فيلم تسجيلي ينفض الغبار عن سيرة مخرج هوليوود برايان دي بالما

يرفع التحية لمخرج قديم

من فيلم «الشرفاء» من بطولة كيفين كوستنر وشون كونري - «مهمة مستحيلة» حيث تعاون دي بالما مع النجم توم كروز - دي بالما وسط المخرجين نووا بومباك وجايك بولترو
من فيلم «الشرفاء» من بطولة كيفين كوستنر وشون كونري - «مهمة مستحيلة» حيث تعاون دي بالما مع النجم توم كروز - دي بالما وسط المخرجين نووا بومباك وجايك بولترو
TT

فيلم تسجيلي ينفض الغبار عن سيرة مخرج هوليوود برايان دي بالما

من فيلم «الشرفاء» من بطولة كيفين كوستنر وشون كونري - «مهمة مستحيلة» حيث تعاون دي بالما مع النجم توم كروز - دي بالما وسط المخرجين نووا بومباك وجايك بولترو
من فيلم «الشرفاء» من بطولة كيفين كوستنر وشون كونري - «مهمة مستحيلة» حيث تعاون دي بالما مع النجم توم كروز - دي بالما وسط المخرجين نووا بومباك وجايك بولترو

في الفيلم التسجيلي الجديد «دي بالما» يفتح المخرجان نووا بومباك وجايك بولترو صفحات من حياة ومهنة المخرج برايان دي بالما.. ذلك السينمائي الذي رصع السبعينات وما بعدها بأفلام كانت صوت المشاهد المثقف، سواء انتمت إلى المدرسة المستقلة أو إلى المؤسسة الهوليوودية. ‬
مثله في ذلك مثل فرنسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي وكلينت إيستوود ووودي ألن وجون كاربنتر من المخرجين الذين ظهروا في أواخر الستينات ولمعوا في السبعينات، وأكدوا ملكيّتهم بوصفهم سينمائيين أميركيين ذوي منحى فني خاص فيما بعد. يختلف عنهم أنه كان أكثر انتقالاً، خلال عقود سينمائيته، بين المدرسة المستقلة وتلك التابعة للمؤسسة الهوليوودية، لكنه - ومثل كوبولا في هذا الصدد - عامل المدرستين المعاملة الفنية ذاتها، تاركًا بصمته الخاصّة عليهما بالتساوي. ‬
هو مرتاح في غمار أعماله التي لم ترعها، مباشرة على الأقل، شركات كبرى، كما هي الحال في فيلميه «شبح الأوبرا» (1974) و«كاري» (1976)، كما في أفلامه المنتمية مباشرة إلى جمهور السينما السائدة مثل «الشرفاء» (The Untouchables)، و«ذو الوجه المشطوب» (Scarface)، و«مهمّة: مستحيلة» (Mission: Impossible). هذا الأخير كان الأساس الذي بنيت عليه الحلقات السينمائية المتوالية كلها، وهو، لليوم، أفضلها في أكثر من جانب واعتبار.‬
* شقيقتان وجريمة‬
الفيلم الجديد «دي بالما» يؤكد هذه الاستنتاجات، ومعها حقيقة أن المخرج إذ انطلق من سينما الرعب (ولو أن أفلامه التجريبية الأولى لم تكن كذلك) لوّن اتجاهاته الفنية بين التشويق والحربي والأكشن والخيال العلمي والتحري وتعامل جيّدًا مع أبطاله رجالاً كانوا أم نساءً.‬
وُلد دي بالما في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) سنة 1940. والده كان جرّاحًا وإلى أي مدى ارتبطت سكين الجراحة ونصلها الحاد والنحيف بأفلام الابن التشويقية، الأولى أمر غير معروف، لكن المؤكد أن دي بالما مال إلى السينما منذ سن مبكرة، ولو أنه كان يدرس العلوم الفيزيائية آنذاك. في سن العشرين أخرج فيلمه الأول بعنوان «Icarus». ذلك كان الأول في سلسلة أفلام قصيرة حققها تباعًا حتى عام 1968، عندما أتيحت له فرصة إخراج فيلمه الروائي الطويل الأول تحت عنوان «جريمة على الموضة» Murder à la Mod. ‬
في ذلك الفيلم، كما في أفلامه اللاحقة في تلك الحقبة، مال دي بالما للجمع بين حدث يتعلق بجريمة قتل ومواقف كوميدية وأسلوب عرض لا يخلو من بذور السينما التجريبية. هذا واضح في «تحيات» و«حفلة العرس» و«هاي موم» على وجه التحديد (من أصل خمسة أفلام حققها ما بين 1968 و1972). ‬
في سنة 1973 وقف فعلاً على قدميه بوصفه مخرجا ملتزما بنص محدد هو نص الفيلم الجامع بين التشويق والرعب. فيلمه الأول في هذا الاتجاه هو «شقيقتان»:‬ الممثلة مارغوت كيدر (لاحقًا الصحافية في فيلمي «سوبرمان» الأوليين) تؤدي دور شقيقتين توأم واحدة عاقلة والأخرى مجنونة كانت أودعت، حسب رواية الأولى، في مصح. شاب يتعرّف على دانيال العاقلة وتدعوه إلى شقتها وتخبره هناك أن المصحة ستفرج عن شقيقتها دومونيك ليوم واحد غدًا بمناسبة عيد ميلادها. الشاب فيليب يقرر شراء قالب حلوى كبير للمناسبة. دومونيك تدخل وتتناول السكين الكبير وتطعن فيليب عدة مرّات وتقتله.
راقبت المشهد صحافية اسمها غرايس (جنيفر سولت) من شقتها المقابلة. اتصلت بالبوليس والبوليس أتى وفتش ولم يجد جثّة ذلك، لأن دانيال اتصلت بزوجها السابق (ويليام فينلي)، وأخبرته ما حدث ومعًا قاما بتنظيف الشقة. ما يحدث بعد ذلك هو توجيه المشاهد لبحر من اللايقين: هل هما شقيقتان فعلاً أو أنهما شخص واحد مصاب بالانفصام؟ هل تستطيع الصحافية إثبات شيء ما أو ستنتهي مجنونة؟ ماذا عن التحري الخاص (الراحل تشارلز دارنينغ) الذي تابع القضية؟
كتب الموسيقى برنارد هرمان، الذي وضع موسيقى عدة أفلام لألفريد هيتشكوك، لكن الرابط الهيتشكوكي لا ينتهي هنا: هناك لمحة من «سايكو» متمثلة بالشخص المصاب بالشيزوفرينيا الحادة ومنوال ازدواجية الشخصية بين الخير والشر، وهناك فعل البصبصة من شقّة إلى أخرى كما في «نافذة خلفية». حتى في التفاصيل: حين تسأل دانيال شقيقتها (غير الموجودة معها) وقد اكتشفت الجريمة الأولى «ماذا فعلت؟» يتردد الصدى وصولاً أنطوني هوبكنز وهو يركض صوب جانيت لي المقتولة ويسأل أمّه (الوهمية) السؤال ذاته: «ماذا فعلت؟». هذا لن يكون الفيلم الوحيد الذي عبّر فيه دي بالما عن حبّه العميق لأسطورة ألفريد هيتشكوك. ستتجلى هيتشكوكية دي بالما في أكثر من فيلم لاحق. يمكن أن نجدها في «هوس»، حيث كليف روبرتسون مهووس بامرأة (جنيفييف بوجولد) تشبه زوجته الراحلة (تنويعة على «فرتيغو» لهيتشكوك مصحوبة أيضًا بموسيقى من هرمان). سنرى تماثلات وتأثرات أخرى في «كاري» (1978)، و«انفجار» (1981)، خصوصًا في «جاهز للقتل» (1980)، حيث عاد إلى منوال القاتل ذي الشخصية المزدوجة، كما أداها مايكل كاين متخفيًا في زي امرأة حين يقتل.
* الفترة الهوليوودية
ومع أن دي بالما قام سنة 1983 بالخروج كليًا من هذا المدار بتحقيقه أول فيلم كبير له، وهو «الوجه المشطوب»، إلا أنه عاد إليه مرّة أخرى في العام التالي عبر فيلم «جسم مزدوج». لكن الانحراف نحو سينما خاصّة به بدأ فعلاً في «الوجه المشطوب» الذي قام آل باتشينو ببطولته (أمام ميشيل فايفر) لاعبًا شخصية مهاجر لاتيني ترعرع في عالم المخدرات والجريمة ومات بهما. الفيلم كان عرضًا تقدّمت به شركة «يونيفرسال»، فحواه إعادة صنع فيلم بالعنوان نفسه قام هوارد هوكس بإخراجه سنة 1932.
بناء على نجاح هذا الفيلم طلبته باراماونت لتحقيق «الشرفاء» (The Untouchables) سنة 1987 المقتبس عن تلك الحلقات البوليسية التلفزيونية بالعنوان ذاته التي قاد بطولتها روبرت ستاك (في دور تحري الـ«إف بي آي» العنيد إليوت نس) في الستينات. دي بالما صنع فيلمًا جميلاً من بطولة كيفن كوستنر وشون كونيري مليئا بالمشاهد الكلاسيكية مثل مشهد المطاردة فوق السطوح بين نس (كوستنر) وعدوّه الشرس وقاتل صديقه فرنك نيتي (قام به بيلي دراغو)، ومثل مشهد مقتل شون كونيري قبل ذلك، والمشهد المأخوذ بنفس جديد من «المدرّعة بوتمكين»، حيث عربة أطفال تتدحرج على سلم محطة القطار العريض في وسط معركة مسدسات. في فيلم «آيزنشتاين» هناك قتل السلطات للمتظاهرين ومحاولة أم التقاط العربة التي أفلتت من يدها خوفًا على طفلها.
مع نجاحه الثاني هذا تدافعت العروض الكبيرة: «خسائر حرب» لـ«كولومبيا» (1989)، «شعلة الغرور» لـ«باراماونت»، ثم «طريقة كاريلتو» (من بطولة باتشينو أيضًا) لـ«يونيفرسال» (1993) وبعده «مهمة: مستحيلة» لـ«باراماونت» (1996)، ثم «رحلة إلى المريخ» لـ«ديزني».
خلال هذه الفترة النشطة، عاد دي بالما إلى أفلامه الخاصّة التي عكست أكثر من سواها في بعض الأحيان، وجهات نظره في الحياة والموت والرجل والمرأة. فأفلام دي بالما تتطرق دومًا إلى عصر معاش يتألّف من سمات بشرية وتكنولوجية تبدو الأخيرة أكثر سيطرة على منهج حياة الناس. وهذا معبّر عنه بأبسط قدر من المشاهد أحيانًا (الممثل تشارلز دارنينغ معلق ينتظر مخابرة لن تصل في «شقيقتان») وفي أعلى قدر من التعقيد أحيانًا أخرى (كما في «منقح» Redacted فيلمه الخاص بحرب العراق، 2007).
* ما وراء هيتشكوك
دي بالما مخرج يتعاطى والهويات. ولعل مضيه في بعض أفلامه بوضع الإنسان في شبكة العصر هو جزء من هذا البحث عن الهوية. لكنه ليس الجزء الوحيد. كل تلك الأفلام التي تدور حول ازدواجية الشخصيات في الأفلام الآنفة الذكر (وفوقها «المرأة الطاغية»، 2003 و«الداليا السوداء» 2006، ثم فيلمه الأخير حتى الآن «شغف» 2012) تتعامل وشخصيات مزدوجة كل منها بحاجة نفسية وعاطفية للآخر. في «كاري» (وحسب وصفة الروائي ستيفن كينغ) هناك الفتاة العادية التي تنقلب إلى مشعلة نار بمجرد النظر إلى ما تريد حرقه. قبل ذلك في «جاهز للقتل» هو الرجل (مايكل كين) الذي يحتاج إلى نصفه الأنثوي (كما احتاجه أنطوني بركينز في «سايكو») ليرتكب جريمته عبره. وفي «شقيقتان» تتناصف المرأتان شخصية واحدة كل منهما تحتاج إلى الأخرى لحد المشاركة في القتل.
هذا التعاضد نرى وميضًا منه في المشهد الذي تتبادل فيه أنجي ديكنسون في «جاهز للقتل» وقد قام كاين بقتلها وبدأت تشرف على الموت، النظر إلى الفتاة الأصغر منها (نانسي ألن) كما لو كانت تودعها روحها.
ما كان يزعج دي بالما، ولا يزال، هو الربط الدائم بينه وبين هيتشكوك، لدرجة أنه نبّه ذات مرّة أحد الصحافيين بصوت لا يخلو من الغضب بأن «فترة هيتشكوك مضت. هناك فترة ما بعد هيتشكوك وهذه هي الحاضرة.» دي بالما كان انتقل من الثمانينات وصاعدا متجاوزًا ذلك التأثير المباشر لهيتشكوك عليه، لكن العالق في أذهان كثيرين بقي ذلك التأثر البيّن في أعماله الأسبق. هذا الشأن ربما كان له تأثيره على عدم رغبة كثير من نقاد الغرب اعتبار دي بالما مخرجا أساسيا مثل باقي أترابه من الفترة ذاتها. وهذا بدوره أدّى إلى عدم إعطائه القدر الذي يستحقه من اهتمام وتقدير رغم أن كثيرا من أفلامه هي أكمل فنًا وأثرى أسلوبًا وتجارب بصرية من معظم العاملين في هوليوود خلال السنوات الخمسين الماضية.
فيلم ‫نووا بومباك وجايك بولترو‬ التسجيلي المعروض بنجاح في صالات متخصصة في الولايات المتحدة، يسهم في نفض الغبار عن المخرج وأعماله. الفكرة راودت المخرجين منذ سنوات، تعرفا خلالها على دي بالما من بعد أن خبرا أفلامه وأدركا قيمتها. وما لاحظاه هو ذلك الانتقال عبر ردهات العمل السينمائي من مخرج أفلام تجريبية قصيرة وطويلة إلى أفلام مستقلة ثم إلى أفلام كبيرة وفرت لها هوليوود إمكانياتها الكبيرة.
الحال أن دي بالما قدّم أفلاما جيدة في كل مرحلة من هذه المراحل. في الوقت ذاته، تستطيع أن تدرك تميّزه بمجرد مقارنته بأترابه: سكورسيزي وكوبولا وسبيلبرغ وإيستوود، إذ إن التفاوت شديد بين كل واحد من هؤلاء والآخر، وبالتالي بينه وبين الباقين من مخرجي الفترة ذاتها.
أقرب هؤلاء إلى دي بالما كان مارتن سكورسيزي، إذ إن كليهما انطلق بمجهوداته الصغيرة وحافظ عليها ردحًا طويلاً. كوبولا بدأ بهذا الحجم، لكن سريعًا ما استوى على هرم شاسع ولو إلى حين، في الوقت الذي استفاد فيه إيستوود من حجمه نجمًا سينمائيًا، وانطلق سبيلبرغ مباشرة صوب النظام الهوليوودي دون توقف.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».