المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل

رحلة خاصة إلى أولى عواصم الإسلام (1 من 2)

المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل
TT

المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل

المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل

منذ تعرّفت إلى المملكة العربية السعودية، في خريف 1979، وفي خاطري زيارة المدينة المنورة. وخلال فترة إقامتي في مدينة الخُبَر بالمنطقة الشرقية، كان زميل لي يسافر إلى المدينة مرة كل شهر لزيارة شقيق له يعمل فيها، وكان يُخبرني عنها الكثير.
لم أسعد طيلة نحو سنتين بالقيام بتلك الزيارة، مع أنني جُلت في مختلف أنحاء المنطقة الشرقية من الجبيل شمالا إلى الأحساء جنوبا. ثم بعد زيارة قصيرة إلى الرياض، انتقلت إلى المنطقة الغربية فأقمت خلالها أربعة أشهر في جدة، وزرت إبّان إقامتي هناك مكة المكرمة والطائف. غير أن زيارة المدينة المنورة ظلت بالنسبة لي حلما طالما رجوت أن يتحقق. وبالفعل، تحقّق - ولله الحمد - خلال فبراير (شباط) الماضي.
المدينة المنورة، التي عُرفت عبر تاريخها بأسماء منها يثرب وطيبة، هي اليوم حاضرة تضجّ بالحياة والمشاريع والنشاطات التنموية والاستثمارية والثقافية، وإن كانت لا تبدو كذلك لأول وهلة لمَن يقصدها برّا من جدة. تلك الأبنية التي شيّد معظمها خلال العقود الثلاثة الأخيرة في بعض ضواحيها لا تتميّز بطابع معماري جذاب، وبالتالي، لا تعبّر بصدق عمّا في وسطها النابض بالحياة، ولكن مع الاقتراب من وسطها تتغيّر الصورة المعمارية تماما. فهنا أبنية جميلة لافتة معماريا، من المباني التجارية والخدمية، إلى المساجد الرائعة الذائعة الصيت.
المدينة المنورة اليوم عبارة عن «ورشة» دائمة وحركة دؤوبة. طموحٌ وتخطيط للمستقبل لعلّ خير ما يختصره أن الكثير من المباني الضخمة العصرية العالية في محيط الحرَم النبوي الشريف، وكلها شيّدت حديثا، ستُزال بموجب المخطّطات التي أقرّت حديثا للتوسعة الجديدة للحرم. وفوق هذا احتفلت المدينة المنورة هذا العام باختيارها «عاصمة للثقافة الإسلامية»، وهو ما أهّلها لاستضافة عدد كبير من الفعاليات الثقافية المتميّزة ولقد سعدت بالاطلاع على معرضين رائعين للخطّ العربي والصور التاريخية.
الواقع أننّي منذ أيام المدرسة ألِفتُ أسماء مواضع عدّة في المدينة. وفي ما بعد، اطّلعت في كتاب «أطلس تاريخ الإسلام» للدكتور حسين مؤنس (طبعته دار الزهراء للإعلام العربي 1986) على خريطة المدينة في أيام الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، ولقد أجابت خريطتان يومها في الكتاب على جملة من تساؤلاتي لجهة المواضع التي كنت قرأت عنها وودّدت التعرف إليها.
قرأت عن يوم بُعاث بين الأوس والخزرج، آخر الفتن بين الأنصار قبل الهجرة النبوية بخمس سنوات، وعن مسجد قُباء أول مسجد في الإسلام. وقرأت عن «الخندق» الذي حُفِر عند سفح جبل سلع لمنع الأحزاب المتحالفة مع قريش من مهاجمة المسلمين المتحصّنين إبّان الغزوة التي حملت اسمي «الأحزاب» و«الخندق».
مسجد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) وبقيع الغرقد وبُعاث والعقيق وجبل أحُد وثنية الوداع وحُرُض ووادي مهزور ووادي بطحان وقباء... كلها أسماء كَم ودّدت أن أراها، وأتيح لي ذلك في الشهر الماضي. كل هذه الأماكن تقع اليوم في بقعة صغيرة محدودة المساحة من المدينة المترامية الأطراف، التي يقارب تعداد سكانها المليون نسمة، وتمتد في أرض منبسطة وسفوح ومرتفعات تحفّ بها جبال تعطيها مشهدا لا يُنسى.
جغرافية المدينة
وسط المدينة، أي محيط الحرم النبوي، مكان سهلي تحتضنه مرتفعات تشكل أجزاء من حرّتين هما حرّة واقم إلى الشرق وحرّة الوبرة إلى الغرب. ويقطع هذا المكان بضعة وديان تصبّ فيه وتلتقي عنده منها وادي مذينيب ووادي مهزور شرقا - وبينهما بُعاث - ووادي رانوناء جنوبا. وترسم الوديان الثلاثة معا، عند ما يُعرف بالعالية، وادي بطحان الممتدّ شمالا.
قُباء تقع جنوبي العالية، وإلى الغرب منها جبل عير، وإلى الشمال من هذا الجبل كتلة جبلية تضم جبل بني عبيد وحرّة الوبرة تفصل وادي بطحان عن وادي العقيق الممتدّ متوازيا معها من الشمال إلى الجنوب إلى الغرب من وسط المدينة.
وعند الطرف الشمال الشرقي من وادي العقيق يمتد جبل أحُد من الشرق إلى الغرب، يفصله وادي قناة عن وسط المدينة، عبر الجرف والعرصة، ثم راتج والسافلة والسنح والبقيع على حرّة واقم الممتدة في شمال شرقي وسط المدينة وقلبه، حيث الحرم.
وإلى الغرب من الحرم ينتصب جبل سلع، أقرب المرتفعات إلى نقطة وسط المدينة شرقي حرة الوبرة، وإلى الشمال منها ومنه وبينهما وجبل أحُد، ثنية الوداع التي كانت فعليا مدخل المدينة الشمالي الغربي. وإلى الشمال من ثنية الوداع في أرض منبسطة غربي الجرف، تلتقي وادي العقيق بالوادي الذي يجمع واديي بطحان وقناة عند مجمع الأسيال وبئر رومة. هكذا كانت يثرب، أو المدينة المنورة، في أيام الهجرة.. مكانا صغيرا لا يمتد إلا على بضعة كيلومترات مربّعة.
أما عن الاسم، فوفق بعض المراجع التاريخية والجغرافية، ومنها «معجم البلدان» لياقوت الحموي أن المدينة حملت اسم يثرب «لأن أول من سكنها عند التفرّق يثرب بن قانية - أو قاينة - بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوص بن سام بن نوح عليه السلام، فلما نزلها رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، سماها طيبة وطابة كراهية للتثريب، وسمّيت مدينة الرسول لنزوله بها». وجاء في شرح ذلك أن التثريب هو التعيير فـ«لا تثريب عليكم» تعني لا تعيير عليكم ولا عيب. وقال ابن عباس، رضي الله عنه: «من قال للمدينة يثرب فليستغفر الله ثلاثا إنما هي طيبة».
وعلى مرّ العصور، أنطقت مكانة المدينة الدينية والسياسية والثقافية، ناهيك من مغانيها وطبيعتها، الشعراء بحبّها والتشوّق إليها، فقال فيها حكيم بن عكرمة الديلمي:
لعمرك، للبلاط وجانباه
وحرّة واقمٍ ذات المنار
فجمّاء العقيق فعرصتاه
فمُفضي السّيل من تلك الحرار
إلى أحُد فذي حُرُضٍ فمبنى
قباب الحيّ، من كنفي ضرار
أحبُّ إلي من فجٍ ببُصرى
بلا شك هناك ولا ائتمار
ومن قريات حمصَ وبعلبكّ
لو انّي كنت أجعل بالخيار
وقال عنها ابن الطيب الشرقي الفاسي:
إذا لم تطبْ في طيبة عند طيّبٍ
به طيبة طابت فأين تطيبُ
وإن لم يُجب في أرضها ربُّنا الدعا
ففي أي أرض للدعاء يجيبُ
أيا ساكني أكناف طيبة كلّكُم
إلى القلب من أجل الحبيبِ حبيبُ
ومنهم من المعاصرين علي حافظ، ابن المدينة، الذي قال فيها:
سقاك الله يا تلك المغاني
بطيبتنا فما أحلى رُباها
وباركها النسيم بكل عطرٍ
يفوح شذى وينمو في ثراها
فما أحلى المقيل بسفح سلعٍ
وفي وادي العقيق وفي قُراها
نشاطات لا تهدأ
اليوم كل تلك المواقع التاريخية تشكل القلب أو مركز المدينة العصرية الحديثة الواسعة الأرجاء، التي تضم جامعتين كُبريين (الجامعة الإسلامية وجامعة طيبة)، وفنادق حديثة تديرها مجموعات فندقية دولية، ومعظم الخدمات الاجتماعية والدينية والتعليمية والصحية والمالية والترفيهية في المنطقة، كما تقوم فيها جميع فروع الوزارات وهيكلها الإداري شبه متكامل. ويصلها بالعالم الخارجي مطار دولي عصري تستخدمه ما لا يقل عن 12 شركة طيران عربية وأجنبية، وأكثر منها إبان موسم الحج.
وراهنا، ثمّة استثمارات مالية ضخمة جدا في المدينة تشمل جميع القطاعات الاقتصادية، بل في أول أيام وجودي في المدينة، خلال فبراير (شباط) الفائت استضاف فندق الميريديان الراقي فعاليات «منتدى الاستثمار بالمدينة المنورة» الذي افتتحه الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة المدينة المنورة، وكان بالنسبة لي خير تعريف على التخطيط الدؤوب للمستقبل في أولى عواصم الإسلام. وفي اليوم التالي عبرت الشارع من الفندق نفسه فزُرت المعرض البديع لفن الخط العربي والصوَر القديمة، الذي يحمل اسم {حروف وإضاءات} المقام بالتعاون مع المتحف البريطاني. ومنها صوَر «الأغوات» المرتبطين بالحرم النبوي، وكان بين اللوحات البديعة المعروضة لوحات قيمة من مجموعات خاصة.
متحف المدينة المنورة
الواقع أن «منتدى الاستثمار» كان واحدا من جملة من مظاهر ورشة العمل الدؤوب الجاري. فخلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي افتتح الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، والأمير ‏فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، المرحلة الأولى من متحف السكة الحديد بالمدينة - «متحف المدينة المنورة» - ضمن فعاليات «ملتقى التراث العمراني الوطني الثالث»، وذلك بعدما أنجزت «الهيئة العامة» أعمال ترميم مباني محطة سكة حديد ‏الحجاز وتأهيلها، ومن ثَم تحويلها إلى هذا المتحف الذي ‏يعرض تاريخ المدينة منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى العصر ‏الحديث. ويُضاف إليه متحف آخر في ورشة إصلاح القاطرات بالمحطة، ‏يعرض تاريخ سكة حديد الحجاز، ويضم قاعة المعارض الزائرة والمؤقتة، ‏وقاعة المحاضرات والعرض المرئي، إلى جانب سوق للحرفيين، ومتجر ‏المتحف والمقهى الشعبي، ومطعم القطار الذي يشمل ترميم 12 عربة ‏قطار كمطعم للعائلات‎.
ويشتمل «متحف المدينة المنورة» في المرحلة الأولى على 14 قاعة ‏عرض تضم: بهو المتحف، وقاعات بيئة المدينة وتاريخها الطبيعي، ‏والمدينة (يثرب) قبل الإسلام، والمدينة المنورة في العهد النبوي، وقاعة زوجات ‏الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأبنائه، وقاعتي الأنصار والمهاجرين، ‏وقاعة المسجد النبوي الشريف، وقاعات المدينة في عهد الخلفاء الراشدين، ‏وخلال العصور الإسلامية والمدينة في عهد الدولة السعودية الأولى وفي ‏عهد الدولة السعودية الثانية، وفي عهد الملك عبد العزيز، وقاعة التراث ‏المديني‎.
أما المرحلة الثانية فتتضمن تشييد مبنى بمساحة 12 ألف ‏متر مربع، يحتوي خمس قاعات هي: قاعة المدينة المنورة عبر العصور، ‏وقاعة موجودات مكتبة الملك عبد العزيز وقاعة موجودات المسجد النبوي ‏الشريف، وقاعة الطفل، وقاعة «عيش السعودية»، ومن المخطط له أن تستضيف هذه القاعات عروضا رقمية تفاعلية تستخدم خلالها التقنيات السمعية والبصرية ‏الحديثة بغية تجسيد تاريخ المدينة ومخططاتها العمرانية عبر ‏المراحل المختلفة.‏
مرافق المدينة الأخرى
على صعيد آخر، تشكل المدينة المنورة اليوم نقطة الإشعاع لشبكة الطرق الإقليمية، إذ يلتقي فيها كل من طريق الهجرة السريع جنوبا وطريق ينبع غربا وطريق تبوك شمالا وطريق القصيم شرقا.
ووفق البيانات الرسمية تبلغ مساحة منطقة الإشراف المباشر للمدينة المنورة نحو 2596,5 كلم مربع، وتمثل نحو 10,3 في المائة من إجمالي مساحة نطاق المدينة ومراكزها. ثم إن هناك أكثر من 158 مصنعا منتجا في الصناعات غير النفطية، وتقدّر البيانات حجم العمالة في هذا القطاع بنحو تسعة آلاف عامل ما يشكّل نسبة تقارب 53,3 في المائة من العمالة في المنطقة. وتشير الدراسات الجيولوجية إلى وجود خامات الذهب والفضة في المنطقة، كما تضم المنطقة الكثير من الخامات الاستثمارية التي تصلح كمواد بناء، هذا بالإضافة إلى وجود مكمن لمخزون مائي تحت سطح حرة رهط. ويغطّي النطاق الإشرافي للمدينة المنورة شبكة طرق جيدة في ثلاث حلقات دائرية تعتبر مركز الإشعاع للطرق السريعة والرئيسة بالمنطقة. وبالتالي، فهناك ربط قوي بين المدينة ومراكزها. وعلى صعيد الموارد المائية يتغذّى النطاق الإشرافي للمدينة بالمياه من مياه التحلية المجلوبة من محطة التحلية في مدينة ينبع (ينبع البحر)، الميناء التاريخي للمدينة المنورة، وحصّة المدينة المنورة منها 72 ألف م3/ يوميا، وهي تصل إلى المدينة من خلال خط رئيس قطره 32 بوصة، ويجري عبر الشبكة القائمة التي تخدم 95 في المائة من المناطق السكنية بالمدينة، أما باقي المناطق فتخدم بالشاحنات - الصهاريج.
هذا، ومن المقرّر افتتاح المرحلة الثانية من التحلية، التي تبلغ حصة المدينة منها 200 ألف م3/يوم تصل المدينة من خلال خط أنابيب حديدي قطره 52 بوصة تنساب منه المياه المزالة ملوحتها من خزانات المفرحات إلى المدينة انسيابا طبيعيا. وجارٍ حاليا أيضا إعادة تخطيط واستكمال شبكات المياه والصرف الصحي في المنطقة المركزية حول الحرم النبوي الشريف حيث جرت عملية إعادة تخطيط كامل للمنطقة المركزية.
وأما على صعيد الطاقة الكهربائية، فيتغذى النطاق الإشرافي للمدينة المنورة بالكهرباء اليوم عن طريق الشبكة 380 ك.ف، وكذلك محطات آبار علي وطريق المطار، وتبلغ القدرة الاسمية لهذه المحطات 452,700 ميغاواط، والفعلية 352,000 ميغاواط. وتغطي شبكة الكهرباء معظم المدينة المنورة. وتغطي شبكة الهاتف المدينة المنورة بواسطة 11 مقسما موزعة جغرافيا على عدة أحياء.
باختصار، المدينة المنورة حالة عمرانية ونهضوية لم تنمْ على مجد الماضي، بل تستشرف المستقبل وتواكب تحدياته بخُطى واثقة.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».