معاناة السجاد القيرواني بألوانه الزاهية من الكساد السياحي

انخفاض الإنتاج بنسبة 83 % في 13 سنة

ما يميز السجاد القيرواني عن غيره هو الألوان الطبيعية الزاهية التي تطبع المنتج القيرواني
ما يميز السجاد القيرواني عن غيره هو الألوان الطبيعية الزاهية التي تطبع المنتج القيرواني
TT

معاناة السجاد القيرواني بألوانه الزاهية من الكساد السياحي

ما يميز السجاد القيرواني عن غيره هو الألوان الطبيعية الزاهية التي تطبع المنتج القيرواني
ما يميز السجاد القيرواني عن غيره هو الألوان الطبيعية الزاهية التي تطبع المنتج القيرواني

لا يمكن أن تزور مدينة القيروان التونسية دون أن تمر بثلاث مراحل أساسية، أولها التمتع بالسجاد (الزربية) القيرواني الأصيل، وتذوق المقروض القيرواني الصميم، والاطلاع على معالم المدينة الأثرية وعلى رأسها جامع عقبة بن نافع ومقام أبو زمعة البلوي.
ومنذ دخولك إلى مدينة القيروان يعترضك مجسم كبير الحجم للسجاد القيرواني، ولسان حاله يقول لك: أنت في مدينة السجاد بامتياز. ولكن لا تغتر بالمظاهر الخارجية فواقع السجاد القيرواني تأثر كثيرا خلال السنوات الأخيرة، وبخاصة السنة الماضية بعد تعرض مدينة سوسة السياحية المجاورة لهجوم إرهابي قلص من عدد السياح، وهمش مدينة القيروان ضمن المسالك السياحية التي تبرمجها وكالات الأسفار على قلتها.
وهذا الواقع الجديد ترجمته عزيزة السلاوي (حرفية في صناعة السجاد) بقولها إن الحال اليوم تغير كثيرا، فنحن على ارتباط وثيق بعالم السياحة، وإقبال السائح الأجنبي الذي يمثل أهم مشترٍ للسجاد القيرواني. وتضيف أن «مدينة القيروان يمر بها عادة عدد كبير من السياح، وهم الذين يقتنون العدد الأهم من الزرابي الجيدة الصنع، ولكن ما تشهده السياحة من ركود أثر على عملنا وقلل من إنتاجنا وجعلنا نحتفظ بعدد قليل من العاملات في انتظار توقعات بانفراج الأوضاع بداية من الموسم السياحي المقبل».
وعما يميز السجاد القيرواني عن غيره من أنواع السجاد، سواء في قفصة (جنوب غرب) أو جربة (جنوب شرق)، تشير عزيزة إلى الألوان الطبيعية الزاهية التي تطبع المنتج القيرواني، وتقول: «هو أهم ما يميز الزربية القيروانية»، أما أشهر أنواع السجاد على الإطلاق فهو زربية من نوع «علوشة» (نسبة إلى الضأن ويسميه التونسيون العلوش)، وهي تحمل ألوانا طبيعية لم تطرأ عليها تغييرات كيميائية، وتجمع 3 ألوان على الأكثر، وهي الأبيض والبني والأصفر.
وفي نفس السياق، قالت جميلة السلاوي (حرفية في السجاد القيرواني)، إن ما يميز السجاد القيرواني عن غيره يكمن في اختلاف التصاميم وما تسميه الحرفيات «التنقيلة»، وهي عبارة عن مجموعة نقوش تزين السجاد، وأشهرها المحراب وبيت النحل، وهي صعبة للغاية بالنسبة للمبتدئات في عالم السجاد، أما الفتاة القيروانية فتحفظ هذه النقوش عن ظهر قلب، وباستطاعتها أن تنفذها مغمضة العينين، على حد قولها.
ولا تخفي جميلة السلاوي وجود مصاعب جمة في مواجهة السجاد القيرواني، وتشير إلى تضاعف أسعار المواد الأولية المستعملة في صناعة السجاد، من 4 دنانير تونسية (نحو دولارين) إلى 9 دنانير (نحو 4.5 دولار) خلال العام الجاري، في حين أن هامش الربح بالنسبة للحرفيات بقي كما هو إن لم يكن قد شهد انخفاضا نتيجة قلة إقبال السياح على مدينة القيروان.
وحكاية القيروان مع السجاد الجيد تعود إلى سنة 1830، إذ انطلقت المرأة القيروانية «الكاملة بنت الشاوش» في حياكة الزربية (السجاد)، وهي التي ألهمت أجيالا متلاحقة بهذه الحرفة التي تتعلمها الفتيات القيروانيات منذ الصغر، وتمررها النساء إلى بناتها حتى أصبح عيبًا على المرأة القيروانية ألا تحسن صناعة السجاد بأنواعه البسيطة والمركبة.
وباتت القيروان عاصمة الصناعات التقليدية بامتياز، فهي تضم نحو 28 ألف حرفي، ينشط نحو 15 ألفا منهم في قطاع الزربية (السجاد) وحده، وهو يساهم وحده بنحو 30 في المائة من الإنتاج التونسي للزربية.
وبلغة الأرقام، فقد شهد إنتاج السجاد القيرواني تراجعا ملحوظا، وتسجل الدوائر الحكومية انخفاض الإنتاج إلى 68 ألف متر مربع سنة 2013، بعدما كان في حدود 409 آلاف متر مربع سنة 2000، وهو ما يعني تراجع الإنتاج بنسبة تزيد عن 83 في المائة خلال 13 سنة. وعلى الرغم من شبح الكساد الذي يسيطر على هذه المهنة، فإن أهلها من الحرفيين يواصلون المقاومة، ويعتبرون المسألة ظرفية وسيعود السجاد القيرواني إلى سالف عهده.
وعن المراحل التي يمر بها السجاد القيرواني، أكد المنصف جمعة (تاجر سجاد) أن الزربية الجاهزة تمر حتما عبر دار الزربية، وهي التي تمكنها من تأشيرة الدخول إلى السوق، ويعرض المنتج في سوق الربع، أو ما يعرف بسوق السكاجين بمدينة القيروان، وهناك يحصل السجاد الجديد على ختم الزربية، وذلك وفق كثافة الصوف المستعمل وجودته واعتماد الحرفية على الصوف الطبيعي.
ويشير جمعة إلى أن الأسعار تختلف حسب الجودة والصنف والزينة والأشكال الهندسية، وأفضل الأصناف يباع بسعر يتراوح بين 200 و300 دينار تونسي (من 100 إلى 150 دولارا أميركيا) للمتر المربع الواحد، في حين يمكن أن تباع أصناف أخرى أقل جودة بين 100 و150 دينارا تونسيا (من 50 إلى 75 دولارا أميركيا).
وأكد على ضرورة اهتمام السلطات التونسية بعمليات تسويق المنتج من السجاد القيرواني، حتى لا تفقد حرفيات القيروان الأمل في مواصلة الاهتمام بسجاد بات يمثل أحد رموز المدينة والتراث التونسي.
ويبقى السجاد القيرواني الأفضل والأقرب إلى بيوت التونسيين وضيوف تونس، وذلك على الرغم من تأثره خلال السنوات الأخيرة بسبب تراجع السياحة من جهة والمنافسة من قبل السجاد الاصطناعي القادم من دول شرق آسيا، والذي يعرض بأسعار أقل من السجاد التقليدي من جهة ثانية.
وعلى الرغم من التراجع الذي تشهده هذه الصناعات منذ 3 سنوات بالتحديد، فإنها لا تزال أبرز الصناعات القابلة للتصدير، وتعد تونس رابع أكبر مزود للاتحاد الأوروبي بالمنسوجات، بعد الصين وتركيا وهونغ كونغ.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».