من التاريخ: الديكتاتور فرانكو في الميزان

الجنرال فرانكو الإسباني
الجنرال فرانكو الإسباني
TT

من التاريخ: الديكتاتور فرانكو في الميزان

الجنرال فرانكو الإسباني
الجنرال فرانكو الإسباني

لا شك أن الجنرال فرانكو الإسباني الذي تابعنا سيرته على مدار الأسبوعين الماضيين يمثل شخصية من أكثر الشخصيات الخلافية، ليس فقط في إسبانيا ولكن في العالم ككل، خصوصًا بين المؤرخين وعلماء العلوم السياسية، فلقد تولى الرجل الحكم في إسبانيا منذ عام 1936 وحتى 1975 عندما وافته المنية في سن طاعن، وقد مثل بداية حكمه نهايةً للحرب الأهلية الطاحنة التي ضربت إسبانيا بكل قوتها، بعدما انشطرت البلاد بين يسار متشدد ويمين متطرف، وقد حكم الرجل إسبانيا بيد من حديد وترك الحكم في نهاية عمره إلى الأسرة الملكية التي كانت تحكم البلاد، فاعتنقت إسبانيا الديمقراطية بمجرد وفاته.
حقيقة الأمر أنه يصعب للغاية أن نضع رأيًا قاطعًا حول هذا الرجل، ليس فقط لأنه رجل المتناقضات في بعض الأحيان، ولكن لكونه يمثل في حقيقة الأمر سببًا لاختلاف المحللين، خصوصًا مع الأفكار المسيطرة على العالم اليوم، وقد تأثرت كثيرًا أثناء كتابة هذه السطور بمقال منذ أيام للكاتب العظيم ستيفان والت، أحد أكبر وأهم علماء السياسة، الذي أذكر أنني كنت أدرس نظرياته وأنا طالب في الجامعة، وقمت بتدريسها بعد عدة عقود أيضًا، ففي هذه المقالة ينتقد والت ما آلت إليه بعض الأمور والأفكار على المستوى الدولي، بسبب الرغبة الشديدة لفرض القيم الغربية على العالم، دون إدراك منها إذا ما كانت الدول التي يتم فرض هذه القيم عليها مستعدة لها فعلاً أم لا، فوفقًا لرأي والت فإن فرض المؤسسات الديمقراطية في دولة ما ليس معناه نجاح التجربة الديمقراطية، بل العكس قد يكون صحيحًا، لأن الديمقراطية تحتاج إلى قناعة من قبل الشعب ذاته، وهذا مرتبط بشكل مباشر بالتركيبة السياسية والإثنية للدول والثقافة العامة للشعب، ضاربًا الأمثال على فشل هذا النموذج عبر العالم في الآونة الأخيرة، فتقديره رغم إيمانه الشديد بالديمقراطية أنها تتحرك من الشعب أو النخب إلى القيادة والعكس صحيح، فلا يمكن فرض الديمقراطية، وقد رأيت أن هذه المقالة تدخل ضمن تقييم فترة حكم الجنرال فرانكو.
واقع الأمر أن الانتقادات الشديدة التي وجهها كثيرون لهذا الديكتاتور تركزت حول عدد من الأطروحات التي نوردها في المحاور التالية، إضافة إلى ردود من يرون عكس ذلك على النحو التالي:
أولاً: يؤكد معارضو فرانكو أن حكمه كان حكمًا عسكريًا بحتًا، فكان هدفه الأول والأخير هو الحفاظ على السلطة وكبح جماح أي حركات معارضة له، وهو ما نفذه من خلال نظرية الحزب الواحد والقيم الموحدة، الأولى ممثلة في القضاء على الأحزاب الإسبانية وإدارة البلاد من خلال مؤسسة حزبية واحدة، مثل الحزب النازي أو الفاشستي في ألمانيا وإيطاليا، وهو ما أخر مسيرة الديمقراطية بشكل واضح وصريح في إسبانيا.
وعلى حين يعتنق البعض هذا التوجه، فإن التيار الآخر يرى في فرانكو منقذ إسبانيا التي لم تستطع حقيقة الأمر إدارة العملية الديمقراطية، لاستقطاب المجتمع بين يساري متطرف بتأييد من الاتحاد السوفياتي يهدف لإقامة الدولة الاشتراكية تمهيدًا للشيوعية، وآخر ليبرالي موازٍ يهدف لوقف حركة التاريخ في إسبانيا بتجميع خيوط آليات الإنتاج والدفع بالرأسمالية المطلقة في أيادي نخب محدودة، فضلاً على انتشار أعمال العنف والحرب الأهلية في البلاد، وفي ظل هذه الظروف فإن تحكيم صناديق الانتخابات أدت إلى الحرب الأهلية وليس العكس، فإسبانيا لم تدخل الحرب الأهلية بهدف الديمقراطية، ولكن بهدف سعي كل قطب للاستيلاء على الحكم وفرض أنماط ليست بالضرورة في مصلحة الدولة الإسبانية، بالتالي يكون تدخل فرانكو للقبض على السلطة أمرًا حاسمًا لصالح الدولة والشعب وليس ضدها.
ثانيًا: يؤكد معارضو فرانكو أن الرجل قضى على فكرة الحريات وفرض قيمه الكاثوليكية وشبه الفاشستية على البلاد، وهو ما لا يمكن قبوله على الإطلاق، لأنه لم يأخذ في الاعتبار حقوق وتطلعات الشعب ككل، وأنه استغل السطوة العسكرية لفرض هذا النمط السياسي على البلاد، في الوقت الذي كانت هناك نماذج أوروبية تتبع النظم الديمقراطية بشكل ناجح، وحقيقة الأمر أن هناك كثيرًا من النقاط التي تبرر هذا التوجه، فالرجل قمع المعارضة بكل أشكالها وانقض على الحريات وجمع السلطة في الفرق الموالية له، وأصبح جهاز إعلام الدولة هو الوحيد المسموح له بالتحرك.
ورغم صحة عناصر كثيرة من هذا التوجه، فإن مؤيدي فرانكو يرون أن إسبانيا لم تكن مستعدة بعد للديمقراطية في هذه المرحلة التاريخية، بسبب ضعف الطبقة الوسطى التي هي عماد الديمقراطية بشكل عام، فضلاً على عدم انتشار حركة التمدن وتخلف وسائل الإنتاج وضعف البنية الزراعية بالمقارنة بالدول الأوروبية الأخرى، أي أن إسبانيا لم تكن قد عبرت بعد ما يمكن أن نسميه مجازًا «مرحلة ما بعد الإقطاع»، بالتالي فإن بناء الدولة وشد عودها كان الأولوية في ذلك التوقيت، ويؤكد هذا التيار أن إسبانيا لم تكن مثل بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول، فبريطانيا على سبيل المثال دخلت في الحرب الأهلية وخرجت محكومة بالديكتاتوريات لقرابة خمسة عقود حتى جاءت الثورة الثانية (الثورة العظيمة)، لتضع البلاد على طريق الديمقراطية السليم، أما فرنسا فقد احتاجت إلى ما يقرب من تسعة عقود بعد الثورة لتهدأ وتدخل في المسيرة الديمقراطية.
أما فيما يتعلق بسيطرة الجيش على السلطة، فإن التيار المؤيد لفرانكو يرى أن هيكل الدولة واستقرارها يتبوأ مرتبة أعلى من القيمة التي ستحكم بها الدولة، فمن غير المنطقي أن يتم السعي لفرض النظام الديمقراطي لدولة في الوقت الذي تبدأ فيه كياناتها ومؤسساتها تتهاوى، فما قيمة الديمقراطية لو أن الدولة تفتتت واستمرت فيها الحرب الأهلية؟ كذلك يرى أصحاب هذا التيار أن فوز أي من طرفي المعادلة السياسية كان سيجلب على البلاد حكمًا ديكتاتوريًا أو شموليًا، فهذه هي سمة أغلب ما حدث بعد الحروب الأهلية.
ثالثًا: يظهر تيار فكري معاصر يرى أن الجيش ليست له صلاحية أو شرعية التدخل في السياسة مهما كانت الأسباب، ويعتمد هذا التيار في نقد نظام فرانكو في أنه استغل الجيش، الذي وظيفته الأساسية هي حماية حدود الدولة من العدوان وضرورة ترك الشأن السياسي للساسة، مؤكدين أن الحكم العسكري قل ما ينتج عنه التطور الديمقراطي المنشود، فبالنسبة لهم الديمقراطية عدوة العسكرية، وفي هذا الإطار يرد مؤيدو فرانكو بالتأكيد على أنه رغم الاتفاق على أن الجيش وظيفته الأساسية هي حماية الحدود من العدوان الخارجي، ولكن ما قيمة حماية الحدود إذا ما كان المركز والأطراف في حالة غليان وحرب داخلية ضروس تهدد بقاء الدولة ذاتها؟ فقد يكون العدو الداخلي في كثير من الأحيان ممثلاً في الحرب الأهلية أكثر خطورة من عدو خارجي، فالعدو الخارجي تتحد أمامه جموع الشعب، أما العدوان الداخلي بين فئة وأخرى فهو الخطر الحقيقي المحدق بالبلاد، فتفكيك الدولة بالعدوان الخارجي أمر أصعب بكثير من تفتيتها من خلال الحرب الأهلية.
رابعًا: يركز التيار المعارض لفرانكو على أن الرجل كان من الأجدر أن ترك السياسة وإطلاق الديمقراطية خلال مرحلة ما بعد استقرار الدولة وليست وفاته، فالرجل استمر في حكم البلاد في الوقت الذي لم يكن هو ذاته قادرًا على الوفاء بأعباء الحكم، وحقيقة الأمر أنني لم أقرأ أو أستمع إلى رد مقنع للتيار المؤيد لفرانكو على هذه الأطروحة، فالرجل ترك الحكم بموته، بعدما فقد القدرة الحقيقية لإدارة البلاد لأسباب تتعلق بالصحة والانعزالية، وتقديري أن هذا هو قدر كثير من نماذج الديكتاتورية الذي يرى في نفسه وحكمه مصير الدولة المطلق، غير مدرك أن أعمار البلاد تفوق بألفيات عمر الإنسان، وهنا ينطبق المثل القائل إن «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، وتقديري أنه قد كان من الأجدر به أن يترك الحكم بعد أن حمى البلاد ووضعها على طريق التطور والتنمية بنسب نمو تنافس اليابان وغيرها من الدول الصاعدة بعد سنوات من حكمه.
ولكن قد يشفع لفرانكو سياسيًا أنه عندما ترك إسبانيا، فإنها بالتأكيد لم تكن مثلما تسلمها، بل كانت في حالة أفضل بمراحل ممتدة، فتركها دولة ذات رونق سياسي واقتصادي عظيم، ولكن الأهم من ذلك هو أنه تركها على مدخل الديمقراطية بحيث أصبح اعتناق الشعب لها أمرًا متوقعًا، بل يكاد يكون حتميًا، فهو ديكتاتور ترك الحكم للديمقراطية بعدما وضع لإسبانيا الأسس الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي تكفل لها نجاح المسيرة الديمقراطية والتي قد يكون لبقائه في الحكم لعقود ممتدة سببًا في تأخيرها بالفعل. وختامًا فإنني أعود مرة أخرى إلى مقالة البروفسور والت بأن الديمقراطية مسيرة وثقافة، فالمؤسسة الديمقراطية لا تعني دولة ديمقراطية، وهذا درس يصرخ من التاريخ لينير لنا الحاضر، خصوصًا أن أغلب الديمقراطيات ولدت من رحم الحكم الديكتاتوري أو الشمولي بعد مرحلة تكوين داخل هذا الرحم تختلف من دولة إلى أخرى.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».