مارلون براندو.. غموض الأدوار والشخصية.. والحياة

عد كل حياته محاولة للبحث عن الحب

مارلون براندو في فيلم «العراب»
مارلون براندو في فيلم «العراب»
TT

مارلون براندو.. غموض الأدوار والشخصية.. والحياة

مارلون براندو في فيلم «العراب»
مارلون براندو في فيلم «العراب»

في 3 أبريل (نيسان) 1924 ولد أكثر الممثلين الأميركيين إثارة للجدل، وإحدى أيقونات السينما في القرن العشرين: «مارلون براندو»، المنحدر من أصول آيرلندية. تكوّنت شخصيته على وقع الجدل حول الأديان والأفكار والتيارات والسياسات. يعد من نقاط التحوّل السينمائية على مر تاريخ السينما. وهو من خلال أفلامه يختار الشخصيات المركّبة المعقّدة التي لا تكون مباشرة في معانيها وملامحها وسياقاتها. ارتبط اسمه بانتقادات لليهود، ولتعامل الولايات المتحدة الأميركية ضد الهنود الحمر، وبالوقوف ضد هوليود في رسم صورة مجحفة بحقّهم. من بين أكثر الشخصيات الشائكة التي مثّلها دوره في شخصية «الدون فيتو كارليوني» في فيلم «العرّاب The Godfather» وهي الشخصية التي سأقاربها في هذه المساحة. وهو الفيلم المثير للجدل منذ إنتاجه عام 1972. والمصنّف على أنه في المركز الثاني ضمن أعظم فيلم في السينما الأميركية بحسب معهد الفيلم الأميركي.
بقيت الصورة السينمائية بمشهديّتها وسيولتها البصرية تحشد كل إمكاناتها بغية دغدغة الوجدان لتفعيله ضمن مساراتٍ متعددة، ضمن مجالات الحب والجريمة، العنف والتسامح، التوثيق والإيهام، الخير والشر، البدايات والنهايات. وهي بهذا تجتثّ الصور لتضعها في سياقٍ ما ضمن أحداثٍ لا تلبث أن تخاطب أعماق الإنسان. في مجال الشرّ الذي يتنازع على مفهومه فلسفيا ضمن التحولات والإخفاقات تعيد السينما تلك الإشكالية عبر وضع الشر في موضع الخير، ووضع الخير في موضع الشر. سرّ عجيب أن يعجب المشاهد لشخصيّة مافيوية في الفيلم القديم «العراب» هذه الشخصيات تبثّ شيفرات هائلة ومخيفة.
شخصية «مارلون براندو» المركّبة في بطولة الفيلم، بقطّته الأليفة، والوردة التي تزيّن قميصه، والصوت الهادئ، والحماية المطلقة للعائلة توضّح مستوى الغموض في مجال تحديد «الشرّ المحض» المفهوم الذي وضعه معيارا للاستراتيجية البشرية والدولية الباحث مطاع صفدي في كتابٍ يحمل نفس الاسم. يكتب نيتشه في ضمن هذا الإشكال: «إن الشرّ الأعظم لضروري للخير الأعظم بين الناس، إن الشر الأعظم لخير ما في قوة الإنسان لأنه الحجر الأشد صلابة لنحت المبدع، وعلى الإنسان أن يتكامل في خيره وفي شرّه». موسيقى الفيلم للإيطالي: «نينو روتا» التي حازت على الأوسكار تبعث الخوف والغموض في قلب المشاهد، إنها بمستوى العنف الذي تختزنه مقطوعة: «ذا فالكيري» لريتشارد فاغنر، والتي ألهمت نيتشه، واستعان بها هتلر وخلع اسمها على قوة طوارئ خاصة تابعة للجيش النازي.
تقلق الشيفرة السينمائية، برسالتها الرمزية التي لا تدلّ مباشرة على المعنى كما تفعل الدلالة اللسانية. في الفيلم آنف الذكر يكون المشاهد تلقائيا ضمن عائلة «دون كارليوني» وضمن شخصيّته حين يقيم العدالة في ظلّ انهيار القضاء وفساد الشرطة، وتكون العصابة حاكمة مطلقة، وبشخصيته ورسم وجهه يحاول أن يسأل عن موقع الشر في كل الذي يعمله، فهو يحقق مصالح عائلته المقدّسة. وبينما تقام أعنف حالات القتل، تدار الحفلات الراقصة. لا يبثّ الفيلم رسالة دلالية بقدر ما ينثر إشكاليات بصرية ووجدانية. السلوك الذي يمارسه العرّاب يذكرنا بدور «الإنسان الأعلى» الذي بشّر به زرادشت نيتشه حين كتب: «تقولون إن الغاية المثلى تبرر الحرب، أما أنا فأقول لكم إن الحرب المثلى تبرر كل غاية، فقد أتت الحروب والأقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس. إن المحارب الصادق يفضل ما يجب عليه فعله على ما يريده».
استعيدت هذه الشخصية الطاغية ضمن صيغٍ سياسية، حيث دموع «ستالين» ودموع «صدام حسين» وهو يعدم أحد أقاربه، والعصابات التي تتحالف وتتحارب في لبنان. شكّل هذا الفيلم مسارا ودليلا لبث الرعب والهلع، وبقي يعرض في العراق أيام صدام حسين طويلا، ورأى فيه الكاتب اللبناني سمير قصير في مؤلفه: «ربيع سوريا واستقلال لبنان» شارحا للوضع السياسي في سوريا ولبنان على حدٍ سواء عبر جملة «العراب» الشهيرة: «قدّم له عرضا لا يستطيع رفضه». هذه العبارة التي ما إن يستمع إليها أحد إلا ويعرف أن اليد تستطيع أن تصل إليه. شخصيّته لم تكن ضمن مجال الشر المحض الواحد، وإنما ضمن مزج النتائج الخيّرة للأفراد المتضررين عبر فعل الشر بالأشخاص المتورّطين، هكذا هي شخصيته التي تعيش الطغيان ببساطة، وبينما يشتري الخضار في الشارع تتم محاولة اغتياله وبيده كيس من البرتقال.
في دراسته عن السينما يكتب الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز: «إن الغرائز والأجزاء المتقطعة تلتقي هنا لتكون كلا يلم أطراف ما تبعثر وانفصل وكأنه عبارة عن حظيرة نفايات وفضلات أو مستنقع ترمى فيه الأجزاء المتقطعة، هذه هي غريزة الموت إنها عبارة عن نهاية العالم أو هي بدايته، إنها العمق السحيق للكون». تتشظّى الشخصية السينمائية ضمن خبرات الوجود التي تعيشها وتمارسها. الشخصية المركّبة تنفي «الدلالة المحضة» بل تجعلك ضمن تناقضاتٍ كثيرة، وهذه طبيعة الفنّ الذي رأى فيه جيل دلوز أنه لا يصبح فنا إلا إذا أتاح القيام بعملية ترحيل أو خروج عن الإطار التقعيدي أي إذا رسم خطوطا للإفلات.
تثير شخصية براندو في الفيلم ترسانة من حالات الترحيل للمشاعر والغرائز، ونفيا للقواعد، وتركيبا لمشتت، وتقسيما للمركب، إنه شخصية «لاعبة» ضمن طبقات مشاعر الإنسان بكل خلجاته، لهذا كان دوره استثنائيا. لفعله الخارق في تاريخ السينما أكبر الأثر الذي لا يزال ماثلا حتى بعد وفاته في 1 يوليو (تموز) 2004. وفي فصولٍ من مذكراته: «أغنيات علمتني إياها أمي» يقول: «أفترض أن قصة حياتي هي بحث مستمر عن الحب، ولكن أكثر من ذلك، ففي حقبة الخمسينات كنت أنموذجا للتمرد والثورة على الطريقة الهوليودية».



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.