من التاريخ: الديكتاتور فرانكو في الميزان

الجنرال فرانكو الإسباني
الجنرال فرانكو الإسباني
TT

من التاريخ: الديكتاتور فرانكو في الميزان

الجنرال فرانكو الإسباني
الجنرال فرانكو الإسباني

لا شك أن الجنرال فرانكو الإسباني الذي تابعنا سيرته على مدار الأسبوعين الماضيين يمثل شخصية من أكثر الشخصيات الخلافية، ليس فقط في إسبانيا ولكن في العالم ككل، خصوصًا بين المؤرخين وعلماء العلوم السياسية، فلقد تولى الرجل الحكم في إسبانيا منذ عام 1936 وحتى 1975 عندما وافته المنية في سن طاعن، وقد مثل بداية حكمه نهايةً للحرب الأهلية الطاحنة التي ضربت إسبانيا بكل قوتها، بعدما انشطرت البلاد بين يسار متشدد ويمين متطرف، وقد حكم الرجل إسبانيا بيد من حديد وترك الحكم في نهاية عمره إلى الأسرة الملكية التي كانت تحكم البلاد، فاعتنقت إسبانيا الديمقراطية بمجرد وفاته.
حقيقة الأمر أنه يصعب للغاية أن نضع رأيًا قاطعًا حول هذا الرجل، ليس فقط لأنه رجل المتناقضات في بعض الأحيان، ولكن لكونه يمثل في حقيقة الأمر سببًا لاختلاف المحللين، خصوصًا مع الأفكار المسيطرة على العالم اليوم، وقد تأثرت كثيرًا أثناء كتابة هذه السطور بمقال منذ أيام للكاتب العظيم ستيفان والت، أحد أكبر وأهم علماء السياسة، الذي أذكر أنني كنت أدرس نظرياته وأنا طالب في الجامعة، وقمت بتدريسها بعد عدة عقود أيضًا، ففي هذه المقالة ينتقد والت ما آلت إليه بعض الأمور والأفكار على المستوى الدولي، بسبب الرغبة الشديدة لفرض القيم الغربية على العالم، دون إدراك منها إذا ما كانت الدول التي يتم فرض هذه القيم عليها مستعدة لها فعلاً أم لا، فوفقًا لرأي والت فإن فرض المؤسسات الديمقراطية في دولة ما ليس معناه نجاح التجربة الديمقراطية، بل العكس قد يكون صحيحًا، لأن الديمقراطية تحتاج إلى قناعة من قبل الشعب ذاته، وهذا مرتبط بشكل مباشر بالتركيبة السياسية والإثنية للدول والثقافة العامة للشعب، ضاربًا الأمثال على فشل هذا النموذج عبر العالم في الآونة الأخيرة، فتقديره رغم إيمانه الشديد بالديمقراطية أنها تتحرك من الشعب أو النخب إلى القيادة والعكس صحيح، فلا يمكن فرض الديمقراطية، وقد رأيت أن هذه المقالة تدخل ضمن تقييم فترة حكم الجنرال فرانكو.
واقع الأمر أن الانتقادات الشديدة التي وجهها كثيرون لهذا الديكتاتور تركزت حول عدد من الأطروحات التي نوردها في المحاور التالية، إضافة إلى ردود من يرون عكس ذلك على النحو التالي:
أولاً: يؤكد معارضو فرانكو أن حكمه كان حكمًا عسكريًا بحتًا، فكان هدفه الأول والأخير هو الحفاظ على السلطة وكبح جماح أي حركات معارضة له، وهو ما نفذه من خلال نظرية الحزب الواحد والقيم الموحدة، الأولى ممثلة في القضاء على الأحزاب الإسبانية وإدارة البلاد من خلال مؤسسة حزبية واحدة، مثل الحزب النازي أو الفاشستي في ألمانيا وإيطاليا، وهو ما أخر مسيرة الديمقراطية بشكل واضح وصريح في إسبانيا.
وعلى حين يعتنق البعض هذا التوجه، فإن التيار الآخر يرى في فرانكو منقذ إسبانيا التي لم تستطع حقيقة الأمر إدارة العملية الديمقراطية، لاستقطاب المجتمع بين يساري متطرف بتأييد من الاتحاد السوفياتي يهدف لإقامة الدولة الاشتراكية تمهيدًا للشيوعية، وآخر ليبرالي موازٍ يهدف لوقف حركة التاريخ في إسبانيا بتجميع خيوط آليات الإنتاج والدفع بالرأسمالية المطلقة في أيادي نخب محدودة، فضلاً على انتشار أعمال العنف والحرب الأهلية في البلاد، وفي ظل هذه الظروف فإن تحكيم صناديق الانتخابات أدت إلى الحرب الأهلية وليس العكس، فإسبانيا لم تدخل الحرب الأهلية بهدف الديمقراطية، ولكن بهدف سعي كل قطب للاستيلاء على الحكم وفرض أنماط ليست بالضرورة في مصلحة الدولة الإسبانية، بالتالي يكون تدخل فرانكو للقبض على السلطة أمرًا حاسمًا لصالح الدولة والشعب وليس ضدها.
ثانيًا: يؤكد معارضو فرانكو أن الرجل قضى على فكرة الحريات وفرض قيمه الكاثوليكية وشبه الفاشستية على البلاد، وهو ما لا يمكن قبوله على الإطلاق، لأنه لم يأخذ في الاعتبار حقوق وتطلعات الشعب ككل، وأنه استغل السطوة العسكرية لفرض هذا النمط السياسي على البلاد، في الوقت الذي كانت هناك نماذج أوروبية تتبع النظم الديمقراطية بشكل ناجح، وحقيقة الأمر أن هناك كثيرًا من النقاط التي تبرر هذا التوجه، فالرجل قمع المعارضة بكل أشكالها وانقض على الحريات وجمع السلطة في الفرق الموالية له، وأصبح جهاز إعلام الدولة هو الوحيد المسموح له بالتحرك.
ورغم صحة عناصر كثيرة من هذا التوجه، فإن مؤيدي فرانكو يرون أن إسبانيا لم تكن مستعدة بعد للديمقراطية في هذه المرحلة التاريخية، بسبب ضعف الطبقة الوسطى التي هي عماد الديمقراطية بشكل عام، فضلاً على عدم انتشار حركة التمدن وتخلف وسائل الإنتاج وضعف البنية الزراعية بالمقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، أي أن إسبانيا لم تكن قد عبرت بعد ما يمكن أن نسميه مجازًا «مرحلة ما بعد الإقطاع»، بالتالي فإن بناء الدولة وشد عودها كان الأولوية في ذلك التوقيت، ويؤكد هذا التيار أن إسبانيا لم تكن مثل بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول، فبريطانيا على سبيل المثال دخلت في الحرب الأهلية وخرجت محكومة بالديكتاتوريات لقرابة خمسة عقود حتى جاءت الثورة الثانية (الثورة العظيمة)، لتضع البلاد على طريق الديمقراطية السليم، أما فرنسا فقد احتاجت إلى ما يقرب من تسعة عقود بعد الثورة لتهدأ وتدخل في المسيرة الديمقراطية.
أما فيما يتعلق بسيطرة الجيش على السلطة، فإن التيار المؤيد لفرانكو يرى أن هيكل الدولة واستقرارها يتبوأ مرتبة أعلى من القيمة التي ستحكم بها الدولة، فمن غير المنطقي أن يتم السعي لفرض النظام الديمقراطي لدولة في الوقت الذي تبدأ فيه كياناتها ومؤسساتها تتهاوى، فما قيمة الديمقراطية لو أن الدولة تفتتت واستمرت فيها الحرب الأهلية؟ كذلك يرى أصحاب هذا التيار أن فوز أي من طرفي المعادلة السياسية كان سيجلب على البلاد حكمًا ديكتاتوريًا أو شموليًا، فهذه هي سمة أغلب ما حدث بعد الحروب الأهلية.
ثالثًا: يظهر تيار فكري معاصر يرى أن الجيش ليست له صلاحية أو شرعية التدخل في السياسة مهما كانت الأسباب، ويعتمد هذا التيار في نقد نظام فرانكو في أنه استغل الجيش، الذي وظيفته الأساسية هي حماية حدود الدولة من العدوان وضرورة ترك الشأن السياسي للساسة، مؤكدين أن الحكم العسكري قل ما ينتج عنه التطور الديمقراطي المنشود، فبالنسبة لهم الديمقراطية عدوة العسكرية، وفي هذا الإطار يرد مؤيدو فرانكو بالتأكيد على أنه رغم الاتفاق على أن الجيش وظيفته الأساسية هي حماية الحدود من العدوان الخارجي، ولكن ما قيمة حماية الحدود إذا ما كان المركز والأطراف في حالة غليان وحرب داخلية ضروس تهدد بقاء الدولة ذاتها؟ فقد يكون العدو الداخلي في كثير من الأحيان ممثلاً في الحرب الأهلية أكثر خطورة من عدو خارجي، فالعدو الخارجي تتحد أمامه جموع الشعب، أما العدوان الداخلي بين فئة وأخرى فهو الخطر الحقيقي المحدق بالبلاد، فتفكيك الدولة بالعدوان الخارجي أمر أصعب بكثير من تفتيتها من خلال الحرب الأهلية.
رابعًا: يركز التيار المعارض لفرانكو على أن الرجل كان من الأجدر أن ترك السياسة وإطلاق الديمقراطية خلال مرحلة ما بعد استقرار الدولة وليست وفاته، فالرجل استمر في حكم البلاد في الوقت الذي لم يكن هو ذاته قادرًا على الوفاء بأعباء الحكم، وحقيقة الأمر أنني لم أقرأ أو أستمع إلى رد مقنع للتيار المؤيد لفرانكو على هذه الأطروحة، فالرجل ترك الحكم بموته، بعدما فقد القدرة الحقيقية لإدارة البلاد لأسباب تتعلق بالصحة والانعزالية، وتقديري أن هذا هو قدر كثير من نماذج الديكتاتورية الذي يرى في نفسه وحكمه مصير الدولة المطلق، غير مدرك أن أعمار البلاد تفوق بألفيات عمر الإنسان، وهنا ينطبق المثل القائل إن «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، وتقديري أنه قد كان من الأجدر به أن يترك الحكم بعد أن حمى البلاد ووضعها على طريق التطور والتنمية بنسب نمو تنافس اليابان وغيرها من الدول الصاعدة بعد سنوات من حكمه.
ولكن قد يشفع لفرانكو سياسيًا أنه عندما ترك إسبانيا، فإنها بالتأكيد لم تكن مثلما تسلمها، بل كانت في حالة أفضل بمراحل ممتدة، فتركها دولة ذات رونق سياسي واقتصادي عظيم، ولكن الأهم من ذلك هو أنه تركها على مدخل الديمقراطية بحيث أصبح اعتناق الشعب لها أمرًا متوقعًا، بل يكاد يكون حتميًا، فهو ديكتاتور ترك الحكم للديمقراطية بعدما وضع لإسبانيا الأسس الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي تكفل لها نجاح المسيرة الديمقراطية والتي قد يكون لبقائه في الحكم لعقود ممتدة سببًا في تأخيرها بالفعل. وختامًا فإنني أعود مرة أخرى إلى مقالة البروفسور والت بأن الديمقراطية مسيرة وثقافة، فالمؤسسة الديمقراطية لا تعني دولة ديمقراطية، وهذا درس يصرخ من التاريخ لينير لنا الحاضر، خصوصًا أن أغلب الديمقراطيات ولدت من رحم الحكم الديكتاتوري أو الشمولي بعد مرحلة تكوين داخل هذا الرحم تختلف من دولة إلى أخرى.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.