تصور أنك تسمع السيمفونية السابعة المرحة الراقصة للموسيقار الألماني الكبير لودفيغ فان بيتهوفن وهو يقودها بنفسه لأول مرة في فيينا عام 1813، لكنك تجلس في مقعدك المريح بقاعة الموسيقى في سان دييغو، آخر المدن الأميركية قبل وصولك إلى المكسيك، يقودها قائد عالمي للأوركسترا من نيويورك يدعى آلان غيلبرت، وقد تقمص روح بيتهوفن في استخراج الألحان العذبة من مائة عازف محترف.
قدمت لنا جمعية لاهويا الموسيقية حفلة مدهشة برز فيها أقدم أوركسترا في الولايات المتحدة التي تصل حفلاتها وتسجيلاتها إلى 50 مليون متفرج ومستمع في العالم كل سنة. قائد الأوركسترا آلان غيلبرت ذو خلفية عالمية فهو من مواليد نيويورك عام 1967 من أبوين كانا يعملان قبله في هذه الفرقة الموسيقية عازفين للكمان، ووالدته أميركية من أصل ياباني، أما زوجته فهي سويدية تعرف عليها في ستوكهولم أثناء قيادته للأوركسترا الملكية السويدية، وسيتخلى غيلبرت عن منصبه في العام المقبل ليخلفه قائد جديد مقبل من هولندا، وهو ياب فان زويدن عام 2018.
قدمت أوركسترا نيويورك الفلهرمونية برنامجا دسما لموسيقى بيتهوفن في النصف الأول من الحفلة وموسيقي الفنان الفنلندي سيبيليوس في النصف الثاني. افتتح غيلبرت السهرة بموسيقى ايغمونت التي كتبها بيتهوفن تجسيدا لمسرحية غوته حول هذا البطل الهولندي في القرن السادس عشر الذي قارع المحتل الإسباني آنذاك. وتبع ذلك السيمفونية رقم 7 لبيتهوفن التي ألفها عام 1811 بعد احتلال نابوليون لفيينا وخيبة أمل بيتهوفن فيه، وقاد بنفسه الأوركسترا في حفلة خصصت للترفيه عن الجرحى النمساويين الذين قاوموا نابوليون. تعتبر هذه القطعة من أجمل ما أبدعه بيتهوفن لأنها تثير عاصفة من الابتهاج وتستوحي الرقصات الفرحة والإيقاع الواضح فلا يتراجع الرقص والإيقاع أمام المعالجة السيمفونية للموسيقى. وقد تقيد غيلبرت بهذا النهج والحيوية مثلما تصورهما بيتهوفن فكانت الأنغام تتطاير في الجو معبرة بعفوية كطوفان من المرح والسعادة لدرجة أن بعض الناقدين مثل الموسيقار فيبر وصف حماس القطعة في القرن التاسع عشر بأنه مقدمة لدخول بيتهوفن إلى مستشفى المجانين! لكن مصمم الرقصات موريس بيجار حولها إلى قطعة فريدة لرقص الباليه تألق فيها راقص الباليه الأرجنتيني المعروف جورجيه دود قبل وفاته عام 1992.
نالت السيمفونية السابعة نجاحا منقطع النظير من أول مرة، لأن بيتهوفن كان معروفا بقوة شخصيته وفرضه على القادة السياسيين احترام الفنانين، كما أن آراءه الثورية حول المجتمع وتطلعاته الرومانسية حول الموسيقى كانت تضمن له الإعجاب من جميع الطبقات، وكان يقول رغم الصمم الذي أصابه بعد الثلاثين من عمره: «أكتب ألحاني لأن ما في قلبي يخرج مني فأسجله تعبيرًا موسيقيًا».
اشتمل الجزء الثاني على السيمفونية السابعة لسيبيليوس تلتها قطعة معروفة لتمجيد الوطن بعنوان «فنلنديا». تختلف سيمفونية سيبيليوس التي لحنها عام 1924 عن سيمفونية بيتهوفن رغم أن المؤلف وصفها بأنها «تعبر عن فرحة الحياة والحيوية». لكنها اقتصرت على حركة واحدة بدل الشكل التقليدي المؤلف من أربع حركات، وتميزت بتناوب السرعة والبطء بشكل مبتكر يجمع بين ثلاثة ألحان متداخلة يصعب التفريق بينهم. تبهرك القدرة والنشاط الظاهر للموسيقى وتذكرك بملامح لموسيقى تشايكوفسكي وطريقة فاغنر المنسابة في توليد الألحان، وكأنها لن تتوقف أبدا لكن ما عكر صفو الاستماع لبضع لحظات هو عزف أحد الأبواق في الفرقة الموسيقية بشكل قوي ولافت أكثر من اللزوم، وهذه علة مستديمة في قسم الآلات النحاسية في عدد من الفرق الموسيقية الأميركية التي يطغى فيها صوت البوق على آلات الكمان. وقيل لنا فيما بعد إنه سيجري تغيير عازف البوق «الجريء غير المنضبط» بعد أشهر، باستبدال عازف جديد به.
اختتم الحفل بقطعة فنلنديا الحافلة بالمشاعر الوطنية والروح الحماسية والنغمات الشعبية ولشدة إعجاب الجمهور وتصفيقه المتواصل قرر غيلبرت إهداء المستمعين قطعة إضافية رائعة لسيبيليوس تعرف باسم «الفالس الحزين»، وهي تصور سيدة كبيرة في السن وهي تحلم في آخر أيامها بالذكريات الجميلة والرقص على أنغام الفالس. هدأت المشاعر المتأججة وخرج الحاضرون وهم أكثر إعجابا بموسيقى سيبيليوس وعزف أوركسترا نيويورك الفلهرمونية وطريقة غيلبرت البارعة في حفظ التوازن والجمال الموسيقي.
لماذا اختار غيلبرت برنامجا يجمع بين بيتهوفن وسيبيليوس؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال لكن أوجه الشبه بينهما، رغم اختلاف الشخصية، توحي بأنهما يعتزان بقوميتهما ويتشاركان بالروح الإنسانية العالمية واحترام المبادئ السامية، وما سمعناه يبين لنا تاريخ وتطور التأليف السيمفوني عبر القرون.
كان سيبيليوس أحد عمالقة الفن في القرن العشرين بابتكاراته وروحه القومية ولعله كان، بالإضافة إلى شوستاكوفيتش، آخر نجم متألق في عالم التلحين السيمفوني في القرن العشرين. كثر لا يعرفون أن سيبيليوس درس الحقوق إرضاء لأهله لكنه مارس التأليف الموسيقي منذ بلوغه سن العاشرة، وحاول طوال عمره لقاء موسيقاره المفضل براهمز الذي اتبع خطوات بيتهوفن في فيينا دون جدوى. كان يعتبر نفسه سفيرًا لبلده فنلندا لأنه مغرم بأساطيرها وحكاياتها وتاريخها «فكل شيء فنلندي مقدس بالنسبة لي»، كما يقول.
أما بيتهوفن فكان ثوريًا بامتياز في تطوير الموسيقى الكلاسيكية كما كان مدافعًا عن الحرية والقيم الأخلاقية في السياسة، وفرض نفسه بعبقريته وموهبته في التأليف الموسيقي، وعزف آلة البيانو فأصبح أهم موسيقار في التاريخ أيام عزه في فيينا، لكنه كان فظا في حياته الشخصية نتيجة قسوة والده عليه في الصغر، ويُروى أنه غضب ذات مرة على نادل في مطعم نمساوي جلب له صحنا من الطعام غير ما طلبه، فنهر النادل الذي أجابه بالطريقة الجلفة نفسها فما كان من بيتهوفن إلا أن قلب الصحن على رأس النادل!
8:20 دقيقه
السيمفونية الراقصة لبيتهوفن تستهوي الجمهور الأميركي
https://aawsat.com/home/article/668621/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%85%D9%81%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%AA%D9%87%D9%88%D9%81%D9%86-%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D9%87%D9%88%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A
السيمفونية الراقصة لبيتهوفن تستهوي الجمهور الأميركي
أوركسترا نيويورك الفلهرمونية تختتم الموسم الموسيقي على ضفاف المحيط الهادئ
آلان غيلبرت قائد اوركسترا نيويورك
- سان دييغو: عبد الرحمن البيطار
- سان دييغو: عبد الرحمن البيطار
السيمفونية الراقصة لبيتهوفن تستهوي الجمهور الأميركي
آلان غيلبرت قائد اوركسترا نيويورك
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

