عندما يأخذ الإنسان مسيرة حياته، يتصرف، في غالب الأحيان، وكأنه سيخلد. فنجده يلهث وراء المشاريع، وينجز الأعمال، ويبني المنشآت، ولا يتوانى عن الدخول في رغبات جديدة مباشرة، بعدما يفرغ من أخرى. لكن تأتي عليه لحظات تكون كالصفعة تذكره بالمصير الحتمي، كونه سيؤول إلى زوال، من قبيل أعياد الميلاد، أو مداهمة مرض خطير لنا، أو موت عزيز، أو حين ينظر المرء إلى المرآة فيرى أثر السنين وقد انتشرت على وجهه التجاعيد واشتعل الرأس بالشيب، أو عند انتشار الأوبئة ووقوع الكوارث. ويضطر الإنسان إلى إعادة طرح الأسئلة وترتيب الأولويات من جديد. بل قد ينكمش ويحس بصغر حجمه، وبكل جبروته يسير نحو الصفر، وبغروره يضرب في الصميم، فيعترف بضعفه ويقلل من ادعاءاته. إلا أن العجيب في هذا الكائن اللغز أنه ينسى أو يتناسى هذه اللحظات المهماز، ليعاود السلوك من جديد، على أساس الخلود لا الموت، وكأن نوازع البقاء فيه أكبر من نوازع الفناء.
يعيش الإنسان عموما، وضعا مفارقا ومتأرجحا كبندول الساعة، بين رغبته في الخلود، التي تعطيه اندفاعته وشموخه، بل تبرر له حتى صلاحية الفساد والقتل في الأرض، وبين حتمية الموت التي تعطل له غروره وتذكره بعجزه وبأنه مهزوم لا محالة، وتدعوه لأن يكف من لعب دور «الإله» الذي لن يكون أبدا من نصيبه، فالربوبية محرمة عليه. ومن ثم الالتزام بالتواضع. فكيف حاول الإنسان مجابهة هذه الحتمية المريعة، والتخفيف من هذه النهاية غير المقبولة؟ ما هي أهم المقترحات التي تليّن وتلطّف على المرء فكرة زوال الأشياء المؤلمة؟
منذ أن وجد الإنسان، وهو يبحث عن إمكانات الخلود. فهو كائن لا يريد الفناء، ويتمنى لو عاش بشكل أبدي. ويكفي للمرء أن يقرأ تاريخ الطب، ليكتشف المجهود الجبار الذي بذلته الإنسانية لإيقاف الألم ومن ثم الموت. وكيف أن الطب ظل مثار احترام وتقدير على الدوام. ونحن نعلم أن العلماء المعاصرين، يغامرون في تعديلات وراثية لتحسين النسل، ويقومون بهندسات جينية على أمل ضبط مورث الشيخوخة. ولمَ نذهب بعيدا، فكم من الأموال تصرف على التجميل وكل ما يعيد الشباب! فحلم إكسير الحياة ما يزال يراود البشر، ولن يتوقف هذا الحلم ما بقي إنسان على الأرض. وما دام أن محاولاته لم تصل بعد إلى المبتغى المطلوب، وهو ما يقلق بال الإنسان، فسيبقى مضطرا للبحث عن الإغواءات الصغرى كصيغ بديلة للبقاء، كالبطولة، والحكمة، والجنس، والتكاثر، والطب، والمعرفة وغيرها.
* تجربة تولستوي مع تلاشي الزمن
حين يتحدث الإنسان عن الموت، يتجه مباشرة إلى الفناء البيولوجي، وينسى أن هذا مجرد جزء من كل. فليس الجسد هو الذي يفنى فقط، بل إن التلاشي يعم مشهد حياتنا كله. فمشروعي الذي أتعب من أجله، سينتهي ذات يوم لا محالة. والشيء نفسه ينطبق على المؤلف الذي نؤلفه، والعمل الفني الذي نبدعه، والنظريات التي تقدم لحل المشكلات، والتي قد تحدث ضجة وتصبح مثار حديث الجميع، لكنها ستخفت يوما ما وتخبو لتصبح أثرا بعد عين. بل هل يمكن للمرء أن يعيد لحظاته الحميمية ولحظات الفرح كما عاشها، سابقا، وبالتفصيل؟ أبدا. فاللحظات تموت وتصبح مجرد ذكرى. عد يوما بعد مرور سنوات إلى بيتك القديم، وتجول في أحياء حيكم، فلن تجد إلا صدى الماضي، إذ لا شيء يبقى كما كان. يجب أن نعترف، بأن هذا الإحساس هو جد مؤلم، ما يجعل المرء يبحث عن منافذ يفر من خلالها، هربا من فزاعة الزوال والاندثار الدائمين. وكم تعبر قصة حياة الروائي الروسي ليو تولستوي (1828 - 1910) عما نحن بصدده. فهو يقول: «إن اللاديمومة شيء مؤلم جدا». وحين بلغ تولستوي الخمسين من العمر، أي سنة 1878، كان قد حقق شهرة عالية، خاصة بعد روايتيه «الحرب والسلام» و«أنا كارنينا». بل كان قد عاش نجاحا أسريا أيضا، مع زوجة مخلصة أنجبت له تسعة أطفال، إضافة إلى الثراء البالغ الذي حققه، والعيش في ضيعة واسعة قريبة من موسكو. إلا أن تولستوي، سيعيش انقلابا كليا في حياته. إذ سيبدو له أن كل شيء يتهاوى ويتلاشى من حوله. وتسيطر عليه فكرة أن كل شيء باطل يسير إلى الزوال: الناس إلى فناء. الأشياء تتحطم. الشهرة تنتهي. الأوقات الرائعة تنقضي. يقول تولستوي: «إن أعمالي العظيمة مهما كانت، سوف تنسى عاجلا أم آجلا ولن تبقى. ما هذه الضجة المثارة حولها؟» إذن لقد وصل تولستوي إلى التشاؤم وإلى حال من اليأس، ووصلت حياته إلى العدم. قدمت تجربة تولستوي، كي أبرز كم تصبح الحياة من دون قيمة، إن لم يكن هناك شيء ثابت. وإذا كانت الفكرة التي سيطرت على تولستوي حقيقة لا مرد لها، فكيف درب الإنسان نفسه على مواجهة زواله الحتمي، وتقبل فكرة أنه سيموت؟ فلنتأمل بعض الأجوبة.
* الدين ووعد الخلود
يعد الجواب الديني، من أقوى الأجوبة التي قدمت لمشكلة الزوال. أما لماذا ما تزال الأديان طاغية، وتستمر في جلب الأتباع.، فذلك لأنها قدمت وصفة لحيرة الفناء الإنساني، تتسم بالسهولة، ويمكن أن يتفق عليها العالم والجاهل معا.
بداية، لا يجعل الدين من التغير والتبدل في العالم الأرضي مشكلا. بل يعتبره من صميم الأشياء. فلا كمال إلا للسماء، وما دون ذلك مصيره التلاشي. فعلى المرء أن لا ينزعج إذن، وأن يتقبل الأمر بصدر رحب، فالحياة مجرد قنطرة عبور لحياة أخروية أبدية تنتظرنا. فجواب الأديان عن سؤال الموت، شديد الإغراء، ويوفر الهناء والطمأنينة، من خلال تقديمه وعودا بالبقاء ما بعد الموت، وهو يلبي طموح الخلود.
* الأبيقورية: الموت أفضل
الأبيقورية مصطلح مشتق من اسم الفيلسوف أبيقور (341-271 ق.م)، وهي مدرسته المعروفة باسم البستان، وتقوم فلسفتها على الفكرة التالية: تمتع بالحياة، وابحث عن اللذة، واهرب من المعاناة، لكن بعد تفكير، أي القيام بعملية حسابية يتم فيها تدبير الرغبة، بين جلب اللذة واجتناب الألم. بعبارة أخرى، بينما يسلك المرء دروب الحياة، عليه أن يطرح السؤال التالي: هل أبحث عن لذة قوية وهائجة وآنية، مغامرا بالتعرض للمعاناة فيما بعد؟ أم أعمل على تأجيل اللذة الآن، بأمل الحصول على سعادة أطول مدة، فيما بعد؟ الجواب هو: علينا أن نزن الربح والخسارة للخيارات الممكنة. إن الشخص الأبيقوري، هو طالب للذة بالفعل، لكن بوعي وحيطة كبيرين في الحياة. لأن اللذة التي تكون تحت سيطرتنا، هي وحدها الضامن لسعادتنا. فالسعادة لا تكمن في التخلي عن كل الرغبات، بل في حساب الرغبة بحيث يتم تحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة وأقل قدر ممكن من الألم. فكل رغبة تحقق لذة، فهي جيدة ومفيدة. وكل لذة تجلب ألما، يجب التخلي عنها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، على المرء أن يدرب نفسه على التنازل عن ملذات آنية وسريعة، إذا علم أنها ستؤدي إلى آلام أكبر، وفي الآن نفسه، عليه أن يتحمل ويكابد المشاق والمتاعب، إذا علم أنها ستؤدي به إلى لذة أعظم.
إن هذه النظرة للسعادة هي التي جعلت الأبيقورية تجيب عن سؤال الموت بتفاؤل شديد، وتماش مع فلسفتهم. فما دام الموت يبعد الألم مرة واحدة، فهو إذن مطلب لا يجب خشيته، بل هو أفضل الأشياء على الإطلاق.
* الرواقية: الموت لحظة اندماج
هي مدرسة عاصرت الأبيقورية وكانت منافسة لها. وهي ترى أن الحياة الخيرة تكمن في العيش في وفاق مطلق مع الطبيعة. فإذا كان المرء غير قادر على تغيير سنن الكون، فهو قادر على أن يتقبل بكل رضا، جميع ما يحمله له القدر. فلا مرض أو موت سيحزنه. ولا مصائب يخبئها المستقبل ستنغص عليه عيشه.
إن السعيد من وجهة نظر الرواقية، هو ذلك المرء الذي يحاول الانسجام، بل الاندماج مع قوانين الطبيعة، حتى التي تبدو قاسية كالموت مثلا. إنه ناموس طبيعي وإن كان يظهر أنه شر. فمقاييسنا عاجزة عن فهم أنه خير. وهو ما يجعل الرواقية تؤكد أن الشر مجرد نقص في معارفنا. لذلك ليس على المرء أن يسير ضد تيار سنن الطبيعة وإلا واجه الشقاء. فالشيء في حد ذاته ليس شريرا، بل نحن من نفكر أنه كذلك. فالحكيم من الناس إذن هو من يعرف هذا الأمر ويسعى إلى تنفيذه. فالحياة مثل مأدبة عامرة ونحن مدعوون إليها، وعندما ينادي الموت يجب أن ننصرف منها بكل أدب ولطف وهدوء. فلا داعي للحزن أو الجزع، وليس علي تعذيب نفسي إطلاقا. فكل ما هو مولود يجب أن يموت. إنه القانون العام، إنها سنة الطبيعة. فيجب أن أقبل الأمر بهدوء. فلأمت بسلام.
تخفيف الموت بالانغماس في الحاضر
يرى نيتشه (1844-1900)، أن الحل المقترح لسؤال التلاشي، ينبغي أن يكون من صلب الأرض، وأن لا يعلو أبدا على الحياة. فعندما يعيش المرء لحظة قوية وبحرية قصوى، أو عندما يحب بجنون، أو يبدع عملا، أو يكتشف مجهولا من العالم، فإنه يكون متصالحا مع الواقع، ويحس بما يسميه نيتشه «خفة الراقص»، إلى درجة أن المرء يتمنى استمرار هذه اللحظات إلى الأبد. فالرجاء في دوام لحظات الذروة، باعتبارها توافقا كاملا مع الحاضر دون قيود الماضي أو هواجس المستقبل، قمة الخلاص الإنساني. إذ يصبح الحاضر مستحقا وليس مجهضا، ويعاش كأنه بذرة من الأبدية. وهنا بالضبط، تزول المخاوف والحيرة من الموت. إذن التصالح مع الحاضر وملامسة تلك اللذة الأبدية، التي تصبح كالمطلق الذي نرجو إحياءه وإلى الأبد، هو العود الأبدي عند نيتشه. إن نيتشه ينشد أبدية ليست مثالية تجري بعد الموت، بل هي أبدية محايثة يمكن بلوغها. إنها الجنة الموعودة في الأرض. وربما هنا بالضبط، يكون نيتشه قد رهن الفكر، وخصوصا الغربي منه، في مزيد من اللائكية، بحيث جرى الترويج لإمكانية انبعاث الحياة الطيبة في هذه الدنيا، وليس تأجيلا لما بعد الموت.