الثقة في كلينتون تتراجع.. والصحافة على رأس المشككين

بعد تحقيقات استمرت نحو عام، أعلن مكتب التحقيق الفيدرالي (إف بي آي) تبرئة مرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون من أي جريمة في فضيحة وثائق وزارة الخارجية. على الرغم من أن جيمس كومي، مدير المكتب، شن هجوما عنيفا عليها. ووصف ما فعلته (خزنت آلافًا من مراسلات كبار المسؤولين والسفراء في خادم كمبيوتر خاص بها، وبزوجها، في منزلهما) بأنه «غاية الإهمال».
وعلى الرغم من ذلك الحكم المفاجئ، لم تركز التغطية الإعلامية على خبر تبرئة كلينتون، بل اختارت تسليط الضوء على تصريح كومي. ففي صباح اليوم التالي لقرار «إف بي آي»، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الخبر في صدر صفحتها الأولى، تحت عنوان: «إف بي آي تنتقد تصرفات كلينتون حول الوثائق». ونشرت الصحيفة تعليقا عنوانه: «رغم براءة كلينتون، لا نثق فيها».
يوم الخميس، بعد يومين من قرار «إف بي آي»، نشرت صحف وتلفزيونات ومواقع في الإنترنت خبر استطلاع بأن كلينتون تتقدم على ترامب. لكن، بهذه العناوين:
أولاً- صحيفة «يو إس إيه توداي»: «كلينتون تتقدم، لكن بفرق ضئيل».
وثانيًا- صحيفة «واشنطن تايمز»: «الفرق بين كلينتون وترامب فقط 4 نقاط».
وثالثًا- تلفزيون «سي إن إن»: «كلينتون وترامب يتساويان».
في الحقيقة، كشف استطلاع رأي أخير، أن كلينتون تتقدم على ترامب بفارق 12 نقطة. هذا أول فارق من نوعه بين الاثنين، حتى من قبل أن تنتهي الانتخابات التمهيدية. لكن صار واضحا أن عناوين الصحف إما أنها تقلل من هذا الفرق، أو تعتمد على استطلاعات أخرى.
يبدو أن مشكلة الصحافيين الأميركيين مع كلينتون هي مشكلة الشعب الأميركي معها: عدم الثقة فيها.
في نهاية الشهر الماضي، في استطلاع مشترك لصحيفة «وول ستريت جورنال» وتلفزيون «إن بي سي»، قالت نسبة 70 في المائة من الأميركيين، إن كلينتون «لا يمكن الثقة بها».. في بداية نفس الشهر، في استطلاع لتلفزيون «سي بي إس»، قالت نسبة 62 في المائة إن كلينتون «ليست نزيهة ولا يمكن الثقة بها».
الغريب أن الشعب الأميركي لا يثق، أيضا، في ترامب. وتتساوى نسبة عدم الثقة فيه مع نسبة عدم الثقة في كلينتون. لكن قالت نسبة 62 في المائة إن كلينتون «لا تقول ما تؤمن به». في الجانب الآخر، قالت نسبة 56 في المائة إن ترامب «يقول ما يؤمن به».
عن هذا كتبت صحيفة «نيويورك تايمز»: «يبدو أن الصحافيين يجاملون ترامب؛ لأنهم يعرفون أنه لا يخفي شيئا. وبخاصة في موضوعات مثل الهجرة، والمكسيكيين، والمسلمين.
وعلى الرغم من أن تصريحاته المتطرفة حول هذه الموضوعات سببت مشكلات كثيرة له، يظل يرددها. في الجانب الآخر، يبدو أن الصحافيين؛ لأنهم لا يثقون في كلينتون، لا يهتمون كثيرا بما تقول، وكأنهم يقولون: كلام فارغ، كلام فارغ».
تظل كلينتون تواجه مشكلة الثقة، على الرغم من أن استطلاع صحيفة «وول ستريت جورنال» وتلفزيون «إن بي سي» أوضح أن كثيرا من الأميركيين يرونها أقدر على إدارة شؤون البلاد من ترامب (الذي لم يحتل أي منصب حكومي في حياته).
عن هذا قال بيتر هارت، مدير شركة استطلاعات: «يسأل كل أميركي: هل أثق فيها؟ هل تريح أعصابي؟ هل تخفي عني شيئا؟» لهذا، لم يكن غريبا أن يرفع ترامب شعار «كروكيد كلينتون» (كلينتون المحتالة).
في وقت سابق، حدث نفس انحياز الصحافيين ضد كلينتون (أو، في الحقيقة، عدم الثقة فيها)، عندما نشر المفتش العام لوزارة الخارجية الأميركية تقريرا عن وثائق الوزارة التي كانت كلينتون قد نقلتها إلى خادم كمبيوترها في منزلها مع زوجها.
في ذلك الوقت، كتبت إيمي جوزيك، كاتبة عمود في صحيفة «نيويورك تايمز»: «ذاب كل أمل في أن حملة كلينتون الانتخابية ستكون من دون صداع، وذلك بعد أن قال كثير من الأميركيين إنهم لا يثقون فيها».
من المفارقات أن تغطية الصحافيين لترامب، رغم تطرفه، ليست فقط إيجابية، ولكن، أيضا، تقدم له خدمة تقدر بعشرات الملايين من الدولارات. في بداية هذا العام، قالت مجلة «كولومبيا جورناليزم ريفيو»، التي تصدرها كلية الصحافة في جامعة كولومبيا (في نيويورك)، إن ترامب شذ عن عادات سابقة لمرشحين قبله، منها: تصريحاته البذيئة (ليست فقط متطرفة)، وشتائمه لمعارضيه (ليست فقط اختلافات في الرأي). وشذ، أيضا، في مجالين آخرين: أولاً، بسبب ثروته العملاقة (يعتقد أنها 10 مليارات من الدولارات)، لم يجمع أي تبرعات سياسية. ثانيا، بسبب ذكائه الخارق (الذي بنى به ثروته)، لا يركز على الإعلانات في التلفزيون، وذلك لأنه يستغل الصحافيين.
في ذلك الوقت، كتب غيدج سكيدمور، من كبار محرري «ويكيميديا» (تابعة لشركة «ويكيبيديا»، وتتخصص في الإعلام): «صار صحافيون من مختلف الاتجاهات والميول السياسية يتفقون على شيء واحد: يكررون كل ما يقول ترامب. إذن، لماذا يحتاج ترامب لصرف عشرات الملايين من الدولارات على دعايات في التلفزيون، أو في الصحف، أو حتى في لافتات وملصقات في الطرق العامة؟».
وأضاف: «من المفارقات أن ترامب يستطيع صرف عشرات، بل مئات، من ملايين الدولارات على هذه الدعايات، لكنه لا يحتاج للدعايات».
وقال سكيدمور إن الصحافيين الذين ينشرون أخبار ترامب يعتمدون على حقيقة أن تصريحات ترامب تجد إقبال كثير من الناس (حتى الذين يختلفون معه). لكن، يعرف الصحافيون أن أغلبية الأميركيين ليسوا راضين عن إساءات ترامب (ناهيك عن آرائه المتطرفة).
وقالت هيلاري روزين، خبيرة في الحملات الانتخابية: «إذا كنت مرشحًا في جاذبية ترامب، ربما لا تحتاج أبدًا لصرف دولار واحد في إعلانات للدعاية عن نفسك».
وهكذا، بينما تنفق كلينتون عشرات الملايين من الدولارات في حملتها الانتخابية، ينفق ترامب أقل منها. وبينما يظل ترامب، في رأي كثير من الصحافيين الأميركيين: «رجلاً مستقيم الرأي» (على الرغم من أن شره يبدو أكثر من خيره)، تظل كلينتون «امرأة لا تصدق» (رغم أن شرها يبدو أكثر من خيرها).