«هاري بوتر» ابناً لمرحلة توني بلير

جزء ثامن من أطول نص في التاريخ وهذه المرة.. مسرحيًا

دانييل رادكليف في دور هاري بوتر - غلاف الجزء الثامن (غير النهائي)
دانييل رادكليف في دور هاري بوتر - غلاف الجزء الثامن (غير النهائي)
TT

«هاري بوتر» ابناً لمرحلة توني بلير

دانييل رادكليف في دور هاري بوتر - غلاف الجزء الثامن (غير النهائي)
دانييل رادكليف في دور هاري بوتر - غلاف الجزء الثامن (غير النهائي)

اعتقد الكثيرون أن قصة هاري بوتر انتهت من دون حلم العودة، بعد انتصاره على اللورد فولديمورت الشرير في الجزء السابع من المجموعة الروائية الأكثر مبيعًا في التاريخ، وأن جيه كيه رولينغ قد طوت صفحته منطلقة في مرحلة ما بعد هاري بوتر إلى عوالم الكتابة للكبار هذه المرة (وظيفة شاغرة) و(ثلاثية كورموران سترايك) وغيرهما. لكن هذا الساحر الخارق العجيب الذي أعاد لقراءة الكتب ألقها بين جيل نشأ على الشاشات الإلكترونية، وتشكل وعيه مع محيطه في عملية إدمان حادة عليها، كادت أن تنسيه أصلاً ما هو الكتاب المطبوع، سيعود - في جزء ثامن (هاري بوتر والفتى الملعون) - وإن كان في إطار شكل جديد يعتمد العمل المسرحي أداة مركزية للسرد، مع توفير القصة في نسخة مطبوعة بالتوازي على شكل نص مسرحي يتضمن توجيهات بشأن كيفية أداء وإخراج بعض المقاطع.
بيعت تذاكر المسرحية التي ستفتح أبوابها في لندن نهاية يوليو (تموز) الحالي لعام كامل خلال أقل من 24 ساعة، ضاربة رقما قياسيا حتى في لندن - أم المسرح العالمي - لتستمر هذه الشخصية في كسر الأرقام القياسية العالمية في كل اتجاه. النص المسرحي المطبوع بدوره تصدر مبيعات الكتب في «أمازون» و«دار ووتر ستون» للكتب، رغم أن التوصيل لن يبدأ إلا في اليوم التالي للعرض الافتتاحي للمسرحية.
على ما يبدو أن بطلنا يقدم للقراء - من جيل معين، صغارًا وكبارًا - دائمًا -، في نقطة حرجة من التطور الاجتماعي والاقتصادي لبريطانيا أساسًا - وللغرب عمومًا - شخصية تتماهى مع حاجتهم إلى تقمص دور في رحلة ذات معنى لعصرهم، تقرأ على مستوى يعطي تفسيرا لمشاعرهم الحياتية. هاري بوتر من هذه الزاوية يمكن أن يجسد فكرة البطل المثالي لفترة التسعينات القاسية في بريطانيا وأوروبا. فبعد أزمات الاقتصاد والسياسة في عقود السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، تفشى بين الجمهور البريطاني مناخ كثيف من انعدام اليقين والالتباس الآيديولوجي، وتساقطت أمامه الأصنام كما الأساطير القديمة التي حكمت تجربة الجيل السابق منذ الحرب العالمية الثانية، كالحرب الباردة وجدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي. كانت تلك هي المرحلة التي تحول الاقتصاد البريطاني فيها نحو السياسات التاتشرية النيوليبرالية شديدة القسوة التي ضربت الطبقات الشعبية بلا رحمة، وأفرزت مناخات من اليأس وغياب البوصلة الأخلاقية، وربما الكفر بكل الآيديولوجيات.
يقدم هاري بوتر، الولد الهادئ الذي لا يثير كثيرًا من الاهتمام - الذي يأتي على صورة يتيم مطحون يعيش في ظل ظروف قاسية - نموذجًا يسهل التماهي معه عندما تنمو الشخصية بروية وسعادة وسلام داخلي عجيب، متحديًا كل الظروف الصعبة ليصبح في النهاية أعظم ساحر في زمانه، منتصرا بسحره على رموز أشرار هذا العالم.
هاري بوتر إذن هو ابن مرحلة توني بلير، حيث لا أفق إلا أن تقبل بما لديك بانتظار فرصة ما، ستأتي يومًا، وربما تحمل وحدها إمكانية تحقيق النجاح والحراك الاجتماعي بعيدًا عن القاع. بهذا المعنى يكون هاري بوتر بمثابة بوصلة أخلاقية ساذجة ربما، لكنها تعطي كثيرًا من الأمان والطمأنينة والتأكيد في مواجهة العالم القاسي.
ما تم تسريبه من معلومات حول الموسم الجديد يشير إلى استئناف القصة بعد 19 عامًا كاملة من اللحظة التي توقف عندها السرد في الجزء السابع، وأن هاري بوتر سيعود رجلا في منتصف العمر وقد تزوج وأنجب (ثلاثة أولاد) والتحق موظفًا حكوميًا في وزارة السحر وعضوًا في فريق خاص مكلّف بمطاردة ممارسي السحر الأسود، كما يفهم من التسريبات أن ابنه الأصغر سيلعب دورًا متزإيدا في تحمل مسؤولية تراث عائلته الذي فرض عليه وراثة، لا اختيارًا.
عودة الهستيريا (البوترية) بهذه السرعة وهذه القوة تدفع للتساؤل من جديد حول سر الجاذبية الاستقطابية الاستثنائية التي تتمتع بها شخصية هاري بوتر - وبالتبعية أعمال جيه كيه رولينغ الروائية جميعًا، وإن لم يبع أي منها رغم نجاحه النسبي ربع ما باعه هاري بوتر عبر العالم - ولمَ هي قادرة على إلهاب مخيلة الملايين دون انقطاع؟
النجاح منقطع النظير للعمل، الذي بدأ بجزء أول في عام 1999، فرض بالطبع مديحًا لا ينتهي لرولينغ ولأسلوب كتابتها الممتع. ومع ذلك، فإن بعض الذين تجرأوا وانتقدوا العمل اعتبروه جيدًا دون شك، لكنه يقصر عن أن يكون قفزة نوعية من الخيال الذي يقدمه مقارنة بأعمال الكتاب البريطانيين الآخرين الذين يكتبون في هذه المساحة من فانتازيا السحر (همفري كاربنتر) (تولكين) و(فيليب بولمان). فإذن أين يكمن السر؟
يقول البعض إن ما وراء الظاهرة هو جدلية النجاح السريع- الإنفاق السريع، الدخل الهائل المتحصل من مبيعات مليونية من الكتب وحقوق الأفلام والمنتجات الأخرى - هو دخل تجاوز بلايين عدة من الدولارات - ساعد تدريجيًا من خلال الاستثمار في برامج تسويق متقدمة عبر قنوات ووسائط مختلفة في الوصول إلى قطاعات واسعة من الجمهور الناطق بالإنجليزية أولاً، ثم باللغات الحية الأخرى لاحقًا. هذا التفسير منطقي وواقعي تمامًا، وهو نسق من أنساق العمل الأساسية في الاقتصاد المعاصر، وكان يمكن قبوله بالمجمل، لولا أن جمهور الكتاب الأول هو الأطفال وصغار المراهقين، وهي مجموعة أمينة في خياراتها على العموم - على الأقل مقارنة بالكبار - ويصعب التأثير عليها سواء من خلال الإعلانات أو حتى بسبب من تشكيك الأهل بالمحتوى؛ إذ لا بد أن سبعة مجلدات ضخمة تحتاج إلى كثير من الجاذبية الخارقة كي يستمر ولد أو بنت في قراءتها بشغف صفحة صفحة ومجلدًا مجلدًا (نحو مليون كلمة - أطول نص روائي في التاريخ). وعلى عكس الكثير من الأعمال التي يحبها الصغار، لكن الأهالي لا يفضلونها وتكون لهم مواقف سلبية منها، فإن هاري بوتر أثار حماس الآباء والأمهات أيضًا، وكثيرًا ما تسابق أفراد العائلة البريطانية الواحدة صغارًا وكبارًا على قراءة كل جزء جديد فور صدوره.
إذن، هاري بوتر بطل لذلك الزمان، كما هي رولينغ نفسها التي كانت تعيش على ما تقدمه الدولة لمساعدة الأمهات العازبات عند كتابتها للجزء الأول من السلسلة قبل أن تصبح من أغنى أغنياء بريطانيا. اليوم يعود هذا البطل، لكن إلى جيل مختلف. الأطفال الذين كبروا مع الصبي هاري بوتر صاروا اليوم شبانا وشابات في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، وكثيرون منهم فقدوا وظائفهم بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وعاشوا سياسة التقشف وربما صار عندهم عائلات، ولا شك أن كثيرين منهم صوّتوا في الاستفتاء الأخير على الانسحاب من أوروبا احتجاجًا أكثر منه اقتناعًا بحجج الطرفين.
هو جيل جديد، بهموم مختلفة وتطلعات مستحدثة. التحدي الحقيقي الآن لهاري بوتر - في الجزء الجديد - هو كسب رهان «الرّاهنية» كما كسبه بنجاح مع جيل التسعينات. رولينغ كاتبة ذكية وشديدة الحساسية للتحولات الاجتماعية في بلادها؛ لذا هي ربما دفعت بالشخصية 19 عامًا مرة واحدة من نقطة توقف السلسلة في آخر جزء من الرواية، ليبدو هاري بوتر وكأنه واحد من أبناء ذلك الجيل عُمرًا. يتبقى عليه الآن أن يثبت لنا أنه نضج وكبر كما أبناء ذلك الجيل، لكن في روح القرن الحادي والعشرين، وهو تحد ليس بالسهل إطلاقا، حتى على ساحر قدير مثل هاري بوتر.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!