المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل

رحلة خاصة إلى أولى عواصم الإسلام (1 من 2)

المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل
TT

المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل

المدينة المنورة.. تراث حي يعيش ازدهار الحاضر وطموحات المستقبل

منذ تعرّفت إلى المملكة العربية السعودية، في خريف 1979، وفي خاطري زيارة المدينة المنورة. وخلال فترة إقامتي في مدينة الخُبَر بالمنطقة الشرقية، كان زميل لي يسافر إلى المدينة مرة كل شهر لزيارة شقيق له يعمل فيها، وكان يُخبرني عنها الكثير.
لم أسعد طيلة نحو سنتين بالقيام بتلك الزيارة، مع أنني جُلت في مختلف أنحاء المنطقة الشرقية من الجبيل شمالا إلى الأحساء جنوبا. ثم بعد زيارة قصيرة إلى الرياض، انتقلت إلى المنطقة الغربية فأقمت خلالها أربعة أشهر في جدة، وزرت إبّان إقامتي هناك مكة المكرمة والطائف. غير أن زيارة المدينة المنورة ظلت بالنسبة لي حلما طالما رجوت أن يتحقق. وبالفعل، تحقّق - ولله الحمد - خلال فبراير (شباط) الماضي.
المدينة المنورة، التي عُرفت عبر تاريخها بأسماء منها يثرب وطيبة، هي اليوم حاضرة تضجّ بالحياة والمشاريع والنشاطات التنموية والاستثمارية والثقافية، وإن كانت لا تبدو كذلك لأول وهلة لمَن يقصدها برّا من جدة. تلك الأبنية التي شيّد معظمها خلال العقود الثلاثة الأخيرة في بعض ضواحيها لا تتميّز بطابع معماري جذاب، وبالتالي، لا تعبّر بصدق عمّا في وسطها النابض بالحياة، ولكن مع الاقتراب من وسطها تتغيّر الصورة المعمارية تماما. فهنا أبنية جميلة لافتة معماريا، من المباني التجارية والخدمية، إلى المساجد الرائعة الذائعة الصيت.
المدينة المنورة اليوم عبارة عن «ورشة» دائمة وحركة دؤوبة. طموحٌ وتخطيط للمستقبل لعلّ خير ما يختصره أن الكثير من المباني الضخمة العصرية العالية في محيط الحرَم النبوي الشريف، وكلها شيّدت حديثا، ستُزال بموجب المخطّطات التي أقرّت حديثا للتوسعة الجديدة للحرم. وفوق هذا احتفلت المدينة المنورة هذا العام باختيارها «عاصمة للثقافة الإسلامية»، وهو ما أهّلها لاستضافة عدد كبير من الفعاليات الثقافية المتميّزة ولقد سعدت بالاطلاع على معرضين رائعين للخطّ العربي والصور التاريخية.
الواقع أننّي منذ أيام المدرسة ألِفتُ أسماء مواضع عدّة في المدينة. وفي ما بعد، اطّلعت في كتاب «أطلس تاريخ الإسلام» للدكتور حسين مؤنس (طبعته دار الزهراء للإعلام العربي 1986) على خريطة المدينة في أيام الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، ولقد أجابت خريطتان يومها في الكتاب على جملة من تساؤلاتي لجهة المواضع التي كنت قرأت عنها وودّدت التعرف إليها.
قرأت عن يوم بُعاث بين الأوس والخزرج، آخر الفتن بين الأنصار قبل الهجرة النبوية بخمس سنوات، وعن مسجد قُباء أول مسجد في الإسلام. وقرأت عن «الخندق» الذي حُفِر عند سفح جبل سلع لمنع الأحزاب المتحالفة مع قريش من مهاجمة المسلمين المتحصّنين إبّان الغزوة التي حملت اسمي «الأحزاب» و«الخندق».
مسجد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) وبقيع الغرقد وبُعاث والعقيق وجبل أحُد وثنية الوداع وحُرُض ووادي مهزور ووادي بطحان وقباء... كلها أسماء كَم ودّدت أن أراها، وأتيح لي ذلك في الشهر الماضي. كل هذه الأماكن تقع اليوم في بقعة صغيرة محدودة المساحة من المدينة المترامية الأطراف، التي يقارب تعداد سكانها المليون نسمة، وتمتد في أرض منبسطة وسفوح ومرتفعات تحفّ بها جبال تعطيها مشهدا لا يُنسى.
جغرافية المدينة
وسط المدينة، أي محيط الحرم النبوي، مكان سهلي تحتضنه مرتفعات تشكل أجزاء من حرّتين هما حرّة واقم إلى الشرق وحرّة الوبرة إلى الغرب. ويقطع هذا المكان بضعة وديان تصبّ فيه وتلتقي عنده منها وادي مذينيب ووادي مهزور شرقا - وبينهما بُعاث - ووادي رانوناء جنوبا. وترسم الوديان الثلاثة معا، عند ما يُعرف بالعالية، وادي بطحان الممتدّ شمالا.
قُباء تقع جنوبي العالية، وإلى الغرب منها جبل عير، وإلى الشمال من هذا الجبل كتلة جبلية تضم جبل بني عبيد وحرّة الوبرة تفصل وادي بطحان عن وادي العقيق الممتدّ متوازيا معها من الشمال إلى الجنوب إلى الغرب من وسط المدينة.
وعند الطرف الشمال الشرقي من وادي العقيق يمتد جبل أحُد من الشرق إلى الغرب، يفصله وادي قناة عن وسط المدينة، عبر الجرف والعرصة، ثم راتج والسافلة والسنح والبقيع على حرّة واقم الممتدة في شمال شرقي وسط المدينة وقلبه، حيث الحرم.
وإلى الغرب من الحرم ينتصب جبل سلع، أقرب المرتفعات إلى نقطة وسط المدينة شرقي حرة الوبرة، وإلى الشمال منها ومنه وبينهما وجبل أحُد، ثنية الوداع التي كانت فعليا مدخل المدينة الشمالي الغربي. وإلى الشمال من ثنية الوداع في أرض منبسطة غربي الجرف، تلتقي وادي العقيق بالوادي الذي يجمع واديي بطحان وقناة عند مجمع الأسيال وبئر رومة. هكذا كانت يثرب، أو المدينة المنورة، في أيام الهجرة.. مكانا صغيرا لا يمتد إلا على بضعة كيلومترات مربّعة.
أما عن الاسم، فوفق بعض المراجع التاريخية والجغرافية، ومنها «معجم البلدان» لياقوت الحموي أن المدينة حملت اسم يثرب «لأن أول من سكنها عند التفرّق يثرب بن قانية - أو قاينة - بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوص بن سام بن نوح عليه السلام، فلما نزلها رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، سماها طيبة وطابة كراهية للتثريب، وسمّيت مدينة الرسول لنزوله بها». وجاء في شرح ذلك أن التثريب هو التعيير فـ«لا تثريب عليكم» تعني لا تعيير عليكم ولا عيب. وقال ابن عباس، رضي الله عنه: «من قال للمدينة يثرب فليستغفر الله ثلاثا إنما هي طيبة».
وعلى مرّ العصور، أنطقت مكانة المدينة الدينية والسياسية والثقافية، ناهيك من مغانيها وطبيعتها، الشعراء بحبّها والتشوّق إليها، فقال فيها حكيم بن عكرمة الديلمي:
لعمرك، للبلاط وجانباه
وحرّة واقمٍ ذات المنار
فجمّاء العقيق فعرصتاه
فمُفضي السّيل من تلك الحرار
إلى أحُد فذي حُرُضٍ فمبنى
قباب الحيّ، من كنفي ضرار
أحبُّ إلي من فجٍ ببُصرى
بلا شك هناك ولا ائتمار
ومن قريات حمصَ وبعلبكّ
لو انّي كنت أجعل بالخيار
وقال عنها ابن الطيب الشرقي الفاسي:
إذا لم تطبْ في طيبة عند طيّبٍ
به طيبة طابت فأين تطيبُ
وإن لم يُجب في أرضها ربُّنا الدعا
ففي أي أرض للدعاء يجيبُ
أيا ساكني أكناف طيبة كلّكُم
إلى القلب من أجل الحبيبِ حبيبُ
ومنهم من المعاصرين علي حافظ، ابن المدينة، الذي قال فيها:
سقاك الله يا تلك المغاني
بطيبتنا فما أحلى رُباها
وباركها النسيم بكل عطرٍ
يفوح شذى وينمو في ثراها
فما أحلى المقيل بسفح سلعٍ
وفي وادي العقيق وفي قُراها
نشاطات لا تهدأ
اليوم كل تلك المواقع التاريخية تشكل القلب أو مركز المدينة العصرية الحديثة الواسعة الأرجاء، التي تضم جامعتين كُبريين (الجامعة الإسلامية وجامعة طيبة)، وفنادق حديثة تديرها مجموعات فندقية دولية، ومعظم الخدمات الاجتماعية والدينية والتعليمية والصحية والمالية والترفيهية في المنطقة، كما تقوم فيها جميع فروع الوزارات وهيكلها الإداري شبه متكامل. ويصلها بالعالم الخارجي مطار دولي عصري تستخدمه ما لا يقل عن 12 شركة طيران عربية وأجنبية، وأكثر منها إبان موسم الحج.
وراهنا، ثمّة استثمارات مالية ضخمة جدا في المدينة تشمل جميع القطاعات الاقتصادية، بل في أول أيام وجودي في المدينة، خلال فبراير (شباط) الفائت استضاف فندق الميريديان الراقي فعاليات «منتدى الاستثمار بالمدينة المنورة» الذي افتتحه الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة المدينة المنورة، وكان بالنسبة لي خير تعريف على التخطيط الدؤوب للمستقبل في أولى عواصم الإسلام. وفي اليوم التالي عبرت الشارع من الفندق نفسه فزُرت المعرض البديع لفن الخط العربي والصوَر القديمة، الذي يحمل اسم {حروف وإضاءات} المقام بالتعاون مع المتحف البريطاني. ومنها صوَر «الأغوات» المرتبطين بالحرم النبوي، وكان بين اللوحات البديعة المعروضة لوحات قيمة من مجموعات خاصة.
متحف المدينة المنورة
الواقع أن «منتدى الاستثمار» كان واحدا من جملة من مظاهر ورشة العمل الدؤوب الجاري. فخلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي افتتح الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، والأمير ‏فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، المرحلة الأولى من متحف السكة الحديد بالمدينة - «متحف المدينة المنورة» - ضمن فعاليات «ملتقى التراث العمراني الوطني الثالث»، وذلك بعدما أنجزت «الهيئة العامة» أعمال ترميم مباني محطة سكة حديد ‏الحجاز وتأهيلها، ومن ثَم تحويلها إلى هذا المتحف الذي ‏يعرض تاريخ المدينة منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى العصر ‏الحديث. ويُضاف إليه متحف آخر في ورشة إصلاح القاطرات بالمحطة، ‏يعرض تاريخ سكة حديد الحجاز، ويضم قاعة المعارض الزائرة والمؤقتة، ‏وقاعة المحاضرات والعرض المرئي، إلى جانب سوق للحرفيين، ومتجر ‏المتحف والمقهى الشعبي، ومطعم القطار الذي يشمل ترميم 12 عربة ‏قطار كمطعم للعائلات‎.
ويشتمل «متحف المدينة المنورة» في المرحلة الأولى على 14 قاعة ‏عرض تضم: بهو المتحف، وقاعات بيئة المدينة وتاريخها الطبيعي، ‏والمدينة (يثرب) قبل الإسلام، والمدينة المنورة في العهد النبوي، وقاعة زوجات ‏الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأبنائه، وقاعتي الأنصار والمهاجرين، ‏وقاعة المسجد النبوي الشريف، وقاعات المدينة في عهد الخلفاء الراشدين، ‏وخلال العصور الإسلامية والمدينة في عهد الدولة السعودية الأولى وفي ‏عهد الدولة السعودية الثانية، وفي عهد الملك عبد العزيز، وقاعة التراث ‏المديني‎.
أما المرحلة الثانية فتتضمن تشييد مبنى بمساحة 12 ألف ‏متر مربع، يحتوي خمس قاعات هي: قاعة المدينة المنورة عبر العصور، ‏وقاعة موجودات مكتبة الملك عبد العزيز وقاعة موجودات المسجد النبوي ‏الشريف، وقاعة الطفل، وقاعة «عيش السعودية»، ومن المخطط له أن تستضيف هذه القاعات عروضا رقمية تفاعلية تستخدم خلالها التقنيات السمعية والبصرية ‏الحديثة بغية تجسيد تاريخ المدينة ومخططاتها العمرانية عبر ‏المراحل المختلفة.‏
مرافق المدينة الأخرى
على صعيد آخر، تشكل المدينة المنورة اليوم نقطة الإشعاع لشبكة الطرق الإقليمية، إذ يلتقي فيها كل من طريق الهجرة السريع جنوبا وطريق ينبع غربا وطريق تبوك شمالا وطريق القصيم شرقا.
ووفق البيانات الرسمية تبلغ مساحة منطقة الإشراف المباشر للمدينة المنورة نحو 2596,5 كلم مربع، وتمثل نحو 10,3 في المائة من إجمالي مساحة نطاق المدينة ومراكزها. ثم إن هناك أكثر من 158 مصنعا منتجا في الصناعات غير النفطية، وتقدّر البيانات حجم العمالة في هذا القطاع بنحو تسعة آلاف عامل ما يشكّل نسبة تقارب 53,3 في المائة من العمالة في المنطقة. وتشير الدراسات الجيولوجية إلى وجود خامات الذهب والفضة في المنطقة، كما تضم المنطقة الكثير من الخامات الاستثمارية التي تصلح كمواد بناء، هذا بالإضافة إلى وجود مكمن لمخزون مائي تحت سطح حرة رهط. ويغطّي النطاق الإشرافي للمدينة المنورة شبكة طرق جيدة في ثلاث حلقات دائرية تعتبر مركز الإشعاع للطرق السريعة والرئيسة بالمنطقة. وبالتالي، فهناك ربط قوي بين المدينة ومراكزها. وعلى صعيد الموارد المائية يتغذّى النطاق الإشرافي للمدينة بالمياه من مياه التحلية المجلوبة من محطة التحلية في مدينة ينبع (ينبع البحر)، الميناء التاريخي للمدينة المنورة، وحصّة المدينة المنورة منها 72 ألف م3/ يوميا، وهي تصل إلى المدينة من خلال خط رئيس قطره 32 بوصة، ويجري عبر الشبكة القائمة التي تخدم 95 في المائة من المناطق السكنية بالمدينة، أما باقي المناطق فتخدم بالشاحنات - الصهاريج.
هذا، ومن المقرّر افتتاح المرحلة الثانية من التحلية، التي تبلغ حصة المدينة منها 200 ألف م3/يوم تصل المدينة من خلال خط أنابيب حديدي قطره 52 بوصة تنساب منه المياه المزالة ملوحتها من خزانات المفرحات إلى المدينة انسيابا طبيعيا. وجارٍ حاليا أيضا إعادة تخطيط واستكمال شبكات المياه والصرف الصحي في المنطقة المركزية حول الحرم النبوي الشريف حيث جرت عملية إعادة تخطيط كامل للمنطقة المركزية.
وأما على صعيد الطاقة الكهربائية، فيتغذى النطاق الإشرافي للمدينة المنورة بالكهرباء اليوم عن طريق الشبكة 380 ك.ف، وكذلك محطات آبار علي وطريق المطار، وتبلغ القدرة الاسمية لهذه المحطات 452,700 ميغاواط، والفعلية 352,000 ميغاواط. وتغطي شبكة الكهرباء معظم المدينة المنورة. وتغطي شبكة الهاتف المدينة المنورة بواسطة 11 مقسما موزعة جغرافيا على عدة أحياء.
باختصار، المدينة المنورة حالة عمرانية ونهضوية لم تنمْ على مجد الماضي، بل تستشرف المستقبل وتواكب تحدياته بخُطى واثقة.



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!