مثقفون وإعلاميون عراقيون نعوا «شيخ الخطاطين»

رحيل الصكار مبتكر الحروف الطباعية لأجهزة الحاسوب

محمد سعيد الصكار
محمد سعيد الصكار
TT

مثقفون وإعلاميون عراقيون نعوا «شيخ الخطاطين»

محمد سعيد الصكار
محمد سعيد الصكار

نعت الأوساط الفنية والثقافية والإعلامية في العراق وفاة الشاعر والخطاط العراقي (شيخ الخطاطين) محمد سعيد الصكار، يوم الاثنين، الماضي في العاصمة الفرنسية باريس، حيث كان يرقد في أحد مستشفياتها عن عمر ناهز الثمانين عاما. وكان الصكار قد كرم من قبل المعهد العالم العربي في باريس مؤخرا، ورغم آلامه وتحذيرات أطبائه من صعوبة ترك مشفاه في فرنسا، فإن الصكار حضر يوم تكريمه وهو على كرسيه المتحرك.
ويعتبر الصكار من أبرز المبدعين العراقيين، ومن الأسماء الثقافية العراقية الكبيرة، إذ أصدر أكثر من 14 كتابا في الشعر والتشكيل والمسرح والقصة القصيرة والدراسات اللغوية والفنية وغيرها، وترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والدنماركية والإسبانية والبلغارية والكردية وغيرها.
ومن إبداعاته الفنية المميزة «أبجدية الصكار»، وهي استخدام الخطوط العربية في الطباعة الإلكترونية، ونال عنها براءة اختراع في حينها. وهو رسام أيضا، وعُرض له أكثر من 30 معرضا تشكيليا في عدد كبير من دول العالم.
عن رحيل الصكار ورحلته الفنية والأدبية، يقول الأديب فاضل ثامر، رئيس اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «كان الشاعر والخطاط والمصمم والإنسان محمد سعيد الصكار يمثل بالنسبة لي رمزا مهما من رموز الثقافة العراقية، وصديقا تعرفت إليه منذ الستينات، وكانت السجالات متواصلة بيننا طيلة الوقت الماضي، وكنت متابعا لتجربته الشعرية المبكرة عندما شكل مع عدد من الشعراء تجمعا شعريا في زاوية من زوايا اتحاد الأدباء حمل اسم (المرفأ)، وضم شعراء بارزين أمثال رشدي العامل وسلمان الجبوري وحساني علي الكردي، وانضم بعدها إليهم الشاعر سعدي يوسف. وكان التجمع يمثل مشتركات شعرية وفنية من خلال التأكيد على الملامح الغنائية في الشعر بنزعة رومانسية شفيفة، وفي الوقت ذاته نزعة تسير باتجاه الحداثة الشعرية التي كانت قد توطدت منذ 50 عاما من تجارب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري».
وعن ذكرياته مع الراحل الكبير، يقول «الصكار شرفني بتصميم كتابي الأول (قصص عراقية معاصرة) التي كتبتها بالاشتراك مع الناقد الكبير ياسين النصير، ثم تواصلت متابعاتي له وهو يقوم بتصميم مجلة ألف باء (المجلة الأولى في العراق في زمن النظام السابق) في سبعينات القرن المنصرم، وكنا وقتها نتبادل الآراء في مفردات التصميم الأساسية، إذ كنت مولعا وقتها بالخط والتصميم».
ومن بين أهم ما تميز به الصكار، والحديث لفاضل ثامر، هو «المزاوجة بين الرسم والحرف العربي بتشكيلات حروفية لونية جذابة جعلته يمثل امتدادا متطورا لمدرسة الحرف الواحد التي تأسست في السبعينات بمبادرة من الفنان شاكر حسن آل سعيد، وانضم لها عدد كبير من الرسامين آنذاك، منهم ضياء العزاوي وجميل حمودي، وعدت من أقدم مدارس التشكيل آنذاك».
بدوره، يقول الفنان والمصمم فلاح الخطاط «إن الصكار يعد واحدا من أبرز القمم الإبداعية في العراق والعالم، كونه فنانا متعدد المواهب ومثقفا كبيرا، فضلا عن نبوغه الشعري ومكانته في الخطوط العربية التي بدأت في سن مبكرة عندما كان طفلا يلعب مع رفقائه في مدينة الخالص، ومن ثم في محلة الصابئة، ومحاولاته التعبير عن مواهبه بالكتابة على جدران البيوت وإسفلت الطريق بالفحم تارة والطباشير تارة أخرى». ويضيف الخطاط «في عام 1956 دخل عالم الصحافة ومارس الخط مع من سبقوه وبرعوا في احتكار الخط وحفر المانشيت الصحافي، وهم كل من صادق الصائع وكريم سلمان والمقدادي وغازي الخطاط».
ولعل أهم ما يميز الصكار كما يقول الخطاط أنه «قبل نحو أربعين عاما أعلن مشروعه المهم (الأبجدية العربية المختصرة) التي أثارت يومها ضجة في الأوساط الثقافية والفنية والطباعية لما تمثله من فرادة وكسر لقيود الحرف الطباعي والتي استثمرتها بعد ذلك شركات تصنيع الحرف الطباعي ووظفتها لأجهزة الحاسوب وكانت تجربة عراقية بامتياز». وهي التجربة التي تبنتها بعد ذاك جريدة «الثورة» عام 1974، الأمر الذي حفز آخرين للخوض في التجربة ذاتها، إذ قدم الفنان ناظم رمزي مجموعة تجارب مماثلة استخدمت في مجلة «آفاق عربية»، ومحاولة الفنان الراحل سامي العتابي التي استخدمها في جريدتي «طريق الشعب» و«الفكر الجديد».
ومن مساهماته المهمة أيضا تصميمه لأغلب المجاميع الشعرية والقصصية التي صدرت في فترة الستينات والسبعينات وكانت مختلفة عن التقليد الذي كان متبعا آنذاك. واختتم الخطاط بالقول «لوحات الصكار تميزت بكونها لم تلتزم بقواعد الخط التقليدية الصارمة، كما أنها لا تتجاوزها، بل يرجع ذلك لوعيه وثقافته بالفنون المجاورة للخط من العمارة والتصميم، ولطالما ردد الصكار مقولة مهمة وهي (حبري أسود فلا تطلبوا مني أن أرسم قوس قزح).. وله أقول إن أسودك أيها الفنان الكبير أمتع الناظرين أكثر من كل ألوان قوس قزح».
أما الصحافي فائق بطي، فقد قال خلال جلسة احتفائية بالصكار «محمد سعيد الصكار قامة كبيرة، أعطى كل ما عنده للعراق، ولم يغب العراق عن باله لحظة واحدة. التقينا في باريس قبل سنوات وكان يبكي لأنه بعيد عن هذا الوطن.. بعيد عن البصرة، وبعيد عن بغداد.. وبقينا لسنوات طوال ونحن نتسامر ونكتب ونقدم وننتج تاريخ العراق تاريخا بأحرف من نور.. أستطيع أن أقول عن الصكار إنه شاعر الحرف والألوان، بديع في كلامه، بديع في نثره، شفاف في قصائده».
ولد الصكار في قضاء شهربان بالمقدادية في محافظة ديالى عام 1934، ومارس العمل الصحافي تحريرا وتصميما وخطا منذ 1955، كما أسس وأدار أربعة مكاتب للإعلان في البصرة وبغداد وباريس التي استقر فيها منذ عام 1978. وشارك في العديد من الندوات الشعرية والمؤتمرات الأدبية والفنية في العراق وخارجه، ونشر الكثير من المقالات في النقد الأدبي والمسرحي والسينمائي، كما قدم استشارات خطية وزخرفية لعدد من المؤسسات والمكاتب المعمارية في بلدان مختلفة. من دواوينه الشعرية: «أمطار» 1962، «برتقالة في سَوْرة الماء» 1968، «الأعمال الشعرية»، ومجموعة شعرية باللغة الفرنسية 1995. ومن مؤلفاته «الخط العربي للناشئة»، و«أيام عبد الحق البغدادي».
وقد حصل على جائزة وزارة الإعلام العراقية لتصميم أحسن غلاف 1972، وجائزة دار التراث المعماري لتصميم جداريات بوابة مكة 1988.



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»