«الانقلاب الشمسي» فرصة هروب سكان روسيا لاستقبال الصيف

واحد من أهم الفعاليات التي تندرج ضمن الرؤية الحديثة للاستجمام الصيفي

الأزياء الفولكلورية طاغية على المشهد حيث تبدو بألوانها وكأنها جزء من الطبيعة - تدريبات «اليوغا» جزء لا يتجزأ من عيد «انقلاب الشمس» - رغبة بـالهروب من زحمة المدينة والمنتجعات السياحية لقضاء أوقات مميزة في بيئة خلابة
الأزياء الفولكلورية طاغية على المشهد حيث تبدو بألوانها وكأنها جزء من الطبيعة - تدريبات «اليوغا» جزء لا يتجزأ من عيد «انقلاب الشمس» - رغبة بـالهروب من زحمة المدينة والمنتجعات السياحية لقضاء أوقات مميزة في بيئة خلابة
TT

«الانقلاب الشمسي» فرصة هروب سكان روسيا لاستقبال الصيف

الأزياء الفولكلورية طاغية على المشهد حيث تبدو بألوانها وكأنها جزء من الطبيعة - تدريبات «اليوغا» جزء لا يتجزأ من عيد «انقلاب الشمس» - رغبة بـالهروب من زحمة المدينة والمنتجعات السياحية لقضاء أوقات مميزة في بيئة خلابة
الأزياء الفولكلورية طاغية على المشهد حيث تبدو بألوانها وكأنها جزء من الطبيعة - تدريبات «اليوغا» جزء لا يتجزأ من عيد «انقلاب الشمس» - رغبة بـالهروب من زحمة المدينة والمنتجعات السياحية لقضاء أوقات مميزة في بيئة خلابة

برزت في الآونة الأخيرة رغبة لدى أعداد كبيرة من المواطنين الروس بالتعرف أكثر على المعالم الطبيعية والثقافية لبلادهم، وذلك بعد سنوات من التجوال على دول العالم والتعرف على معالمها الثقافية والسياحية وقضاء أسابيع طويلة في منتجعاتها الساحلية وعلى الجبال وضفاف الأنهار والغابات.
وكثيرًا ما تظهر معالم الدهشة على وجه مواطن روسي حين يسمع عن مواقع طبيعية رائعة الجمال ليست بعيدة نسبيًا عن مدينته، لكنه لم يزرها ولم يتمتع بجمالها، أو يسمع عن قومية تعيش بجانبه ولها ثقافة خاصة وتقاليد معينة، وهو يجهلها.
هذا الأمر دفع بعض الشركات التي تنظم فعاليات الاستجمام الصيفي إلى وضع برامج انطلاقا من رؤية مختلفة لمعاني الاستجمام، بحيث تجمع ما بين الرغبة بـ«الهروب» من صخب المدن، والمنتجعات السياحية والازدحام فيها، وقضاء أوقات مميزة في بيئة طبيعية خلابة، يتخللها تعايش مع عادات وتقاليد قومية ما زالت حية حتى يومنا هذا في مناطق قل من وصل إليها.
مهرجان «الانقلاب الشمسي» واحد من أهم الفعاليات التي تندرج ضمن تلك الرؤية الحديثة للاستجمام الصيفي، وهو مهرجان تنظمه غالبية المدن الروسية، حيث يتم عادة اختيار مكان في الطبيعة النائية، على ضفة نهر أو بحيرة، هناك تُنصب الخيام ويتم إعداد منطقة خاصة للسمر الليلي حول النار الليلية، التي تختلط ألسنتها مع نجوم متلألئة في ليالي الصيف. ويحرص المنظمون عادة على أن يشارك في مهرجان «الانقلاب الشمسي» ممثلون عن مختلف القوميات والإثنيات التي تتعايش مع بعضها منذ قرون، إن كانت من شعوب وقوميات المنطقة التي تستضيف المهرجان أو من القوميات الأخرى، ولا ينحصر الأمر على ممثلي القوميات والشعوب التي تعيش في روسيا، بل وقد يشارك ضيوف من دول أخرى.
كعادتها كل عام استضافت مدينة أومسك الواقعة في سيبيريا، شمال شرقي روسيا، مهرجان «الانقلاب الشمسي» هذا العام، والذي يعرف أيضا بأنه «عيد الشمس» لدى شعوب تلك المنطقة، كما يصفه البعض بـ«العيد متعدد القوميات» نظرًا لطبيعة فعالياته والمشاركات فيه. في ريف مدينة أومسك، وعلى ضفة نهر «تارا» في منطقة التايغا، شارك قرابة 1500 شخص في فعاليات ذلك العيد، التي تخللها نشاطات مثل تقديم عروض الأغاني الفولكلورية على آلات موسيقية تقليدية، بمشاركة ممثلين عن أكثر من شعب من الشعوب التي تعيش تقليديا في سيبريا، وكانت هناك تدريبات «اليوغا»، وجلسات تكاد تكون مثل ورشات عمل يقوم فيها شخص بتعريف الآخرين على تعامل أبناء قوميته مع الأعشاب وكيفية استخدامها في علاج الأمراض، وطبعا لا يخلو الأمر من رحلة عبر النهر على متن قوارب تم تصنيعها بالطرق التقليدية وبشكل يشبه القوارب التي تستخدمها الشعوب تقليديا في تلك المناطق. والكثير من الفعاليات التي تحاكي عيد «الانقلاب الشمسي» لدى شعوب ياقوتيا في أقصى شرق روسيا.
عيد «الانقلاب الشمسي» الذي يحمل المهرجان اسمه، واستعار بعض فعالياته، هو عيد تقليدي لدى شعوب منطقة ياقوتيا في روسيا، وهي المنطقة التي يغطيها معظم أوقات السنة الثلج والصقيع، وتحمي رياحها العاتية هدوء وسلامة طبيعتها الخلابة. ياقوتيا هي «عالم شمالي صغير».
ويتميز بطبيعة خلابة الجمال وقاسية، معطاءة وحنونة، تغوي عشاق الجمال من أرجاء العالم. ورغم رقعتها الجغرافية الواسعة فإن كثافة قاطنيها هي الأقل بين مناطق روسيا الاتحادية، لكن ورغم قلتهم ما زالت شعوب ياقوتيا تمارس طقوسها الثقافية التقليدية، ومنها عيد لديهم يصادف في منتصف فصل الصيف، يحتفلون فيه بمناسبة ما تقول حكاياتهم القديمة إنها «الولادة الجديدة للشمس» التي تعيد الحياة إلى الأراضي الشاسعة في أقصى شمال وشرق روسيا.
ويمثل ذلك العيد بالنسبة لتلك الشعوب عيد «الوحدة» بينهم عبر التاريخ. أما فعالياته فتبدأ من مشاركة الجميع بتنظيف الحقول، وشرب اللبن، للدلالة عبر المشاركة في ذات النشاطات على التآخي والوحدة بين الجميع، ومن ثم يمارسون طقوسا يعبرون من خلالها عن شكرهم للأرض على طيبتها وحنانها وعطائها لهم.
ويستمر عيد «الانقلاب الشمسي» لدى تلك الشعوب عدة أيام تجري خلالها فعاليات يختلط فيها العمل مع التعبير عن البهجة بعودة الشمس ودفء الأرض، ويتخللها حفلات موسيقية وغنائية فولكلورية تروي تاريخ وحاضر تلك الشعوب.
وفي عيد الشمس لدى شعوب ياقوتيا، كما في مهرجان «الانقلاب الشمسي» الذي أصبح تقليدا في عدد كبير من المدن الروسية، تكون الأزياء الفولكلورية طاغية على المشهد، تبدو بألوانها وكأنها جزء من الطبيعة التي تحتضن تلك الاحتفالات. هناك وفي طبيعة تكاد تكون شبه عذراء حتى الآن، مجهولة لكثيرين يتبارز الرجال في فنون القتال التقليدية، وفي الصيد بالسهم والرمح، وتظهر النسوة براعتهن في أعمال مثل الحياكة والطهي وركوب الخيل وغيره. وحول النار التي تتصاعد ألسنتها تمنح الدفء وبعض الضوء للمشاركين الملتفين حولها يتسامرون ويمرحون، تتلاقى الأعين، تتبادل بريق وألق الحب، وتبدأ حكاية حياة جديدة بانتظار صيف قادم يعيد الحياة إلى تلك الأرض الطيبة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)