من التاريخ: الديكتاتور فرانكو في الميزان

الجنرال فرانكو الإسباني
الجنرال فرانكو الإسباني
TT

من التاريخ: الديكتاتور فرانكو في الميزان

الجنرال فرانكو الإسباني
الجنرال فرانكو الإسباني

لا شك أن الجنرال فرانكو الإسباني الذي تابعنا سيرته على مدار الأسبوعين الماضيين يمثل شخصية من أكثر الشخصيات الخلافية، ليس فقط في إسبانيا ولكن في العالم ككل، خصوصًا بين المؤرخين وعلماء العلوم السياسية، فلقد تولى الرجل الحكم في إسبانيا منذ عام 1936 وحتى 1975 عندما وافته المنية في سن طاعن، وقد مثل بداية حكمه نهايةً للحرب الأهلية الطاحنة التي ضربت إسبانيا بكل قوتها، بعدما انشطرت البلاد بين يسار متشدد ويمين متطرف، وقد حكم الرجل إسبانيا بيد من حديد وترك الحكم في نهاية عمره إلى الأسرة الملكية التي كانت تحكم البلاد، فاعتنقت إسبانيا الديمقراطية بمجرد وفاته.
حقيقة الأمر أنه يصعب للغاية أن نضع رأيًا قاطعًا حول هذا الرجل، ليس فقط لأنه رجل المتناقضات في بعض الأحيان، ولكن لكونه يمثل في حقيقة الأمر سببًا لاختلاف المحللين، خصوصًا مع الأفكار المسيطرة على العالم اليوم، وقد تأثرت كثيرًا أثناء كتابة هذه السطور بمقال منذ أيام للكاتب العظيم ستيفان والت، أحد أكبر وأهم علماء السياسة، الذي أذكر أنني كنت أدرس نظرياته وأنا طالب في الجامعة، وقمت بتدريسها بعد عدة عقود أيضًا، ففي هذه المقالة ينتقد والت ما آلت إليه بعض الأمور والأفكار على المستوى الدولي، بسبب الرغبة الشديدة لفرض القيم الغربية على العالم، دون إدراك منها إذا ما كانت الدول التي يتم فرض هذه القيم عليها مستعدة لها فعلاً أم لا، فوفقًا لرأي والت فإن فرض المؤسسات الديمقراطية في دولة ما ليس معناه نجاح التجربة الديمقراطية، بل العكس قد يكون صحيحًا، لأن الديمقراطية تحتاج إلى قناعة من قبل الشعب ذاته، وهذا مرتبط بشكل مباشر بالتركيبة السياسية والإثنية للدول والثقافة العامة للشعب، ضاربًا الأمثال على فشل هذا النموذج عبر العالم في الآونة الأخيرة، فتقديره رغم إيمانه الشديد بالديمقراطية أنها تتحرك من الشعب أو النخب إلى القيادة والعكس صحيح، فلا يمكن فرض الديمقراطية، وقد رأيت أن هذه المقالة تدخل ضمن تقييم فترة حكم الجنرال فرانكو.
واقع الأمر أن الانتقادات الشديدة التي وجهها كثيرون لهذا الديكتاتور تركزت حول عدد من الأطروحات التي نوردها في المحاور التالية، إضافة إلى ردود من يرون عكس ذلك على النحو التالي:
أولاً: يؤكد معارضو فرانكو أن حكمه كان حكمًا عسكريًا بحتًا، فكان هدفه الأول والأخير هو الحفاظ على السلطة وكبح جماح أي حركات معارضة له، وهو ما نفذه من خلال نظرية الحزب الواحد والقيم الموحدة، الأولى ممثلة في القضاء على الأحزاب الإسبانية وإدارة البلاد من خلال مؤسسة حزبية واحدة، مثل الحزب النازي أو الفاشستي في ألمانيا وإيطاليا، وهو ما أخر مسيرة الديمقراطية بشكل واضح وصريح في إسبانيا.
وعلى حين يعتنق البعض هذا التوجه، فإن التيار الآخر يرى في فرانكو منقذ إسبانيا التي لم تستطع حقيقة الأمر إدارة العملية الديمقراطية، لاستقطاب المجتمع بين يساري متطرف بتأييد من الاتحاد السوفياتي يهدف لإقامة الدولة الاشتراكية تمهيدًا للشيوعية، وآخر ليبرالي موازٍ يهدف لوقف حركة التاريخ في إسبانيا بتجميع خيوط آليات الإنتاج والدفع بالرأسمالية المطلقة في أيادي نخب محدودة، فضلاً على انتشار أعمال العنف والحرب الأهلية في البلاد، وفي ظل هذه الظروف فإن تحكيم صناديق الانتخابات أدت إلى الحرب الأهلية وليس العكس، فإسبانيا لم تدخل الحرب الأهلية بهدف الديمقراطية، ولكن بهدف سعي كل قطب للاستيلاء على الحكم وفرض أنماط ليست بالضرورة في مصلحة الدولة الإسبانية، بالتالي يكون تدخل فرانكو للقبض على السلطة أمرًا حاسمًا لصالح الدولة والشعب وليس ضدها.
ثانيًا: يؤكد معارضو فرانكو أن الرجل قضى على فكرة الحريات وفرض قيمه الكاثوليكية وشبه الفاشستية على البلاد، وهو ما لا يمكن قبوله على الإطلاق، لأنه لم يأخذ في الاعتبار حقوق وتطلعات الشعب ككل، وأنه استغل السطوة العسكرية لفرض هذا النمط السياسي على البلاد، في الوقت الذي كانت هناك نماذج أوروبية تتبع النظم الديمقراطية بشكل ناجح، وحقيقة الأمر أن هناك كثيرًا من النقاط التي تبرر هذا التوجه، فالرجل قمع المعارضة بكل أشكالها وانقض على الحريات وجمع السلطة في الفرق الموالية له، وأصبح جهاز إعلام الدولة هو الوحيد المسموح له بالتحرك.
ورغم صحة عناصر كثيرة من هذا التوجه، فإن مؤيدي فرانكو يرون أن إسبانيا لم تكن مستعدة بعد للديمقراطية في هذه المرحلة التاريخية، بسبب ضعف الطبقة الوسطى التي هي عماد الديمقراطية بشكل عام، فضلاً على عدم انتشار حركة التمدن وتخلف وسائل الإنتاج وضعف البنية الزراعية بالمقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، أي أن إسبانيا لم تكن قد عبرت بعد ما يمكن أن نسميه مجازًا «مرحلة ما بعد الإقطاع»، بالتالي فإن بناء الدولة وشد عودها كان الأولوية في ذلك التوقيت، ويؤكد هذا التيار أن إسبانيا لم تكن مثل بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول، فبريطانيا على سبيل المثال دخلت في الحرب الأهلية وخرجت محكومة بالديكتاتوريات لقرابة خمسة عقود حتى جاءت الثورة الثانية (الثورة العظيمة)، لتضع البلاد على طريق الديمقراطية السليم، أما فرنسا فقد احتاجت إلى ما يقرب من تسعة عقود بعد الثورة لتهدأ وتدخل في المسيرة الديمقراطية.
أما فيما يتعلق بسيطرة الجيش على السلطة، فإن التيار المؤيد لفرانكو يرى أن هيكل الدولة واستقرارها يتبوأ مرتبة أعلى من القيمة التي ستحكم بها الدولة، فمن غير المنطقي أن يتم السعي لفرض النظام الديمقراطي لدولة في الوقت الذي تبدأ فيه كياناتها ومؤسساتها تتهاوى، فما قيمة الديمقراطية لو أن الدولة تفتتت واستمرت فيها الحرب الأهلية؟ كذلك يرى أصحاب هذا التيار أن فوز أي من طرفي المعادلة السياسية كان سيجلب على البلاد حكمًا ديكتاتوريًا أو شموليًا، فهذه هي سمة أغلب ما حدث بعد الحروب الأهلية.
ثالثًا: يظهر تيار فكري معاصر يرى أن الجيش ليست له صلاحية أو شرعية التدخل في السياسة مهما كانت الأسباب، ويعتمد هذا التيار في نقد نظام فرانكو في أنه استغل الجيش، الذي وظيفته الأساسية هي حماية حدود الدولة من العدوان وضرورة ترك الشأن السياسي للساسة، مؤكدين أن الحكم العسكري قل ما ينتج عنه التطور الديمقراطي المنشود، فبالنسبة لهم الديمقراطية عدوة العسكرية، وفي هذا الإطار يرد مؤيدو فرانكو بالتأكيد على أنه رغم الاتفاق على أن الجيش وظيفته الأساسية هي حماية الحدود من العدوان الخارجي، ولكن ما قيمة حماية الحدود إذا ما كان المركز والأطراف في حالة غليان وحرب داخلية ضروس تهدد بقاء الدولة ذاتها؟ فقد يكون العدو الداخلي في كثير من الأحيان ممثلاً في الحرب الأهلية أكثر خطورة من عدو خارجي، فالعدو الخارجي تتحد أمامه جموع الشعب، أما العدوان الداخلي بين فئة وأخرى فهو الخطر الحقيقي المحدق بالبلاد، فتفكيك الدولة بالعدوان الخارجي أمر أصعب بكثير من تفتيتها من خلال الحرب الأهلية.
رابعًا: يركز التيار المعارض لفرانكو على أن الرجل كان من الأجدر أن ترك السياسة وإطلاق الديمقراطية خلال مرحلة ما بعد استقرار الدولة وليست وفاته، فالرجل استمر في حكم البلاد في الوقت الذي لم يكن هو ذاته قادرًا على الوفاء بأعباء الحكم، وحقيقة الأمر أنني لم أقرأ أو أستمع إلى رد مقنع للتيار المؤيد لفرانكو على هذه الأطروحة، فالرجل ترك الحكم بموته، بعدما فقد القدرة الحقيقية لإدارة البلاد لأسباب تتعلق بالصحة والانعزالية، وتقديري أن هذا هو قدر كثير من نماذج الديكتاتورية الذي يرى في نفسه وحكمه مصير الدولة المطلق، غير مدرك أن أعمار البلاد تفوق بألفيات عمر الإنسان، وهنا ينطبق المثل القائل إن «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، وتقديري أنه قد كان من الأجدر به أن يترك الحكم بعد أن حمى البلاد ووضعها على طريق التطور والتنمية بنسب نمو تنافس اليابان وغيرها من الدول الصاعدة بعد سنوات من حكمه.
ولكن قد يشفع لفرانكو سياسيًا أنه عندما ترك إسبانيا، فإنها بالتأكيد لم تكن مثلما تسلمها، بل كانت في حالة أفضل بمراحل ممتدة، فتركها دولة ذات رونق سياسي واقتصادي عظيم، ولكن الأهم من ذلك هو أنه تركها على مدخل الديمقراطية بحيث أصبح اعتناق الشعب لها أمرًا متوقعًا، بل يكاد يكون حتميًا، فهو ديكتاتور ترك الحكم للديمقراطية بعدما وضع لإسبانيا الأسس الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي تكفل لها نجاح المسيرة الديمقراطية والتي قد يكون لبقائه في الحكم لعقود ممتدة سببًا في تأخيرها بالفعل. وختامًا فإنني أعود مرة أخرى إلى مقالة البروفسور والت بأن الديمقراطية مسيرة وثقافة، فالمؤسسة الديمقراطية لا تعني دولة ديمقراطية، وهذا درس يصرخ من التاريخ لينير لنا الحاضر، خصوصًا أن أغلب الديمقراطيات ولدت من رحم الحكم الديكتاتوري أو الشمولي بعد مرحلة تكوين داخل هذا الرحم تختلف من دولة إلى أخرى.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.