
وتابع الحضور وفي مقدّمتهم أعضاء لجنة التحكيم الذين أشرفوا على المسابقة المذكورة، وبينهم المخرج الفرنسي جاك أوديار (فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2015) عرض تلك الأعمال التي تحكي بغالبيتها عن لحظة مؤثّرة عاشها المشتركون في المسابقة في صالة السينما فقرروا نقلها أمام الكاميرا.
الفيلم الأول الفائز في المسابقة بعنوان (راسل)، وقد نالت عنه مخرجته فالنتينا خوند الجائزة الأولى وهي بطاقة سفر، ستتيح لها حضور مهرجان كان لعام 2017 المقدّمة لها من قبل مكتب السياحة اللبناني في فرنسا. ويحكي الفيلم قصّة عامل النظافة (راسل) من الجنسية البنغلاديشية، الذي أسرته مشاهد من فيلم سينمائي، كان يتمّ عرضه التجريبي في صالة السينما أثناء ممارسة مهنته فيها.
أما الفيلم الثاني (قلبي المحترق) فقد حصد المرتبة الثانية في المسابقة، بحيث نال صاحبه فرنسوا يزبك جائزة مالية وقدرها 1500 دولار أميركي. وهو يحكي قصّة شاب مراهق مع السينما، التي شكّلت هاجسا له فتشابكت معانيها في ذهنه بأسلوب غريب وسريالي.
أما جائزة التقدير فحصدها فيلم (آي لايت) للمخرج الناشئ جايمس شهاب، ونقل فيه اختلاف الأحاسيس التي تصيبنا عادة عند مشاهدتنا فيلما رومانسيا أو رعبا أو كوميديا وغيره.
والمعروف أن الجمعية اللبنانية للسينما المستقلّة (ميتروبوليس سينما)، التي تتولّى العروض السينمائية في صالات سينما أمبير في قلب بيروت، تتنوّع نشاطاتها الفنيّة ما بين الاستعدادات التكريمية ودورات الأفلام وكلاسيكيات السينما اللبنانية والعربية والعالمية. فضلا عن تعاملها مع مؤسسات عالمية مرموقة في عالم السينما، أمثال «مهرجان برلين السينمائي» و«مهرجانات كان» و«بينالي» (البندقية)، وقناة (آرتيه) الفرنسية وغيرها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)