أكاديمي أميركي يوثق تاريخ بيروت الثقافي واللغوي بالخرائط الرقمية التفاعلية

ديفيد ويرسلي يشرف على أول معهد للإنسانيات الرقمية في العالم العربي

البروفسور ديفيد ويرسلي - صورة لواجهة الموقع الإلكتروني للخريطة التفاعلية لمشروع «بيروت تطبع»
البروفسور ديفيد ويرسلي - صورة لواجهة الموقع الإلكتروني للخريطة التفاعلية لمشروع «بيروت تطبع»
TT

أكاديمي أميركي يوثق تاريخ بيروت الثقافي واللغوي بالخرائط الرقمية التفاعلية

البروفسور ديفيد ويرسلي - صورة لواجهة الموقع الإلكتروني للخريطة التفاعلية لمشروع «بيروت تطبع»
البروفسور ديفيد ويرسلي - صورة لواجهة الموقع الإلكتروني للخريطة التفاعلية لمشروع «بيروت تطبع»

يعمل ديفيد ويرسلي، الأستاذ المساعد بقسم اللغة الإنجليزية في الجامعة الأميركية ببيروت، بدأب في مجال الإنسانيات الرقمية، حيث أسس أول قسم للإنسانيات الرقمية في العالم العربي بالجامعة الأميركية ببيروت، وهو تخصص أكاديمي يجمع عدة تخصصات في مجال العلوم الإنسانية كالتاريخ والأدب والجغرافيا مع تكنولوجيا المعلومات، وقام ويرسلي مع طلابه بتوثيق تاريخ بيروت عبر عدة مشروعات رقمية تدمج علوم اللسانيات مع الجغرافيا مع تكنولوجيا المعلومات عبر تصميم الخرائط الرقمية، فكان أول مشروعاته البحثية تصميم خريطة تفاعلية لغوية لبيروتLinguistic Landscapes of Beirut - (llb.djwrisley.com) أما المشروع الثاني فهو خريطة رقمية تفاعلية توثق لتاريخ بيروت في عالم الطباعة والنشر انطلاقا من مقولة «بيروت تطبع، والقاهرة تكتب، وبغداد تقرأ».
يقول ويرسلي لـ«الشرق الأوسط»: «أقوم بتدريس تاريخ اللغة الإنجليزية وهو الذي أثار شغفي في تتبع تاريخ الإنجليزية في بيروت، وواحد من أكثر الأمور إثارة للانتباه هو كم اللغات المستخدمة في كتابة اللافتات في شوارع بيروت. وحينما كنت أتدرب على الخرائط الرقمية في نيويورك رأيت مشروع خريطة للغرافيتي السياسي في شوارع نيويورك وبوينس آيريس باستخدام تطبيق للهواتف الذكية، وفجأة طرأت الفكرة في ذهني لرسم خريطة توضح استخدام اللبنانيين للكثير من اللغات المكتوبة في الأماكن العامة، وبدأت المشروع مع طلابي، وقمت بتطبيق الفكرة بواسطة تطبيق للهواتف الذكية fulcrumapp.com لجمع البيانات بسهولة أثناء تنقلهم من مكان لآخر وبالتالي كونوا قاعدة بيانات مكانية كبرى».
وعن عدد الأماكن التي تم جمعها عبر الخرائط الرقمية، يوضح ويرسلي: «على مدار عام كامل قمنا بجمع أكثر من ألفي عينة من اللافتات العامة، وكان تركيزنا الأساسي على أي اللغات وجدت مكتوبة معا، ونوعية النص الذي وجدت فيه العينات، وكيف تكتب الأرقام وبأي لغة، وقد عثرنا على نماذج مثيرة للاهتمام». ويقول: «إن جمع البيانات لهذا المشروع كان نوعا ما سهلا وسريعا، لكنه كان يتطلب أن يكون الطلاب على قدر كبير من الدقة في استخدام الكاميرا. ولم نجمع صورا لأماكن حساسة أو صورا لأشخاص بل فقط اللغات المكتوبة في الأماكن العامة».
حظي المشروع باهتمام بالغ وبدأ تدريسه في عدد من الدورات التعليمية الخاصة بالإنسانيات الرقمية حول العالم، هكذا أوضح ويرسلي بسعادة كبيرة بجهوده وجهود طلابه، قائلا: «في باريس قرر عدد من الزملاء استخدام نموذج المشروع لعمل أبحاث اجتماعية - لغوية مماثلة. كما أن طلاب الماجستير في الجامعة الأميركية ببيروت يدرسونه كنقطة انطلاق لمزيد من الأبحاث الأكثر تعمقا عن اللغات المستخدمة في شوارع محددة ببيروت. وكم أود أن أرى المشروع يتمدد ويتوسع لمزيد من المدن المتعددة اللغات في العالم العربي».
ديفيد ويرسلي أحد أبرز وأنشط الأكاديميين المتخصصين في الإنسانيات الرقمية ولديه عدد من المشروعات التي تدمج علوم اللسانيات والجغرافيا وعلم الاجتماع والأدب معا، وهو يعيش منذ أكثر من 14 عاما بالعالم العربي ويتحدث العربية باللهجة اللبنانية بطلاقة. ويقيم منذ العام الماضي عدة دورات تدريبية ومشروعات بحثية يشارك فيها طلاب جامعته ومتطوعون في سبيل جمع المعلومات وتحويلها إلى خرائط معلومات رقمية. كما شارك نهاية العام الماضي في أول فعالية للتعريف بعلم الإنسانيات الرقمية في مصر بالتعاون مع الجامعة الأميركية بالقاهرة.
يشرح بروفسور ويرسلي تفاصيل المشروع الثاني وهو خريطة رقمية عن (ثقافة المطبوعات) أو (ثقافة الطباعة) في بيروت mbpc.djwrisley.com. وكان من المثير التعرف على السبب الذي جعله يفكر في مثل هذا المشروع الذي غاب عن الباحثين في العالم العربي دراسته كظاهرة تستدعي التأمل وبحث تطورها ومآلاتها، يوضح قائلا: «كنت أخطط لتدريس دورة تدريبية في (الإنسانيات المكانية) لقسم اللغة الإنجليزية وأردت أن أطبق منهجية مماثلة للمشروعات السابقة ولكن حول سوسيولوجيا ثقافة الطباعة في بيروت. ولطالما كانت بيروت معروفة بأنها مركز للطباعة والنشر، لذا قررنا أن نقوم بمسح لهذه الأماكن من دور نشر ومراكز بيع المطبوعات ومحاولة استكشاف تطورها وما آلت إليه في إطار التغيرات التي يمر بها العالم، وأثناء توسعنا في الفكرة وجدنا خريطتين مماثلتين لفكرة مشروعنا؛ أحدهما عن منافذ بيع الكتب بالقاهرة Cairo Bookstop، والأخرى منافذ بيع التسجيلات الموسيقية بباريس Disquaires de Paris، في المشروع الأول: تم عمل خريطة لجميع الأماكن التي يمكن من خلالها الحصول على الكتب في القاهرة، وبالطبع كل مصري يعلم صعوبة الحصول على الكتاب الذي يرغب فيه، وقد أعجبني أيضا إضافة العنصر التاريخي لمحل «فينيل ريكورد» في باريس. وأردت أن أدمج بين كلا المشروعين في خريطة عن بيروت وإضافة العمق التاريخي للأماكن التي تبرزها الخريطة».
ويشير إلى أن الخريطة تضمنت مواقع لمختلف أنماط المطبوعات الثقافية مثل: منافذ بيع الكتب، ودور النشر، والمكتبات الخاصة وأكشاك الكتب، ومعارض الكتب والمكتبات العامة وغيرها، وتم اختيار المواقع بعد استشارة ذوي الخبرة، وعمل مقابلات، وأيضا السير في طرقات وشوارع بيروت. ويضيف: «وقد قدمت الخرائط التحليلية لمشروع مبادرة (الجوار) بالجامعة الأميركية ببيروت عونا كبيرا لنا في مشروعنا، حيث مدتنا ببيانات عن الساحات الثقافية واستغلال الأراضي، لقد مكننا هذا المشروع من أن نبني فرضيات عن تأثير كثافة التوسع الحضري على الثقافة». ويكشف ويرسلي: «لقد قمنا بوضع 500 موقع لها علاقة بالمطبوعات في بيروت بعضها له تاريخ كبير وبعضها حديث، لكن جهود الطلاب ذهبت لأبعد من ذلك، لقد أجروا مقابلات حول موضوعات معينة مع أناس محليين لهم علاقة بمجال الطباعة مما ساعد على تطوير المشروع وتميزه وجعله أكثر أصالة». ويوضح: «أعمل منذ فترة مع عدد من الزملاء في الجامعة الأميركية ببيروت وزميلي ريان فياض لعمل خريطة صوتية لبيروت تشرح تاريخها».
وعن إمكانية تطبيق مثل هذا المشروع على مدن أخرى بالعالم العربي يقول: «يمكن لهذا المشروع أن يتوسع ليشمل باقي العالم العربي خاصة أن مدنا مثل الإسكندرية والقاهرة، وبغداد، ودمشق، وطنجة وتونس لها تاريخ غني فيما يتعلق بثقافة المطبوعات وسيكون أمر مشوق أن نقوم برسم خرائط رقمية لها. وأتمنى أن أتابع العمل على هذا المشروع مع باعة الكتب في معارض الكتاب في بيروت وأبوظبي».
تتنوع مهارات الباحثين في مجال الإنسانيات الرقمية ما بين تكويد النصوص المكتوبة بشكل رقمي، وعلم الشبكات وتصميم ورسم الخرائط الرقمية التفاعلية البصرية والسمعية. وعن شغفه بالخرائط الرقمية التفاعلية، يقول ويرسلي: «إن عمل خرائط معلومات يسمح لك بالرؤية أو التصور بطريقة واضحة لم نكن لنحظى بها من قبل، تروي الخرائط أنواعا كثيرة من القصص تختلف عن تلك التي توضحها النصوص أو الرسوم البيانية. ويحتاج الأمر لمعرفة جيدة بالأمكنة وقراءتها. ويسمى هذا التخصص الفرعي من الإنسانيات الرقمية الذي يتعامل مع الخرائط التفاعلية (الحية): (الإنسانيات المكانية) أو (الجغرافيا الإنسانية)».
ويستطرد: «لطالما كنت مهتما بعدد من المشروعات البحثية في مجال الإنسانيات الرقمية، وكان أولها عام 2013 وهو مشروع عن المواقع التي ذكرت في أدب العصور الوسطي الفرنسي، وهو مشروع يتطلب قدرا عاليا من التخصص؛ فهو يتطلب خلفية معرفية تاريخية ومهارات لغوية».
بدأ ديفيد ويرسلي بتدريس الطلاب كيفية تصميم تلك الخرائط منذ أن بدأ دورة للتعريف بأساسيات علم الإنسانيات الرقمية في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة الأميركية ببيروت في خريف عام 2013. وهو يعتقد أن تعليم الخرائط الرقمية لهذا الجيل من الطلاب تجربة ثرية جدا. ويقول بفخر كبير: «لقد صممت راندا الخطيب، وهي واحدة من بين طلابي، خريطة تفاعلية شيقة وهامة للغاية تجسد الأمكنة التي ذكرها مريد البرغوثي في روايته (رأيت رام الله)، حيث قامت بالتمييز بين الألوان لتوضح الأمكنة التي ذكرها فقط والتي زارها فعليا، إنها خريطة أدبية عن الذاكرة الفلسطينية وتنقل خبرة صنعتها الرواية. وتقوم راندا حاليا بالإعداد للدكتوراه في الإنسانيات الرقمية بكندا».
وحول أهمية علم الإنسانيات الرقمية ومناهجه البحثية للعالم العربي في ظل ما يعاني منه من تدمير لتراثه وحضارته، يقول ويرسلي: «إننا بحاجة للإنسانيات الرقمية مثلما نحن بحاجة لعلوم الإنسانيات بصفة عامة، أما الجانب الرقمي فإنه يعني مزيدا من مهارات التعلم والوقت والجهد لكن هذا الجانب يكسب المشروعات البحثية الناتجة صيغة عالمية فهي تصبح مرئية ومفهومة من قبل الباحثين على اختلاف جنسياتهم كما يمكن تطبيقها في أكثر من مكان حول العالم. ففي الإنسانيات الرقمية، نحاول أن نجعل الدراسة تخرج عن إطار التخصص عن طريق إشراك العامة حتى إننا نقبل البيانات التي ترسل لنا من أناس عاديين ولها علاقة بموضوع المشروع البحثي».
وعن مزايا علم الإنسانيات الرقمية يقول: «يتعلم طلاب الإنسانيات الرقمية مهارات قيمة حول جمع البيانات وتحليلها، وعن اللغات، والثقافة وإنتاج الثقافة وكيفية التعامل مع قواعد البيانات، وصنع الخرائط الرقمية وعرض نتائج بحوثهم بشكل رقمي وتقليدي. وعادة لا أطلب من طلابي الانغماس في الأبحاث التقليدية، حيث يسود الاعتقاد بأن الجامعة لدراسة وحفظ ما توصل إليه كبار العلماء، لكن نحن نغير الفكر التقليدي في التعليم».
ويضيف ويرسلي: «وكأستاذ في الإنسانيات عاش في العالم العربي نحو 14 عاما، فأنا على علم بنقص المعرفة فيما يتعلق بالثقافة والتاريخ، خاصة أن أغلب الأبحاث والدراسات التي تتناول تلك الموضوعات تم عملها من الخارج عن الداخل، أما المشروعات الرقمية التي نعمل عليها فهي تحاول تغيير هذا الوضع الرائج».
ولا يتوانى البروفسور ويرسلي عن التحفيز الفكري لطلابه ومتابعيه على موقع «تويتر» حيث يحفزهم دائما بأسئلة تتطلب التفكير بشكل جماعي، والبحث والتنقيب، سواء عن معلومات تاريخية أو مرادفات لغوية تمثل عقبات أثناء عملية الترجمة من وإلى العربية والإنجليزية، فضلا عن أنه يبث نتائج مشروعاته وأحدث الأبحاث والمشروعات الرقمية حول العالم. ويقول: «المشروعات البحثية التي أشرفت عليها تتبنى عددا من القيم المعرفية في علم الإنسانيات الرقمية، ألا وهي: مهارات الاعتماد على النفس (اصنعها بنفسك)، حيث يبحثون هم عن طرق التعلم بأنفسهم بدلا من انتظار أن يعلمهم الأستاذ الجامعي، كما أنني شجعتهم على تبادل النتائج التي يعملون عليها ودمج نتاج عملهم معا حيث يتم تعديل الخرائط الرقمية بصورة حية في الوقت الآني. ولعل الأروع من ذلك هو أن الطلاب يحصلون على مهارات معرفية رقمية ضرورية للغاية في القرن الحادي والعشرين»، مضيفا: «إنهم يتعلمون التفكير حول تداخل العلوم عبر شرح اللغة والثقافة، ويحتاج الطلاب في العصر الرقمي إلى تعلم كيفية جمع البيانات وتخير أفضلها».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».