لا شك أن الجنرال فرانكو الإسباني الذي تابعنا سيرته على مدار الأسبوعين الماضيين يمثل شخصية من أكثر الشخصيات الخلافية، ليس فقط في إسبانيا ولكن في العالم ككل، خصوصًا بين المؤرخين وعلماء العلوم السياسية، فلقد تولى الرجل الحكم في إسبانيا منذ عام 1936 وحتى 1975 عندما وافته المنية في سن طاعن، وقد مثل بداية حكمه نهايةً للحرب الأهلية الطاحنة التي ضربت إسبانيا بكل قوتها، بعدما انشطرت البلاد بين يسار متشدد ويمين متطرف، وقد حكم الرجل إسبانيا بيد من حديد وترك الحكم في نهاية عمره إلى الأسرة الملكية التي كانت تحكم البلاد، فاعتنقت إسبانيا الديمقراطية بمجرد وفاته.
حقيقة الأمر أنه يصعب للغاية أن نضع رأيًا قاطعًا حول هذا الرجل، ليس فقط لأنه رجل المتناقضات في بعض الأحيان، ولكن لكونه يمثل في حقيقة الأمر سببًا لاختلاف المحللين، خصوصًا مع الأفكار المسيطرة على العالم اليوم، وقد تأثرت كثيرًا أثناء كتابة هذه السطور بمقال منذ أيام للكاتب العظيم ستيفان والت، أحد أكبر وأهم علماء السياسة، الذي أذكر أنني كنت أدرس نظرياته وأنا طالب في الجامعة، وقمت بتدريسها بعد عدة عقود أيضًا، ففي هذه المقالة ينتقد والت ما آلت إليه بعض الأمور والأفكار على المستوى الدولي، بسبب الرغبة الشديدة لفرض القيم الغربية على العالم، دون إدراك منها إذا ما كانت الدول التي يتم فرض هذه القيم عليها مستعدة لها فعلاً أم لا، فوفقًا لرأي والت فإن فرض المؤسسات الديمقراطية في دولة ما ليس معناه نجاح التجربة الديمقراطية، بل العكس قد يكون صحيحًا، لأن الديمقراطية تحتاج إلى قناعة من قبل الشعب ذاته، وهذا مرتبط بشكل مباشر بالتركيبة السياسية والإثنية للدول والثقافة العامة للشعب، ضاربًا الأمثال على فشل هذا النموذج عبر العالم في الآونة الأخيرة، فتقديره رغم إيمانه الشديد بالديمقراطية أنها تتحرك من الشعب أو النخب إلى القيادة والعكس صحيح، فلا يمكن فرض الديمقراطية، وقد رأيت أن هذه المقالة تدخل ضمن تقييم فترة حكم الجنرال فرانكو.
واقع الأمر أن الانتقادات الشديدة التي وجهها كثيرون لهذا الديكتاتور تركزت حول عدد من الأطروحات التي نوردها في المحاور التالية، إضافة إلى ردود من يرون عكس ذلك على النحو التالي:
أولاً: يؤكد معارضو فرانكو أن حكمه كان حكمًا عسكريًا بحتًا، فكان هدفه الأول والأخير هو الحفاظ على السلطة وكبح جماح أي حركات معارضة له، وهو ما نفذه من خلال نظرية الحزب الواحد والقيم الموحدة، الأولى ممثلة في القضاء على الأحزاب الإسبانية وإدارة البلاد من خلال مؤسسة حزبية واحدة، مثل الحزب النازي أو الفاشستي في ألمانيا وإيطاليا، وهو ما أخر مسيرة الديمقراطية بشكل واضح وصريح في إسبانيا.
وعلى حين يعتنق البعض هذا التوجه، فإن التيار الآخر يرى في فرانكو منقذ إسبانيا التي لم تستطع حقيقة الأمر إدارة العملية الديمقراطية، لاستقطاب المجتمع بين يساري متطرف بتأييد من الاتحاد السوفياتي يهدف لإقامة الدولة الاشتراكية تمهيدًا للشيوعية، وآخر ليبرالي موازٍ يهدف لوقف حركة التاريخ في إسبانيا بتجميع خيوط آليات الإنتاج والدفع بالرأسمالية المطلقة في أيادي نخب محدودة، فضلاً على انتشار أعمال العنف والحرب الأهلية في البلاد، وفي ظل هذه الظروف فإن تحكيم صناديق الانتخابات أدت إلى الحرب الأهلية وليس العكس، فإسبانيا لم تدخل الحرب الأهلية بهدف الديمقراطية، ولكن بهدف سعي كل قطب للاستيلاء على الحكم وفرض أنماط ليست بالضرورة في مصلحة الدولة الإسبانية، بالتالي يكون تدخل فرانكو للقبض على السلطة أمرًا حاسمًا لصالح الدولة والشعب وليس ضدها.
ثانيًا: يؤكد معارضو فرانكو أن الرجل قضى على فكرة الحريات وفرض قيمه الكاثوليكية وشبه الفاشستية على البلاد، وهو ما لا يمكن قبوله على الإطلاق، لأنه لم يأخذ في الاعتبار حقوق وتطلعات الشعب ككل، وأنه استغل السطوة العسكرية لفرض هذا النمط السياسي على البلاد، في الوقت الذي كانت هناك نماذج أوروبية تتبع النظم الديمقراطية بشكل ناجح، وحقيقة الأمر أن هناك كثيرًا من النقاط التي تبرر هذا التوجه، فالرجل قمع المعارضة بكل أشكالها وانقض على الحريات وجمع السلطة في الفرق الموالية له، وأصبح جهاز إعلام الدولة هو الوحيد المسموح له بالتحرك.
ورغم صحة عناصر كثيرة من هذا التوجه، فإن مؤيدي فرانكو يرون أن إسبانيا لم تكن مستعدة بعد للديمقراطية في هذه المرحلة التاريخية، بسبب ضعف الطبقة الوسطى التي هي عماد الديمقراطية بشكل عام، فضلاً على عدم انتشار حركة التمدن وتخلف وسائل الإنتاج وضعف البنية الزراعية بالمقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، أي أن إسبانيا لم تكن قد عبرت بعد ما يمكن أن نسميه مجازًا «مرحلة ما بعد الإقطاع»، بالتالي فإن بناء الدولة وشد عودها كان الأولوية في ذلك التوقيت، ويؤكد هذا التيار أن إسبانيا لم تكن مثل بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول، فبريطانيا على سبيل المثال دخلت في الحرب الأهلية وخرجت محكومة بالديكتاتوريات لقرابة خمسة عقود حتى جاءت الثورة الثانية (الثورة العظيمة)، لتضع البلاد على طريق الديمقراطية السليم، أما فرنسا فقد احتاجت إلى ما يقرب من تسعة عقود بعد الثورة لتهدأ وتدخل في المسيرة الديمقراطية.
أما فيما يتعلق بسيطرة الجيش على السلطة، فإن التيار المؤيد لفرانكو يرى أن هيكل الدولة واستقرارها يتبوأ مرتبة أعلى من القيمة التي ستحكم بها الدولة، فمن غير المنطقي أن يتم السعي لفرض النظام الديمقراطي لدولة في الوقت الذي تبدأ فيه كياناتها ومؤسساتها تتهاوى، فما قيمة الديمقراطية لو أن الدولة تفتتت واستمرت فيها الحرب الأهلية؟ كذلك يرى أصحاب هذا التيار أن فوز أي من طرفي المعادلة السياسية كان سيجلب على البلاد حكمًا ديكتاتوريًا أو شموليًا، فهذه هي سمة أغلب ما حدث بعد الحروب الأهلية.
ثالثًا: يظهر تيار فكري معاصر يرى أن الجيش ليست له صلاحية أو شرعية التدخل في السياسة مهما كانت الأسباب، ويعتمد هذا التيار في نقد نظام فرانكو في أنه استغل الجيش، الذي وظيفته الأساسية هي حماية حدود الدولة من العدوان وضرورة ترك الشأن السياسي للساسة، مؤكدين أن الحكم العسكري قل ما ينتج عنه التطور الديمقراطي المنشود، فبالنسبة لهم الديمقراطية عدوة العسكرية، وفي هذا الإطار يرد مؤيدو فرانكو بالتأكيد على أنه رغم الاتفاق على أن الجيش وظيفته الأساسية هي حماية الحدود من العدوان الخارجي، ولكن ما قيمة حماية الحدود إذا ما كان المركز والأطراف في حالة غليان وحرب داخلية ضروس تهدد بقاء الدولة ذاتها؟ فقد يكون العدو الداخلي في كثير من الأحيان ممثلاً في الحرب الأهلية أكثر خطورة من عدو خارجي، فالعدو الخارجي تتحد أمامه جموع الشعب، أما العدوان الداخلي بين فئة وأخرى فهو الخطر الحقيقي المحدق بالبلاد، فتفكيك الدولة بالعدوان الخارجي أمر أصعب بكثير من تفتيتها من خلال الحرب الأهلية.
رابعًا: يركز التيار المعارض لفرانكو على أن الرجل كان من الأجدر أن ترك السياسة وإطلاق الديمقراطية خلال مرحلة ما بعد استقرار الدولة وليست وفاته، فالرجل استمر في حكم البلاد في الوقت الذي لم يكن هو ذاته قادرًا على الوفاء بأعباء الحكم، وحقيقة الأمر أنني لم أقرأ أو أستمع إلى رد مقنع للتيار المؤيد لفرانكو على هذه الأطروحة، فالرجل ترك الحكم بموته، بعدما فقد القدرة الحقيقية لإدارة البلاد لأسباب تتعلق بالصحة والانعزالية، وتقديري أن هذا هو قدر كثير من نماذج الديكتاتورية الذي يرى في نفسه وحكمه مصير الدولة المطلق، غير مدرك أن أعمار البلاد تفوق بألفيات عمر الإنسان، وهنا ينطبق المثل القائل إن «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، وتقديري أنه قد كان من الأجدر به أن يترك الحكم بعد أن حمى البلاد ووضعها على طريق التطور والتنمية بنسب نمو تنافس اليابان وغيرها من الدول الصاعدة بعد سنوات من حكمه.
ولكن قد يشفع لفرانكو سياسيًا أنه عندما ترك إسبانيا، فإنها بالتأكيد لم تكن مثلما تسلمها، بل كانت في حالة أفضل بمراحل ممتدة، فتركها دولة ذات رونق سياسي واقتصادي عظيم، ولكن الأهم من ذلك هو أنه تركها على مدخل الديمقراطية بحيث أصبح اعتناق الشعب لها أمرًا متوقعًا، بل يكاد يكون حتميًا، فهو ديكتاتور ترك الحكم للديمقراطية بعدما وضع لإسبانيا الأسس الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي تكفل لها نجاح المسيرة الديمقراطية والتي قد يكون لبقائه في الحكم لعقود ممتدة سببًا في تأخيرها بالفعل. وختامًا فإنني أعود مرة أخرى إلى مقالة البروفسور والت بأن الديمقراطية مسيرة وثقافة، فالمؤسسة الديمقراطية لا تعني دولة ديمقراطية، وهذا درس يصرخ من التاريخ لينير لنا الحاضر، خصوصًا أن أغلب الديمقراطيات ولدت من رحم الحكم الديكتاتوري أو الشمولي بعد مرحلة تكوين داخل هذا الرحم تختلف من دولة إلى أخرى.
من التاريخ: الديكتاتور فرانكو في الميزان
من التاريخ: الديكتاتور فرانكو في الميزان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة